الجمعة، 7 ديسمبر 2018

جسور المحبة


الجمعة 7 ديسمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٦٤
(جسور المحبة)

يُحكى أن أخوين عاشا في الريف لمدةٍ طويلةٍ في اتفاقٍ ومحبةٍ في بيتين منفردين، وفي يومٍ من الأيام نشبت بينهما مشاجرةٌ، وكانت هي الأولى بعد أربعين سنةً عملا فيها معاً في فلاحة الأرض متشاركين في الآلات والأجهزة متقاسمين المحاصيل والخيرات. نشأ الخلاف من سوء تفاهمٍ طفيفٍ وازداد حتى نشبت مشاحنةٌ تبادلا فيها الكلمات المُرَّة، أعقبتها أسابيع من القطيعة والصمت المطبق. ذات صباحٍ قُرِع باب الأخ الكبير، وإذا به أمام رجلٍ يحمل أدوت نجارةٍ يقول له:
"إني أبحث عن عملٍ لبضعة أيام، ورأيت أنك قد تحتاج إلى بعض الترميمات الطفيفة في المزرعة، وقد أكون مفيداً لك في هذا العمل"، فأجابه الأخ الأكبر: "نعم أنظر إلى الطرف المقابل من النهر حيث يعيش جاري، أعني أخي الصغير، حتى الأسبوع الماضي كان هناك مرجٌ بديعٌ بيننا غير أنه حوَّل مجرى النهر ليفصل بيننا، لقد قصد ذلك لإثارة غيظي غير أنني سأدبر له ما يناسبه!! أترى ذلك الخشب المكدَّس هناك قرب مخزن القمح؟ أريدك أن تبني به جداراً ارتفاعه متران كي لا أراه ولا يراني أبداً". أجاب النجار: "يبدو أنني فهمت الوضع". ساعد الأخ الأكبر النجار في كل ما يلزمه لبناء الجدار ومضى ليتبضع في القرية التي تبعد عن المزرعة مسافةً كبيرةً. في المساء، عندما عاد الأخ الكبير إلى المزرعة، وجد أن النجار كان قد أتم عمله، لكنه أُصيب بالدهشة مما رأى؛ لم يكن هنالك أي جدارٍ على النهر، لكنه ما رآه كان جسراً يصل بين المزرعتين عبر النهر. كان عمل النجار في غاية الدقة والإتقان والإحسان.
في تلك اللحظة أتى الأخ الصغير ليرى ما صنع أخوه؛ فرأى الجسر فلم يكن منه إلا أن عانقه قائلاً: "يا لك من أخٍ رائعٍ! لقد بنيتَ هذا الجسر بعد كل القطيعة التي كانت بيننا". وبينما هما يتصالحان أخذ النجار أدواته وهمَّ بالرحيل فقال له الأخ الأكبر: "انتظر، أرجوك أن تبقى فلدي الكثير من العمل الذي أود أن أطلبه منك"، فما كان من النجار إلا أن قال: "كنت أتمنى البقاء لولا كثرة (جسور المحبة) التي تنتظرني"!

أحبتي في الله .. يقول كاتب القصة أننا كثيراً ما ندع سوء الفهم وحِدَّة الكلام تؤثر فينا؛ فيتغلب كبرياؤنا على مشاعرنا. فلنحرص على التسامح فهو لا يُغَيِّر الماضي وإنما يجعل المستقبل أكثر جمالاً وإشراقاً.

