الجمعة، 4 نوفمبر 2016

آن يا رب العالمين


الجمعة 4 نوفمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٦
(آن يا رب العالمين)

تتهادى سفينة أيامنا في بحر الحياة ما بين سعادة وحزن، وسرور وآلام، وأفراح وأتراح .. هكذا هي الحياة، يوم حلو ويوم مر .. فإذا اشتدت الريح يوماً وعلت الأمواج في بحر الحياة نكون إما في قمة سعادةٍ غامرة طاغية تهز كيان الإنسان هزاً فيحس أن قد ولت أيام الأحزان إلى غير رجعة .. أو في قاع حزنٍ شديد غلاب مؤثر يزلزل كيان الإنسان فتعصف به أسوأ الأفكار وتسيطر عليه أسود المشاعر حتى يظن أن لا سعادة أبداً .. فإذا سكنت الريح عاد السرور والفرح إلى حاله يرسم بسمته العادية على الشفاه، ورجعت الآلام والأتراح إلى مآلها وما تعودناه منها أوجاع وشجون تتسرب إلى حياتنا بهدوء ورتابة.
هذه هي الحياة تتباين المشاعر فيها، وتتغير صعوداً وهبوطاً .. وتتبادل مواقفها الأدوار ما بين فرح وأسف، وسرور وأسى .. أما أن يتضمن موقف ما الفرح والأسف، والسرور والأسى، في آنٍ واحد فهذا ما لا يحدث كثيراً. ورغم قلة حدوث مثل هذه المواقف، فقد كنت شاهد عيان على أحدها وأنا في طريق عودتي إلى المنزل قبل أسبوع، مررت بشابٍ يقف أمام إحدى العمارات ينادي على صديق له، فخرج له مطلاً من شرفة منزله وسمعته يقول: "أمهلني دقيقتين؛ أخطف العصر وأنزل لك".
لا أعرف أياً من الشابين، وكنت في الواقع قد تجاوزتهما وأنا في طريق عودتي، لكن ظلت عبارة "أخطف العصر" في ذهني .. كان انطباعي الأول هو الإحساس بالسعادة بأن شاباً في مقتبل حياته يهتم بألا تفوته صلاة العصر مهما كانت إغراءات الخروج مع صديق .. أليس هذا سبباً كافياً لسعادتي؟ .. هو كذلك بالتأكيد، ففي هذه الأيام التي نعيشها أو نتعايش معها يكون حرص هذا الشاب على الصلاة سبباً كافياً لانشراح الصدر والشعور بالسعادة.
أما انطباعي التالي عن نفس الموقف وحول نفس العبارة "أخطف العصر" فقد كان نوعاً من الحزن والأسى على كلمة "أخطف"، عندما استدعت هذه الكلمة إلى خاطري معنى السرعة وعدم التركيز والأداء الصوري .. وكأن أداء الصلاة قد تحول من "الراحة بها" إلى "الراحة منها"!
هذان هما الشعوران اللذان تملكاني عن موقفٍ واحد، شعوران متناقضان التقيا في آنٍ واحد!
لست في موقف الحكم على غيري، فكلنا مهما اجتهدنا نظل مقصرين، لكن ما بقي في ذهني بعد انتهاء هذا الموقف هو موضوع الخشوع، إلى أي مدى نهتم به ونعطيه حقه.

