الجمعة، 1 مارس 2024

الظاهرون على الحق

 

خاطرة الجمعة /436

الجمعة 1 مارس 2024م

(الظاهرون على الحق)

 

يقول أحد الدُعاة السعوديين: قبل عدة سنواتٍ كنتُ في رحلةٍ إلى «قرقيزيا» إحدى جمهوريات «الاتحاد السوڤيتي» سابقاً، وتقع على حدود «الصين». دُعيتُ إلى زيارة شيخٍ كبيرٍ تجاوز السبعين ربما، كان داعيةً من الجيل الأول، وكان يتكلم العربية الفُصحى بلكنةٍ أعجميةٍ، إلا أنه ضليعٌ في علوم الشريعة، وذو باعٍ طويلٍ في الدعوة والإصلاح. كانت ضيافته كريمةً، رحب بنا وأعد لنا وليمةً، وحاول تدريبنا على أكل الأرز بالأعواد الصينية، فكانت لا تعلق بأعوادنا إلا الحبة والحبتان بعد عناءٍ، ثم تسقط في الطريق فلا تصل إلى أفواهنا إلا الأعواد الخالية؛ حتى اضُطررنا لاستخدام الأيدي النجدية المحترفة في التعامل مع الأرز!

انساب الحديث عذباً شيقاً مع هذا الشيخ الكريم عن جهودهم الدعوية، وجهادهم الإصلاحي الطويل. وتحت ضغط الفضول العارم سألته: "يا شيخ؛ كيف درستَ كل هذه العلوم، وكوّنتَ كل هذه الحصيلة العلمية وقد كنتم إلى عهدٍ قريبٍ في «قرقيزستان» تحت الحكم الشيوعي الغاشم الذي كان يقتل من ينطق العربية، أو يتسمى باسمٍ إسلاميٍ، فضلاً عمّن يُمارس شعائر الإسلام الظاهرة، وأنت يا شيخ وُلدتَ ونشأتَ تحت هذا الحكم، عشتَ صدر حياتك تحت هذا النظام الشرس الذي انتهز فرصة سقوط الخلافة الإسلامية فطمس كل مظاهر الإسلام، وأعدّم من المسلمين ما يزيد عن عشرين مليون مسلمٍ، وفرض الإلحاد؛ فلم يترك للمسلمين أية فرصةٍ لممارسة شعائر دينهم، فضلاً عن العمل في ميدان الدعوة والإصلاح؟!"، تبسَّم الشيخ الكبير، ورفع صدره إلى الأعلى وكأنه يستنشق رائحة الظفر بعد الصبر، والانتصار بعد الانكسار، والفرج بعد الشِدّة والكَرب، وقال: "نعم كنّا تحت حُكمهم لكن لم نستسلم لهم! كنّا أقوى منهم بإيماننا وإصرارنا وقدرتنا على التكيّف؛ كان آباؤنا يحفرون أنفاقاً تحت الأرض على عُمقٍ بعيدٍ، وهذه الأنفاق تُفضي إلى أقبيةٍ وإلى فصولٍ ومدارس تستوعب عشرات وربما مئات الأطفال، كلها تحت الأرض! كنا نحن (الظاهرون على الحق) وكان الوالدان