ومن القصص الحقيقية التي تُروى عن متانة (جسور المحبة) بين الإخوة، أن أهل قريةٍ كانت لهم بئرٌ عميقةٌ يشربون منها، وحصل أنهم كلما أدخلوا الدلو في البئر أتى الحبل بلا دلو! وتكررت هذه الحادثة حتى كانت مصدر إزعاجٍ لهم لعدم معرفتهم سبب ذلك حتى قالوا أنها بئرٌ مسكونةٌ من الجن! واتفقوا فيما بينهم على أن الحل الوحيد لهذه المشكلة هو أن يتطوع أحد أبناء القرية بالنزول إلى البئر ليرى ما يحدث بداخله. وبالفعل، تطوع أحدهم لتنفيذ تلك المهمة الخطرة على أن يربطوا حول وسطه حبلاً وينزل البئر، لكنه اشترط عليهم أن يأتوا بأخيه ليمسك معهم الحبل الذي سوف يربط فيه! استغرب أهل القرية من شرطه؛ فهم كثيرون وأقوياء وقادرون على الإمساك بالحبل الذي ربطوه حول وسطه بغير مساعدة من أخيه، حاولوا إقناعه دون جدوى، ولم يكن أخوه وقتئذ حاضراً. وافق أهل القرية على طلبه؛ وأتوا بأخيه، ليمسك معهم الحبل، ودخل الرجل في غيابة البئر ليستشرف الخبر، فوجد قرداً داخل البئر هو الذي يفك الدلو داخل البئر، فحمل القرد على رأسه وقال لهم اسحبوا الحبل، فلما اقترب من سطح البئر رأى الممسكون بالحبل شيئاً غريباً خارجاً من البئر، فظنوا أنه شيطانٌ؛ فتركوا الحبل وولوا هاربين، ولم يبقَ أحدٌ يمسك بالحبل إلا أخوه، ظل ممسكاً بالحبل خوفاً على أخيه. خرج أخوه من البئر، وحينها عرف الجميع أن الله قد جعل أخاه سبباً في نجاته، ولولا ذلك لكان قد سقط داخل البئر ولقى حتفه.

يقول أهل العلم أن لفظ "الإخوة" قد ورد في القرآن الكريم على أنواعٍ؛ منها:
إخوة النسب؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾.
وإخوة الرضاعة؛ قال تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾.

وإخوة القوم أو العشيرة؛ قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾.
وإخوة الإيمان؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿وَاعتَصِموا بِحَبلِ اللَّهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقوا وَاذكُروا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعداءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوانًا﴾.
وإخوة الكفر؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾.
وإخوة الشياطين؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾.
وإخوة الجنة؛ قال تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾.
وقال الله تعالى في علاقة الكفار بالمؤمنين: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.

وعن رباط المودة و(جسور المحبة) يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾، لم يختر الله من اﻷقارب لشد العضد، إلا الأخ. وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، فلن يتفقدك ويبحث عنك ليطمئن عليك، مثل أختك. إنه رباط الحب بين الإخوة ذكوراً وإناثاً.

أحبتي ..  أعجبني قول أحدهم عن (جسور المحبة) إذ كتب يقول: لنتذكر أننا نغفل كثيراً عن حقوق الأخ وما يتوجب علينا نحوه، وننسى أنه العضد والسند، وأن الأخ إذا فُقد فلا يمكن تعويضه، وأنه مهما وجدت من الناس خيراً فلن يغنوك عن أخيك.
وكلنا إخوة في الإسلام، فالمسلم أخو المسلم، ولكن أقوى الأواصر والروابط في إخوة الإسلام هي ما بينك وبين أخيك ابن أمك وأبيك.

لا تجعل الحقد يفسد العلاقة بينك وبين إخوانك المسلمين، ولا تسمح أن يفسد حادثٌ بسيطٌ أخوةً ربط بها الله سبحانه وتعالى بينك وبين إخوانك وأخواتك، وتذكر أن الدنيا إلى زوالٍ وأنها متاع الغرور؛ قال المولى عز وجل: ﴿وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إِلّا مَتاعُ الغُرورِ﴾. فتحاشى كل ما يوتر علاقة الحب بينك وبين إخوانك وأخواتك، واعمل على بناء (جسور المحبة) بينك وبينهم وتقويتها؛ فلن تجد بالدنيا من يشد عضدك مثل أخيك؛ فاحرص على كسب وده وتعزيز محبته.
تمسكوا أحبتي بإخوانكم وأخواتكم، اهتموا بهم فلا توجد، بعد الوالدين، علاقة حبٍ وودٍ خالصٍ صافٍ أجمل من تلك التي بين الإخوة والأخوات. لا يغرنك كثرة من حولك، ففي وقت الشدة لن تجد إلا إخوانك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


https://goo.gl/RBVaJe