الجمعة، 25 نوفمبر 2022

خير متاع الدنيا

 

خاطرة الجمعة /371


الجمعة 25 نوفمبر 2022م

(خير متاع الدنيا)

 

كتب أحدهم -وهو من أهل مكة المكرمة- يقول:

انفصلت أُمي عن أبي وسافرت إلى أهلها مسافة ١٢٠٠ كم، وكان عمري آنذاك أربع سنوات، عشتُ الضياع مُتنقلاً بين بيوت أعمامي، إلى أن وصلتُ سن ١٦ سنة، وفُصلتُ من المدرسة بسبب سلوكي الإجرامي، وبعدها حصلتُ على لقب "الداشر" {"داشر" وصفٌ للشخص الهائم على وجهه ليس له مُستقرٌ أو منزل، أو الابن الضال الذي يروغ ويزوغ ويترك مسؤوليات البيت والأسرة وما يُطلب منه من عمل، الشخص المُستهتر، غير المبالي. ويُقال عنه أيضاً: صايع أو هامل}.

أتعبتُ والدتي كثيراً بالمشاكل. تقدّمتُ لدورة عسكريةٍ وتخرّجتُ برتبة جندي فقط. بدأ وضعي يتحسّن قليلاً. خطب لي والدي بنت عمي، دون أن يستشيرني، وهي مُعلمة تربيةٍ إسلاميةٍ، طبعاً وافقتُ لأني لا زلتُ أحمل لقب "الداشر"؛ ومن يُزوّج ابنته لصاحب هذا اللقب؟ لم أكن أصدق أن أحداً يرضى أن يزوجني ابنته، ولا أُخفيكم سراً كنتُ طامعاً في راتبها. المهم تم الزواج وكان هذا عام ١٤٢٨هـ، ودخّلوني علي زوجتي قبل الفجر بساعتين تقريباً، سلّمت عليّ وسألتني عن حالي، وهذه أول مرةٍ يسألني أحدٌ عن حالي! بدّلت هي ملابس الزفة وتوضَّأت وطلبت مني أن أتوضأ، توضّأتُ وذهبنا إلى المجلس، طلبت مني أن أُصلي بها إماماً تلعثمتُ؛ فآخر صلاةٍ صليتها كانت قبل سبعة أشهرٍ في رمضان، أعانني الله وصلّيتُ بها ركعتين، قالت لي: "باقي ساعةٌ ونصف على الفجر؛ ما رأيك نُصلي الفجر في الحرم وبعدها نأخذ فطوراً ونُفطر ثم ننام؟"، طبعاً وافقتُ، ولو تطلب أي شيءٍ سأوافق؛ فمن تتزوج "داشراً" وعندها راتب؟

يسّرها الله وصلّينا الفجر، وهذه الصلاة كانت هي التي قلبت حياتي ١٨٠ درجةً، صلّى بنا الشيخ الشريم -أنا لا أعرفه، هي قالت لي اسمه- قرأ في الركعة الأولى ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؛ رحتُ في عالَمٍ آخر وقلتُ في نفسي: "والله إنني أنا المقصود". انتهينا من الصلاة، وعُدنا إلى المنزل، تناولنا الفطور ثم نمنا.

بعد أسبوعين قالت لي: "ما رأيك أُراجع معك القرآن؟"، قلتُ لها: "أي قرآنٍ يا بنت الحلال؟ كل ما أحفظه أربع سور؛ الفاتحة والإخلاص والمعوذتين". حفّظتني -جزاها الله خيراً- عدداً من قصار السور. ثم علمت بعد ذلك أنه توجد حلقة تحفيظٍ في الحرم بين المغرب والعشاء؛ فطلبت مني أن أسجل فيها، وافقتُ على الفور، ولو تطلب مني أي شيءٍ سأوافق دون تردد؛ فهي نعم الزوجة، إنها زوجةٌ مثاليةٌ في كل شيء. كنتُ أقول في نفسي: "هذه حرامٌ أن يتزوجها واحدٌ "داشر" مثلي؛ فكل ما يبحث الرجل عنه موجودٌ فيها؛ عقلٌ، دينٌ، جمالٌ، أصلٌ، وراتب".

صرنا نذهب كل يومٍ إلى الحرم، نُصلي المغرب، ثم أتوجه أنا إلى حلقة التحفيظ، وتتوجه هي إلى قسم النساء. استمرّينا على هذه الحال حتى حفظتُ ١٣ جزءاً، كنتُ سريع الحفظ وصوتي جميل. تمت ترقيتي ونُقلت للعمل في مدينةٍ أخرى بعيدةٍ عن مكة، كنتُ أتحيّن فرصة غياب إمام مسجدنا وأُصلي بدلاً عنه إماماً للمصلين.

