الجمعة، 1 يونيو 2018

ترويض النفس


الجمعة 1 يونيو 2018م

خاطرة الجمعة /١٣٧
(ترويض النفس)

من أجمل ما قرأت خلال الأيام الماضية رسالةٌ انتشرت على كثيرٍ من مواقع التواصل الاجتماعي، هذا نصها: "بعد مرور عدة أيامٍ من رمضان اكتشفنا أننا كنا نستطيع الصّوم كل إثنين وخميس خلال السّنة وأنّ الصّوم ليس بهذه الصّعوبة التي كُنا نتصورها. ظهر لنا جلياً أنّنا كنا نستطيع أن نصلي إحدى عشرة ركعةً كل ليلةٍ في غير رمضان بقيام ليلٍ لا يستغرق منا أكثر من ساعةٍ قبل أن ننام. اتضح لنا أنّ ختم القرآن ولو مرةً واحدةً كل شهرٍ ليس من المعجزات كما كان الشيطان يوهِمُنا. وتعجبنا من أنفُسِنا حين نستيقظ للسّحور في رمضان ونعجز عن القيام لصلاة الفجر في غير رمضان. اتضح لنا أن الفقراء يحتاجون مساعدتنا في كل وقتٍ وأننا قادرون على الإنفاق والصدقة والإطعام طوال العام". فصوم شهر رمضان إلى جانب أنه فريضةٌ ربانيةٌ، هو دورةٌ تدريبيةٌ متجددةٌ تستهدف (ترويض النفس).

أحبتي في الله .. يُعَرِّف المختصون (ترويض النفس) بأنه تهذيبٌ للنفس وإصلاحها، وإجبارها والتحكم بها وقيادتها. وهو تربية النفس، وتطهيرها، وتزكيتها لجعلها قابلةً للسير في الطريق السليم، والسمو بالجسد نحو كمال الروح. إنه أشبه ما يكون بترويض وحشٍ مفترسٍ، أو تربية طفلٍ صغيرٍ تتعهده بالرعاية والوقاية والتوجيه والمتابعة والمثابرة والمشقة والتعب، فإن أحسنت تربيته صار يافعاً نافعاً، وأصبح قدوةً لشباب جيله وأسوةً يتأسى بها غيره، وهكذا (ترويض النفس) كتربية الأطفال، ما أصعبها! خاصةً عندما تكبح جماح شهواتها وتكبت أهواءها حتى تستقيم.
وفي ذلك يقول البوصيري:
والنفسُ كالطفلِ إن تهملهُ شَبَّ على
حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم
فاصرفْ هواها وحاذرْ أنْ تُوَلِّيَهُ
إنَّ الهوى ما تولَّى يُصمِ أوْ يَصمِ
وَاخْشَ الدَّسائِسَ مِن جُوعٍ وَمِنْ شِبَع
فَرُبَّ مَخْمَصَة ٍ شَرٌّ مِنَ التُّخَمِ
وخالفِ النفسَّ والشيطانَ واعصهما
وإنْ هُما مَحَّضاكَ النُّصحَ فاتهمِ

يقول أهل العلم أن نفوسنا ملكٌ لله تعالى خلقها وسواها، وجعل طبيعتها العيش في صراعٍ بين الخير والشر، فإما أن ننتصر عليها بالتقوى، أو تهزمنا بالمعاصي والمنكرات؛ قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾، خلقها الله عز وجل، وهداها وأرشدها إلى الخير والشر؛ قال تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ هذه النفس إذا زكيتها بطاعة الله أفلَحَتْ ونجحَتْ، وإذا دسيتها بمعصية الله خابت وخَسِرت وصارت أعدى الأعداء تُودي بصاحبها إلى المهالك؛ قال عز وجل: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾، في الوقت الذي يمكن أن تكون مطمئنةً راضيةً تقود صاحبها إلى الجنة؛ قال سبحانه: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾. وإذا كانت نفسك تلومك على ما فعلت من الشر فهي نفسٌ طيبةٌ لوامةٌ، أَقْسَمَ الله بها؛ قال تعالى: ﴿وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾. هذه النفس تحتاج إلى ترويضٍ حتى تزكو فيفلح صاحبها وينجو.
ومن منح الصوم والصبر في سبيل تقوية جهاد النفس أن يكون العبد حراً من سائر العبوديات فيُخلص العبادة والعبودية لله وحده، لا أن يكون عبداً لشهواته وأهوائه؛ قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يُؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به]. وقال الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تُحاسِبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذٍ تُعرضون لا تخفى منكم خافية". وقال الخليفة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: "وإنّما هي نفسٌ أروضها بالتقوى؛ لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر".

ويرى أهل الاختصاص أن من وسائل (ترويض النفس) فَطْمُها عن المألوفات، والصوم فريضةٌ تُعَوِّد النفس على ترك المألوفات فتنفطم النفس وتتقي، وهذا يساعد على ترك الحرام؛ لأن المسلم إذا عَوَّد نفسه ترك الحلال كالطعام والشراب لله، يكون أحرى به ترك الحرام.
يقول العلماء أن تغيير أية عادةٍ سلوكيةٍ أو غرسها يستغرق ما بين واحدٍ وعشرين إلى ثلاثين يوماً، فسبحان الله أن تكون أيام هذا الشهر الفضيل كافيةً لتغيير أية عادةٍ سلوكيةٍ سلبيةٍ نود التخلص منها؛ كقطيعة الرحم، أو عدم الانتظام في الصلاة، أو شُح النفس وعدم التصدق، أو هجر القرآن. كما أنها فرصةٌ لزرع وغرس أية عادةٍ سلوكيةٍ إيجابيةٍ؛ كصلة الرحم، والصلاة على وقتها، والتصدق على الفقراء، وقراءة ولو القليل من القرآن يومياً، وقيام الليل، وصوم التطوع يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع وأيام البيض من كل شهر ٍهجريٍ، وغير ذلك من أعمال الخير والبر.