المسلمان إذا بلغ طفلهما الخامسة من عمره، تسللوا به في جُنح الظلام وساروا بحذرٍ خلف مُرشد المدرسة حتى يبلغ الطفل فوهة النفق -وعادةً ما تكون هذه الفُوهة في حُجرةٍ من بيت ٍمهدومٍ أو خربةٍ مهجورة- وهنا تستلمه إدارة المدرسة، وتُدخله النفق لينضم مع رفاقه تحت طباق الأرض، ليغيب لمدة سنتين أو ثلاثٍ، لا يظهر، ولا يتصل ولا حتى بوالديه، لكنه يخرج وقد حفظ القرآن الكريم أو أكثره، ومِن الحديث الشريف ما قُدِّر له، ومِن علوم العقيدة والفقه واللغة العربية، وربما عاد مرةً أخرى ليكمل دراسته وتعليمه!". سألتُ الشيخ عما درَسوه في اللغة العربية مثلاً؛ فقال: "حفظتُ ألفية ابن مالك!"، ثم تحامل على نفسه ونهض مُتثاقلاً إلى كُوّةٍ في الجدار، ومدّ يده النحيلة إلى كتابٍ مُتهالكٍ فيها؛ فجاء به وفتحه أمامي، فإذا هو نسخته الخاصة من "شرح ابن عقيل"! كنتُ مأخوذاً بالدهشة والعَجب البالغ من شيءٍ أراه بعينيّ، وأسمعه بأذنيّ، لو حكاه لي الثُقاة لشككتُ في صحته؛ فقد كانت الشيوعية جاثمةً بكل جبروتها وعَسفها وقسوتها على الناس، حتى ظنتُ أنها قد قدرت عليهم وقطعت صلتهم بالإسلام؛ لكنّ جيلاً كان يترعرع تحت الأرض، ويتشرب الإسلام من مصادره "الكتاب والسُنة"، ويتضلع من أعمق وأجمع مراجع الشريعة واللغة العربية. كان تحت الأرض دعاةٌ ومصلحون نذروا حياتهم لله؛ فغابوا في جوف الأرض حيث لا شمسٌ ولا هواء، ولا لهوٌ، ولا لعب.. وإنما عملٌ شاقٌ مُضنٍ وخطير، ثمنه حياة أحدهم ومَن معه لو افتُضح أمره! كانوا يبنون جيلاً جديداً في أقسى ظرفٍ يُمكن أن يمر به مجتمعٌ، فما يئسوا، وما ضعفوا، ولا استكانوا، ولا ألقوا السلاح، وما خضعوا لواقعهم المتوحش، ولا استرهبتهم سطوته، فلما سقطت الشيوعية وطوتها سُنّة الله خرجت طلائع ذلك الرعيل إلى الشمس لتُعيد البلاد إلى هويتها، والعباد إلى دينهم، فما هي إلا بضع سنواتٍ حتى كانت حواضر تلك الولايات الشيوعية سابقاً تضج بالأذان والصلاة من مساجدها التي لا تُحصى، وبأئمتها ودعاتها الذين نبتوا في تلك السنوات العِجاف، وفِي أعماق الأرض! وكان (الظاهرون على الحق) هم المنصورون.