أحبتي في الله .. يقول العارفون أن أصل الخشوع لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء، لأنها تابعة له؛ فالخشوع محله القلب ولسانه المعبر هو الجوارح، ومتى اجتمع في القلب صدق المحبة لله والأنس به واستشعار قربه، واليقين في ألوهيته وربوبيته، والتسليم بالحاجة له والفقر إليه، غشيَ قلب المسلم  خشوعٌ يدرك حلاوته ولذته، وإذا بسائر الجوارح وقد هدأت وسكنت .. فترى المصلي الخاشع وقد ترك الدنيا وراء ظهره واستشعر أنه بين يدي الله سبحانه وتعالى .. بين يدي الخالق العظيم .. تراه مستمتعاً بوقوفه في حضرة الرحمن الرحيم .. يطيل القراءة والركوع والسجود والتضرع ويكثر من الدعاء .. تراه حريصاً على أن يمتد لقاؤه بربه لأطول وقت ممكن، وهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى باقٍ معه لا يدعه إلى أن يتركه هو!
ما أعظم هذا الإحساس عندما يعيشه الإنسان، وما أروع هذا الشعور بالقرب من الله سبحانه وتعالى، حين يتذكر المسلم أنه أقرب ما يكون لربه وهو ساجد، فأي متعةٍ أكثر من أن يطيل الإنسان سجوده ويحس بمعية الله عز وجل. يبدأ الخشوع مع بداية الصلاة فيستقبل المسلم القبلة ويتوجه بجسمه كله نحو البيت الحرام ليكون في حضرة المولى سبحانه، ثم يكبر تكبيرة الإحرام "الله أكبر" تعبيراً عن أن الله أكبر من كل شيء مهما كان، ويدخل في الصلاة تاركاً خلف ظهره الدنيا وكل ما فيها. ثم يبدأ في قراءة فاتحة الكتاب مستحضراً حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: ﴿الرحمن الرحيم﴾ قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: ﴿مالك يوم الدين﴾ قال: مجدني عبدي، فإذا قال: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل] .. أي شعورٍ بالقرب من الله سبحانه وتعالى يعادل هذا الشعور. ويستمر في قراءة ما تيسر من القرآن، ثم يركع ويسجد، حتى تنتهي صلاته، فلا يفارقه أبداً قول الله عز وجل واصفاً المؤمنين في كتابه الكريم: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾، ويستحضر خشوع زكريا عليه السلام وزوجه الذين قال المولى عز وجل عنهما: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾، أي كانوا متواضعين متذللين لا يستكبرون عن عبادة الله سبحانه وتعالى ودعائه.
لو لم يكن للخشوع في الصلاة إلا فضل الانكسار بين يدي الله، وإظهار الذل والمسكنة له، لكفى بذلك فضلاً؛ فقد خلقنا الله جل جلاله للعبادة؛ قال سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، وأفضل العبادات ما كان فيها الانكسار والذل الذي هو سرها ولبها، ولا يتحقق ذلك إلا بالخشوع. لذلك فقد امتدح الله جل وعلا الخاشعين في آيات كثيرة: منها قوله تعالى: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً﴾، وقوله سبحانه: ﴿إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾.

أحبتي .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ]، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ؟ قَالَ: [لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا - أَوْ قَالَ - لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ]؛ فالإخلال بالطمأنينة في الركوع والسجود عدمُ إتمامٍ لهما، وفي ذلك خيانةٌ للأمانة وسرقة، يسرق حق نفسه في الخشوع الذي هو روح الصلاة، فيخرج من صلاته وجوارحه لم تتأثر.
كيف للبعض منا ألا يخشع في صلاته وينقر ركعاتها كنقر الديكة وهو يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قد نهى عن ذلك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِثَلَاثٍ وَنَهَانِي عَنْ ثَلَاثٍ ... وَنَهَانِي عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الدِّيكِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ]؟ وكيف لا يخشع في صلاته وهو يعلم أن المصطفى عليه الصلاة والسلام قال لمن لم يخشع في صلاته: [ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ]؟ بل كيف لا يخشع في الصلاة وهو يعلم قول الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم: [لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى صَلَاةِ عَبْدٍ لَا يُقِيمُ فِيهَا صُلْبَهُ بَيْنَ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا]؟ وهل منا من لا يرغب أن يكون من المفلحين الناجحين الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: [إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ]؟
فلنصلي أحبتي بخشوع حتى لا نكون من الخائبين الخاسرين .. نصلي كما كان رسولنا الكريم يصلي؛ فهو القائل: [صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي].

يعاتب الله سبحانه وتعالى بعض المؤمنين من صحابة رسول الله بقوله:  ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾، فما بالنا لا نستشعر هذا العتاب لأنفسنا؟ وأين نحن من الصحابة الكرام؟! أفما آن الأوان لأن تخشع قلوبنا؟ قولوا معي: (آن يا رب العالمين) .. (آن يا رب العالمين) .. واخشعوا في صلواتكم،  يرحمني ويرحمكم الله.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

https://goo.gl/c3b7pX