وفي دراسةٍ حديثةٍ نُشِرَت قبل عامين، تم رصد أهم التأثيرات النفسية التالية للصيام لمدة ثماني عشرة ساعةً يومياً: شعور الصائمين بالإنجاز، والرضا عن النفس، والفخر، والقدرة على التحكم بالذات. كما أن ممارسة الصيام تزيد من الثقة بالنفس وتقدير الذات، مما ينعكس إيجاباً على العلاقات الشخصية والحياة العملية. والصيام تدريبٌ متدرجٌ يؤهل الإنسان بصورة أفضل للتعامل مع ضغوط الحياة ومشاكلها وأزماتها. إن الصوم تربيةٌ للنفس، وترويضٌ لها، وإعلاءٌ لشأن الإرادة أمام مطالبها وشهواتها. و(ترويض النفس) ليس بالأمر السهل، ولكن في شهر رمضان نجد من كان لا يمكنه ترك عاداتٍ وأمورٍ أَلِفَها وتعوَّد عليها قد تركها بكل سهولةٍ ويسرٍ؛ فمن كان لا يمكنه ترك التدخين، وكأن الحياة سوف تتوقف إن تركه، وجد نفسه يستطيع أن يستغني عنه فترةً لا تقل عن نصف اليوم وأكثر، فاستغل العزيمة التي وجدها في نفسه والقوة التي اكتسبها نتيجة رغبته في طاعة ربه، فأقلع عن التدخين. فالرغبة في طاعة الله مفتاحٌ لكل من يريد أن يترك عادةً سيئةً اعتادت نفسه عليها. ومن نجح في ترويض نفسه في رمضان يمكنه أن يستمر في ذلك في غير رمضان، فالعزيمة والرغبة في الطاعة لهما مفعول السحر في (ترويض النفس).

يقول علماء النفس أن الصيام امتناعٌ عن إشباع بعض رغبات النفس، وفيه امتناعٌ عن الاستجابة الفورية لبعض شهواتنا، وفي هذا الامتناع تدريبٌ للنفس على "تأجيل الإشباع"، فيكتسب المسلم بذلك قدرةً تُميّزه عن الطفل الصغير، كما تُسهم في نضج شخصيته.
يأتي الصيام في رمضان بمثابة دورةٍ تدريبيةٍ سنويةٍ على الصبر، وبمثابة دفعةٍ جديدةٍ نحو المزيد من نضج الشخصية لدى المؤمن. إنّ استمرار هذا التدريب على ضبط الشهوات والسيطرة عليها مدة شهرٍ من كل عامٍ، لا شك سيعلّم الإنسان قوّة الإرادة، وصلابة العزيمة، لا في التحكم في شهواته فقط، وإنّما في سلوكه العام في الحياة، وفي القيام بمسؤولياته، وأداء واجباته، ومراعاة اللّه تعالى في كل ما يقوم به من أعمال.
وكما يقال: "من شبَّ على شيءٍ شاب عليه"، نلاحظ أن من تعود أن يؤدي الصلاة على وقتها، فإنه يكون من المقدرين لقيمة الوقت، يحافظ عليه ويستثمره ويستفيد منه ولا يتركه يضيع فيما لا فائدة منه، كما يكون من المنضبطين في مواعيده الملتزمين بدقةٍ بإنجاز أي هدفٍ في وقته دون تسويف أو تأجيل. وهكذا الأمر في كل نواحي حياته.

قال شاعرٌ:
ومَنْ يُطعمُ النفسَ ما تشتهي
كمن يُطْعِمُ النارَ جزلَ الحَطبْ
قال آخر:
والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتها
وإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تقنعِ

أحبتي .. يقول خبيرٌ أن الإنسان لحظات ضعفٍ وقوةٍ، تأتي مواسم الخير كي تُثَبِّتَنا وتُعينَنا على التقوى وفعل الخيرات وترك المعاصي والآثام، ومن أهم هذه المواسم والمناسبات شهر رمضان الكريم؛ فيه تُفَتَّح أبوابُ الجنة وتُغلق أبواب النار، لنا فيه أعظم فرصةٍ كي نجاهد النفس ونحثها على عمل الطاعات وترك المنكرات وفعل الخيرات. إن التحكم برغباتنا وترويض شهواتنا، ومنع أجسادنا عن احتياجاتها الأساسية المشروعة لبعض الوقت في رمضان يُساعدنا في اكتشاف قوة إرادتنا وقدرتنا على التحكم بأنفسنا في غير رمضان؛ فيكون تغيير عاداتنا وأساليب حياتنا كلها نحو الأفضل أكثر سهولةً ويسراً.

اللهم اجعلنا ممن صاموا رمضان إيماناً واحتساباً .. وممن ساعدهم الصيام على (ترويض النفس) فكانوا من الفائزين بمكاسبَ كثيرةٍ؛ ما بين عاداتٍ سيئةٍ تركوها، وأخرى إيجابيةٍ اكتسبوها.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
 هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/MyzZ3o