ثم ألحّت عليّ زوجتي أن أُكمل دراستي؛ فحصلتُ على الثانوية العامة بنظام الدراسة المسائية، ثم ألحّت عليّ لألتحق بالجامعة فانتسبتُ في كلية الشريعة وحصلتُ على الشهادة الجامعية. قرأتُ في أحد الأيام إعلاناً عن وظيفة إمام وخطيب جامع؛ فقدمتُ للوظيفة، وتم بحمد الله تعييني إماماً وخطيباً في مسجدٍ صغيرٍ، كان هذا عام ١٤٣٣هـ. أصبحت زوجتي هي كل الدنيا بالنسبة لي، لو تطلب عيوني أُعطيها لها؛ فقد حولتني من "داشرٍ" مُشرّدٍ في الشوارع إلى خريج كلية شريعة، وإمام وخطيب! من يُصدق هذا؟!

الصدمة التي لا أنساها حدثت عام ١٤٣٨هـ حين بدأت تشكو من صداعٍ شديدٍ، تبيّن بعد ذلك أنه ورمٌ خبيثٌ في الدماغ، لم تُكمِل سنةً وانتقلت إلى رحمة الله. تُوفيت ولي منها ثلاث بناتٍ هن نسخةٌ مصغرةٌ عن أمهم.

بعد ذلك بسنةٍ طلب أخواتي مني أن أُوافق على أن يبحثوا لي عن زوجةٍ، رفضتُ رفضاً قاطعاً، وقفلتُ هذا الباب وإلى الأبد، وقلتُ لهن: "رحلت زوجتي وعوّضني الله بثلاث". باختصار؛ زوجتي أحيتني ثم ماتت؛ حوّلتني من "داشر" إلى رب أسرةٍ جامعيٍ ومحل تقدير كل من حولي في عملي.

 

أحبتي في الله.. صدق رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، حيث قال: [الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ]، وفي روايةٍ: [إنَّما الدُّنيا متاعٌ ولَيسَ مِن متاعِ الدُّنيا شَيءٌ أفضلَ منَ المرأةِ الصَّالِحةِ].

إنها المرأة الصالحة (خير متاع الدنيا) يقول العُلماء عنها: هي قُرة عينٍ لزوجها، يغض بها بصره؛ فيجد نوراً في قلبه يُبصر به ما لا تراه عيناه، ويجد لذةً في إيمانه لا تُعادلها لذةٌ، وتُحصِّن له فرجه، فيقفل أبواب الشر ويفتح أبواب الخير، يقفل أبواب الحرام ويفتح أبواب الحلال، ويترك الوزر ويكسب الأجر، يقول تعالى عن عباد الرحمن: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أربعٌ من السعادةِ: المرأةُ الصالحةُ، والمسكنُ الواسعُ، والجارُ الصالحُ، والمركبُ الهنيءُ. وأربعٌ من الشَّقاءِ: الجارُ السوءُ، والمرأةُ السوءُ، والمركبُ السوءُ، والمسكنُ الضَّيِّقُ].

والمرأة الصالحة حسنة الدنيا، يقول تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. وحسنة الدنيا هي المرأة الصالحة؛ أحسن الله بها لزوجها؛ فهي سبب حسنات النهار له؛ إذ تُذكره بالله تعالى؛ ليكون ذاكراً، وتحثه على الصلاة في المسجد جماعةً؛ ليكون مُصلياً، وتحثه على الصدقة؛ ليكون مُتصدقاً، وتحثه على الصيام وتوقظه في الليل؛ ليكون مُتهجداً فإن أبى نضحت في وجهه الماء.

والمرأة الصالحة خير مالٍ يُتخذ؛ فعندما نزل قول الله سبحانه وتعالى في الذهب والفضة: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، سأل الصحابة: فأيُّ مالٍ نتخذ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لِيَتَّخِذْ أحدُكم قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكِرًا، وزوجةً مؤمنةً تُعِينُهُ علَى أمرِ الآخرَةِ].

والمرأة الصالحة سكَنٌ لزوجها ومودةٌ ورحمةٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

والمرأة الصالحة هي التي لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه؛ لأنها تعلم أن وظيفتها ومسئوليتها في بيتها؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [...والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بَعْلِها وولدِه وهي مسؤولةٌ عنهم].

والمرأة الصالحة هي الودود التي تتودد لزوجها، وتلين له في الكلام، وتخفض له الجناح، وتتجنب ما يُبغضه، وتسعى لما يُرضيه؛ فهي -كما وصفها بعضهم- ألين من الزُبد وأحلى من العسل.

والمرأة الصالحة هي الولود التي تُكثر الإنجاب؛ لتكثير الأُمَّة طلباً للأجر وسعياً للإصلاح، ورغبةً في دوام الثواب؛ إذ لا ينقطع العمل بوجود الولد الصالح الذي يدعو لوالديه. وقد قال عليه الصلاة والسلام: [تزوَّجوا الوَدودَ الولودَ فإنِّي مُكاثرٌ بِكُمُ الأُممَ].

