الجمعة، 26 مايو 2023

الصديق الوفي

 خاطرة الجمعة /397

الجمعة 26 مايو 2023م

(الصديق الوفي)

أمسك بهاتفه واتصل بصديقه وقال له: "أُمي مريضةٌ وليس معي ثمن الدواء"، ردّ عليه صديقه: "تمام يا صاحبي؛ اتصل بي بعد ساعة". اتصل بصديقه بعد ساعةٍ فوجد هاتفه مُغلقاً! أعاد اتصاله مراتٍ ومراتٍ دون جدوى حتى ملّ من ذلك؛ فصار يبحث عمن يُقرضه ثمن الدواء فلم يجد أحداً! أحس أن الدنيا كلها ضاقت به، وأن الكون لم يعد يسعه، حزن كثيراً لأجل والدته المريضة، وحزن أكثر لخذلان صديقه له، وتساءل بينه وبين نفسه هل هذا هو (الصديق الوفي)؟ لم يعرف ماذا يفعل. عاد إلى البيت يجر خيبته، وجد أمه نائمةً وملامح الراحة باديةً على وجهها، وبجانبها علب دواءٍ؛ سأل أخته عمن أحضر الدواء، قالت له: "جاء صديقك قبل قليلٍ وأخذ الوصفة ثم أحضر الدواء". ضحك والدمع في عيونه وخرج مُسرعاً يبحث عن صديقه حتى وجده فقال له: "اتصلتُ بك عدة مراتٍ وهاتفك مُغلق"، فأجابه صديقه: "نعم؛ لقد بعتُ هاتفي واشتريت بثمنه الدواء ﻷمنا!".

 

أحبتي في الله.. هكذا تكون الصداقة الحقة؛ فالوفاء شرف الصداقة. لكن هل كل صديقٍ يكون وفياً وقت الحاجة؟ في القصة التالية إجابةٌ عن هذا السؤال:

‏كان هناك شابٌ يعمل والده في تجارة الجواهر والياقوت، وكان الشاب يؤثر أصدقائه ويُغدق عليهم بالمال، وهُم بدورهم يُجلونه ويحترمونه بشكلٍ لا مثيل له، وتدور الأيام دورتها، ويموت الوالد، وتفتقر العائلة افتقاراً شديداً، فقلّب الشاب في ذكرياته ليبحث عن أصدقائه؛ فتذكر أعز صديقٍ كان يُكرمه وكان أكثرهم مودةً وقُرباً منه، وعلم أنه قد أثرى ثراءً لا يوصف وأصبح من أصحاب القصور والأملاك والأموال؛ فتوجه إليه عسى أن يجد عنده عملاً أو سبيلاً لإصلاح حاله، فلما وصل باب القصر استقبله الخدم والحشم فذكر لهم صلته بصاحب القصر وما كان بينهما من مودةٍ قديمةٍ؛ فذهب الخدم فأخبروا صديقه بذلك؛ فنظر إليه من خلف الستار فرأى شخصاً رث الثياب عليه آثار الفقر فرفض لقاءه، وأخبر الخدم أن يُخبروه أن صاحب القصر لا يُمكنه استقبال أحد. خرج الشاب والدهشة تغلب عليه، هل هذا هو (الصديق الوفي)؟ كان يتألم، ويتعجب على الصداقة وكيف ماتت، وعلى القيم وكيف تذهب بصاحبها بعيداً عن الوفاء. بالقرب من داره صادف الشاب ثلاثةً من الرجال عليهم أثر الحيرة وكأنهم يبحثون عن شيءٍ فسألهم: "ما أمر القوم؟"، فقالوا له: "نبحث عن رجلٍ يُدعى فلان بن فلان" وذكروا اسم والده؛ فقال لهم: "إنه أبي، وقد مات منذ زمن"، فقالوا: "إن أباك كان يُتاجر بالجواهر، وله عندنا قطعٌ نفيسةٌ من المرجان كان قد تركها عندنا أمانة"

وأخرجوا كيساً كبيراً مليئاً بالمرجان ودفعوه إليه ورحلوا عنه والدهشة تعلوه، لا يكاد يُصدق ما يرى ويسمع، لكن تساءل أين اليوم من يشتري المرجان؟ إن بيعه يحتاج إلى أثرياء والناس في بلدته ليس فيهم من يملك ثمن قطعةٍ واحدةٍ. مضى في طريقه وبعد برهةٍ من الوقت صادف سيدةً كبيرةً في العُمر عليها آثار النعمة والخير، فقالت له: "يا بُني أين أجد جواهر للبيع في بلدتكم؟"، فتسمر الشاب في مكانه وسألها: "عن أي نوعٍ من الجواهر تبحثين؟"، فقالت: "أية أحجارٍ كريمةٍ رائعة الشكل، وسأشتريها بأي ثمن"، فسألها إن كان يُعجبها المرجان فقالت له: "نِعمَ المطلب"، فأخرج بضعة قطعٍ من الكيس؛ فأُدهشت السيدة مما رأت؛ فابتاعت منه قطعاً، ووعدته بأن تعود لتشتري منه المزيد. وهكذا عادت حال الشاب إلى يُسرٍ بعد عُسرٍ، وعادت تجارته تنشط بشكلٍ كبيرٍ، فتذكر بعد حينٍ من الزمن ذلك الصديق الذي ما أدى حق الصداقة ولم يكن وفياً معه؛ فبعث إليه مع أحد الأصدقاء ببيتين من الشعر قال فيهما:

صحبتُ قوماً لئاماً لا وفاءَ لهم

يدعون بين الورى بالمكرِ والحيلِ

كانوا يجلونني مُذ كنتُ ربَ غنىً

وحين أفلستُ عدّوني من الجُهلِ

فلما قرأ ذلك الصديق هذين البيتين كتب على ورقةٍ ثلاثة أبياتٍ وبعث بهم إلى الشاب، قال فيهم:

أما الثلاثةُ فقد وافوكم من قِبَلي

ولم تكن سبباً إلا من الحيلِ

أما من ابتاعت المرجانَ والدتي

وأنت أنت أخي بل مُنتهى أملي

وما طردناك من بُخلٍ وقِللِ

ولكن عليك خشينا وقفةَ الخجلِ

 

الصداقة هي الصُحبة عن محبةٍ، وهي مأخوذةٌ من الصدق؛ لأن (الصديق الوفي) يصدُق صديقه ويُصِّدُقه. وقد حثّ الشرع على حُسن اختيار الأصدقاء لما لهم من تأثيرٍ قويٍّ على الأفكار والمُعتقدات والاتجاهات والسلوك؛ قال صلى الله عليه وسلم: [المرءُ على دينِ خليلِه؛ فلينظرْ أحدُكم مَن يُخاللُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنِّما مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ، وجَلِيسِ السُّوءِ، كَحامِلِ المِسْكِ، ونافِخِ الكِيرِ...].

 

يقول أهل العِلم إن (الصديق الوفي) هو من يُذكِّرك بالله تعالى، وإن من الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الصديق حتى يكون صديقاً صالحاً: الوفاء والأمانة والصدق والبذل، والبُعد عن ضد ذلك من الصفات. ويُقال الرفيق قبل الطريق. والصداقة إذا لم تكن على الطاعة فإنها تنقلب يوم القيامة إلى عداوةٍ؛ يقول تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾. وفي الآخرة يتحسّر أَهْلُ النَّارِ على فوات صُحبة الصالحين فيقولون: ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ . وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾، قال المفسرون: يَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنَّ الصَّدِيقَ إِذَا كَانَ صَالِحاً نَفَعَ، وَأَنَّ الْحَمِيمَ إِذَا كَانَ صَالِحاً شَفَعَ. وكان سيدنا عليّ ابن أبي طالب، رضي الله عنه، يقول: "عَلَيْكُمْ بِالْإِخْوَانِ فَإِنَّهُمْ عُدَّةُ الدُّنْيَا وَعُدَّةُ الآخرة".

وقال الشاعر:

إِذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خَيَارَهُمْ

وَلَا تَصْحَبِ الأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي

عَنِ المَرءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ

فَكُلّ قَرِينٍ بالمُقَارِنِ يَقْتَدِي

وقال آخر:

إِذا لَم يَكُن صَفوُ الوِدادِ طَبيعَةً

فَلا خَيرَ في وِدٍّ يَجيءُ تَكَلُّفا

وَلا خَيرَ في خِلٍّ يَخونُ خَليلَهُ

وَيَلقاهُ مِن بَعدِ المَوَدَّةِ بِالجَفا

وَيُنكِرُ عَيشاً قَد تَقادَمَ عَهدُهُ

وَيُظهِرُ سِرّاً كانَ بِالأَمسِ قَد خَفا

سَلامٌ عَلى الدُنيا إِذا لَم يَكُن بِها

صَديقٌ صَدوقٌ صادِقُ الوَعدِ مُنصِفا

 

يُقال للخِل الحميم و(الصديق الوفي) "صاحب" لكثرة مُصاحبته، وهو الوصف الذي وصف به المولى عزَّ وجلَّ سيدنا أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، وهو أقرب الناس إلى قلب الحبيب المُصطفى عليه الصلاة والسلام؛ يقول تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾. وسُمي أكثر الناس مُصاحبةً لنبينا الكريم "الصحابة". ويُقال في الأمثال عن الصاحب: "الصاحب ساحب".

 

أحبتي.. لينظر كلٌ منا إلى أصدقائه خاصةً الأقرب منهم إليه، ليرى إن كانوا يسحبونه نحو الخير والعمل الصالح فنعمّ الأصدقاء هُم؛ فليحمد الله على وجودهم في حياته، ويُعزز علاقته بهم، أما إن كان العكس فبئس الأصدقاء هُم، ويكون التخلص منهم مكسباً، يزداد بقدر سُرعة إنهاء علاقتنا بهم. نفس الأمر ينطبق على أبنائنا وبناتنا علينا أن نُساعدهم على حُسن اختيار الأصدقاء والأصحاب؛ ليكونوا خير مُعينٍ لهم يصحبونهم دائماً إلى طريق الخير والهُدى والرشاد، ويكونوا مثل الأصحاب الذين أشارت لهم الآية الكريمة: ﴿لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

اللهم اهدنا، واهدِ أولادنا، وقيض لنا (الصديق الوفي) الذي يأخذ بأيدينا إلى ما فيه رضاك ومرضاتك، ويُبعدنا عما فيه غضبك وسخطك.

https://bit.ly/43uX42m