 

أحبتي في الله.. علّق الداعية السعودي -كاتب هذه القصة- بالقول: إنّ هذا الدين مكينٌ، راسخٌ، أنزله الله ليبقى ولينتصر، ولن تطمسه أية قوةٍ مهما بلغت قدرتها وشراستها؛ لكن قد يُبْتَلى المسلمون بأيامٍ شدادٍ، ليمتحن الله صدقهم وصبرهم، وليميز الله اليائسين الضعاف المهازيل من الأقوياء ذوي الصدق واليقين.

 

يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾. ويقول تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإن اللهَ –عزَّ وجلَّ- إذا أَحَبَّ قومًا ابتلاهم؛ فمن رَضِيَ فله الرِّضَى، ومن سَخِطَ فله السُّخْطُ]. وحين سُئل: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قال عليه الصلاة والسلام: [الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثَلُ، فيُبتلى الرَّجلُ على حسْبِ دينِه، فإن كانَ في دينهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ على حسْبِ دينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي على الأرضِ ما عليْهِ خطيئةٌ].

 

يقول العلماء إنّ حكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت اختصاص المؤمن غالباً بنزول البلاء؛ تعجيلاً لعقوبته في الدنيا أو رفعاً لمنزلته، أما الكافر والمُنافق فيُعافى ويُصرَف عنه البلاء وتؤخر عقوبته في الآخرة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ المُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لا تَزالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ، ولا يَزالُ المُؤْمِنُ يُصِيبُهُ البَلاءُ، ومَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الأرْزِ، لا تَهْتَزُّ حتَّى تَسْتَحْصِدَ]. والناس حين نزول البلاء ثلاثة أقسام: الأول: محرومٌ من الخير؛ يُقابل البلاء بالتسخط وسوء الظن بالله واتهام القدر. الثاني: موفقٌ؛ يُقابل البلاء بالصبر وحُسن الظن بالله. الثالث: راضٍ؛ يُقابل البلاء بالرضا والشكر وهو أمرٌ زائدٌ على مجرد الصبر. وللابتلاء فوائد منها: أنه تكفيرٌ للذنوب ومحوٌ للسيئات، ورفعٌ للدرجة والمنزلة في الآخرة، وإشعارٌ للعبد بالتفريط في حق الله واتهامه نفسه ولومها، وفتحٌ لباب التوبة والذُل والانكسار بين يدي الله، وتقويةٌ لصلة العبد بربه، وتذكيرٌ له بأهل الشقاء والمحرومين والإحساس بآلامهم، وزيادةٌ في قوة الإيمان بقضاء الله وقدره واليقين بأنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، وتذكيرٌ بالمآل وإبصارٌ للدنيا على حقيقتها. وللابتلاء صورٌ كثيرةٌ: ابتلاءٌ في الأهل والولد، وفي المال، وفي الدين، وأعظمها ما يُبتلى به العبد في دينه.

 

وكما رأينا في قصتنا عن المسلمين تحت الحكم الشيوعي كيف كان ابتلاؤهم في دينهم -وهو أشد أنواع الابتلاء- فما وهنوا ولا ضعفوا ولا استكانوا، بل أحسن هؤلاء (الظاهرون على الحق) الظن بالله وأخذوا بالأسباب. لم يكن منهم مَن يتخيل أن ينفرط عقد «الاتحاد السوڤيتي» ويتفكك ويتحول إلى جمهورياتٍ مستقلةٍ بعضها تُمارَس فيه العبادات وتُقام فيه الشعائر الإسلامية علناً بغير خوفٍ. لقد كانت الفئة التي أحسنت الظن بالله وأخذت بالأسباب من هؤلاء المسلمين هي التي حفظت الدين وحافظت على العقيدة وربّت أبناءها وأنشأتهم على التوحيد والإخلاص، رغم وجود المُثّبطين والمُتخاذلين، وكأنهم كانوا هم المقصودون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: [لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ]. ورأينا في النهاية أن هذا الوعد قد تحقق وأتى أمر الله وظهر الحق، رغم عداوة الكافرين، ورغم تثبيط وخذلان بعض المسلمين، بل ورغم تعاون قلةٍ قليلةٍ منهم مع أعداء الله.

 

أحبتي.. لنأخذ العبرة والعظة؛ ونسلك طريق الحق، لا يَفُت في عضدنا قلة السالكين في هذا الطريق، ولا تغرنا كثرة المُغيَبين عنه، ولا نكون أبداً من المُتخاذِلين، ولا ممن يُثبطون الهمم، فضلاً عن أننا نربأ بأنفسنا أن يكون من بيننا خائنون متعاونون مع الأعداء، وإنما علينا أن نُحسن الظن بالله ونأخذ بالأسباب إلى الحد الأقصى الممكن، فإن لم نكن نحن (الظاهرون على الحق) فعلينا أن نكون عوناً لمن سبقونا إلى ذلك، لا نخذلهم ولا نتخلى عنهم، ولا نتركهم وحدهم، وإنما نكون سنداً لهم، مرابطين في ظهورهم؛ نُساعدهم بما استطعنا. ولنكن على ثقةٍ كاملةٍ ويقينٍ صادقٍ بأن النصر ليس بالعَدَد ولا بالعتاد ولا المُعدات، ولا بكثرة وحداثة وقوة الأسلحة، إنما هو من عند الله؛ يقول تعالى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾. اللهم اجعلنا من الذين يُدافعون عن دينك، واجعلنا من الصابرين، وأعِز اللهم الإسلام والمسلمين، وانصرنا على القوم الكافرين، وحقق اللهم وعدك الذي وعدت به عبادك المؤمنين: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾؛ أنت وليُّ ذلك وأنت القادر عليه؛ فأنت سُبحانك ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

 

https://bit.ly/3wycY0N