والمرأة الصالحة التي هي (خير متاع الدنيا) هي التي إذا غضب زوجها كانت حريصةً على رضاه؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [...نِساؤُكُمْ من أهلِ الجنةِ الوَدُودُ الوَلودُ العؤودُ على زوجِها، التي إذا غَضِبَ جاءتْ حتى تَضَعَ يَدَها في يَدِ زَوْجِها، وتقولُ: لا أَذُوقُ غَمْضًا حتى تَرْضَى]. {"العَؤُودُ على زَوْجِها" أي: التي تَعُودُ على زَوْجِها بِالنَّفْعِ. "لا أَذُوقُ غَمْضًا حتى تَرْضَى" أي: لا أَذوقُ نَوْمًا حَزَنًا وقَلَقًا على غَضَبِكَ علَيَّ حتى تَرْضى عنِّي}.

والمرأة الصالحة سعادةٌ لزوجها في الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.

 

وعن المرأة الصالحة التي هي (خير متاع الدنيا) قال النبي عليه الصلاة والسلام: [خيرُ النِّساءِ امرأةٌ إذا نظرتَ إليها سرَّتكَ، وإذا أمرتَها أطاعتْكَ، وإذا غِبتَ عنها حفِظتْكَ في نفسِها ومالِكَ]. يقول شارحو هذا الحديث إن المرأة الصالحة هي التي إذا نظر إليها زوجها سرته؛ فلا ينظر إلى سواها، وهي سُروره الذي يُخفف آلامه وهُمومه وغُمومه ويُزيل أحزانه؛ إذ تُدخل السرور عليه، وتُذهب الهموم.

والمرأة الصالحة هي التي إذا أمرها زوجها أطاعته؛ لأن القوامة له عليها؛ يقول تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾، ولأن له عليها درجة؛ يقول تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾. وطاعة المرأة لزوجها من مُوجبات الجنة؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [إذا صلَّتِ المرأةُ خَمْسَها، وصامَت شهرَها، وحصَّنَتْ فرجَها، وأطاعَت زوجَها، قيلَ لها: ادخُلي الجنَّةَ مِن أيِّ أبوابِ الجنَّةِ شِئتِ].

والمرأة الصالحة هي التي إذا غاب عنها زوجها حفظته في نفسها، فلا تنظر إلى الرجال الأجانب؛ لأن الله أمرها بغضِّ بصرها؛ فقال تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾.

والمرأة الصالحة هي التي تحفظ زوجها في ماله؛ فلا تُبذر بماله؛ لأنها تعلم ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾، ولا تُسرف فيه، لأنها تعلم أن ربها نهى عن الإسراف، وأنه لا يحب المسرفين؛ إذ يقول: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾.

 

قال الشاعر:

أفضل ما نال الفتى    بعد الهُدى والعافية

قرينةٌ مُسلمةٌ                عفيفةٌ مواتية

 

أحبتي.. إن كانت هذه هي أهم صفات المرأة الصالحة، التي هي (خير متاع الدنيا) فأول درسٍ نتعلمه هو أن على كل امرأةٍ من نساء المسلمين أن تسعى إلى إكمال هذه الصفات في نفسها، فلا يوجد إنسانٌ كامل. ولتهتم نساؤنا بتربية بناتهن تربيةً إسلاميةً صحيحةً لتنشأن مُتمسكاتٍ بهذه الصفات، التي هي صفات الكمال. ولينظر كل رجلٍ: أباً أو أخاً أو ابناً أو زوجاً في صفات الرجل الصالح، ويتمثلها في سلوكه وعلاقاته ليكون مُستحقاً للفوز بالمرأة الصالحة ابنةً أو أختاً أو أُماً أو زوجةً؛ فالجزاء من جنس العمل.

درسٌ آخر علينا أن نتعلمه؛ هو أن كل إنسانٍ قابلٍ للتغيير إذا ما وجد من يُساعده بإخلاص، فلنُخلص نوايانا نحو كل "داشرٍ"، وندعو له بالهداية ونأخذ بيديه بمحبةٍ وودٍ ورغبةٍ صادقةٍ في الإصلاح فيكون التوفيق من الله؛ يقول تعالى: ﴿إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾. ودرسٌ ثالثٌ مهمٌ هو أن العبرة بالخواتيم، فلا نتسرع ونتعجل ونُصدر أحكاماً قاسيةً على الآخرين؛ فربما اهتدوا وتغيروا بعد حينٍ وصاروا مثالاً ونموذجاً يُحتذى به.

اللهم اهدنا واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

 

https://bit.ly/3VnESDW