الجمعة، 2 ديسمبر 2016

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ

الجمعة 2 ديسمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٦٠
(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)

يُروى أن الإمام أحمد ابن حنبل كان في مدينة غريبة لا يعرفه أهلها، وقرر بعد أن بلغ به التعب مبلغه بعد صلاة العشاء أن ينام في المسجد، فرآه حارس المسجد ورفض أن يمكث فيه، فقال الإمام سوف أنام موضع قدمي فقط، ونام الإمام موضع قدمه، فقام الحارس بسحبه من قدميه وأخرجه من المسجد، وكان الإمام أحمد شيخاً وقوراً تبدو على وجهه ملامح التقوى والصلاح، فلما رآه خباز بهذه الهيئة عرض عليه أن يحضر لينام في منزله، فذهب معه، ولاحظ الإمام أحمد أن الخباز وهو يقوم بعمله في عجن العجين لا يتكلم إلا بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فاستأذنه أن يسأله سؤالاً، فقال له هل وجدت لهذا الذكر من ثمرة؟، أجابه الخباز: نعم .. أنا والله كلما دعوت الله دعوة استجابها لي، ما عدا دعوة واحدة، قال له الإمام أحمد وما هي هذه الدعوة التي لم تُستجب؟ قال الخباز: دعوت الله أن يريني الإمام أحمد بن حنبل، فقال الإمام: أنا الإمام أحمد بن حنبل، والله إني جُررت إليك جراً!
تنتشر هذه القصة على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة رغم عدم التأكد من مدى صدقها، وسواءً وقعت بالفعل أو كانت مختلقة، فإنها توجهنا إلى أهمية ذكر الله، وإلى أن وعد الله سبحانه وتعالى حق حين قال: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).

أحبتي في الله .. يقول العارفون أن الذكر هو كل ما تكلم به اللسان وتصوره القلب مما يقرِّب إلى الله. وهو يُقال لحضور الشيء القلب أو القول، ولذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب، وذكر باللسان. ويكون الذكر بالقلب واللسان تارةً، وذلك أفضل الذكر، وبالقلب وحده تارةً، وهي الدرجة الثانية، وباللسان وحده تارةً، وهي الدرجة الثالثة. وذِكرُ الله عز وجل هو خير الأعمال وأزكاها وأفضلها، وهو من أجلّ الطاعات، وباب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لم يغلقه العبد بغفلته، وروح الأعمال الصالحة، فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه. والذكر منه ما هو حمدٌ، ومنه ما هو ثناءٌ، ومنه ما هو تمجيدٌ.
وذكر الله حياةٌ للقلب، وسبيلٌ لانشراح الصدر، به تُجلى الكروب، وتزول الهموم، وتُطرد الشياطين، به تُستدفع الآفات، وتُستكشف الكربات، وتهون المصائب والملمات، به يزول الوقر عن الأسماع، والبكم عن الألسن، وتنقشع الظلمة عن الأبصار، زين الله به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين.
حثنا ديننا الحنيف على ذكر الله وأن يتصل المسلم بربه؛ فيحيا ضميره وتزكو نفسه ويتطهر قلبه، ويستمد من ربه العون والتوفيق.
أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالإكثار من ذكره في كل وقت؛ قال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً*وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾، وطلب من الرسول عليه الصلاة والسلام خفض الصوت وعدم الجهر به عند ذكره؛ قال تعالى: ﴿وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوّ وَٱلآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ ٱلْغَـٰفِلِينَ﴾، ومَدَح أصحاب العقول السليمة الذين يذكرونه في كل أحوالهم؛ في حال قيامهم أو قعودهم أو على جنوبهم؛ قال عز وجل: ﴿إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَـٰتٍ لأوْلِى ٱلألْبَـٰبِ*ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً سُبْحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، وحث المؤمنين ألا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم، لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق؛ قال تعالى: ﴿لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَاء ٱلزَّكَـوٰةِ﴾، ووعد سبحانه الذين يكثرون من ذكره بالمغفرة والأجر العظيم؛ فقال: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾، وأخبر المؤمنين أن الذكر يجعل قلوبهم مطمئنة؛ قال تعالى:﴿الذين آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، وبيَّن جل شأنه أن الذكر الكثير سبب من أسباب الفلاح؛ فقال: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، كما قال سبحانه واعداً من يذكرونه بذكره لهم: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾، وأكد ذلك في الحديث القدسي؛ فقال سبحانه وتعالى: {أنا مع عبدي إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم}يعني بهم الملائكة؛ فكيف لعبد منا أن يستغني عن الذكر الذي يقربه إلى الله، ويجعل الله يذكره ويثني عليه في الملأ الأعلى؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تعالى: {من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين}.
وفي السنة المطهرة قال النبي عليه الصلاة والسلام: [ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيراً لكم من إعطاء الذهب والورق، وخيراً لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: ما هو يا رسول الله؟ قال: ذكر الله عز وجل]. كما قال صلوات الله وسلامه عليه: [كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم]، وقال عليه الصلاة والسلام: [من قال سبحان الله وبحمده، غُرست له نخلة في الجنة]، وقال صلى الله عليه وسلم: [أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله]، وشبه النبي صلى الله عليه وسلم العبد مع ذكر الله بالذي خرج في طلبه أعداءٌ يريدون قتله فأوى إلى حصن حصين فنجا منهم، قال: [وكذلك ذكر الله عز وجل هو حصن المسلم] الذي يتحصن به من أعدائه من شياطين الإنس والجن، فينبغي للمسلم أن يلازم ذكر الله بلسانه وبقلبه وبأفعاله.
وأعظم الذكر ما كان في الصلاة، ولهذا فرضها الله في اليوم والليلة خمس مرات لحاجة العباد إليها؛ فهي تجمع من الأذكار ما لا يجتمع في غيرها، قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾.

أحبتي .. في حال الغفلة عن ذكر الله عز وجل ينشط الشيطان وتزيد ذنوب الإنسان، كبائرها وصغائرها؛ فالتارك للذكر الناسي له ارتضى لنفسه أن يتخذه الشيطان قريناً، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾، أما المعرض عن ذكر الله فهو يعاني من ضنك العيش في الحياة الدنيا، وفي الآخرة يُحشر أعمى؛ قال سبحانه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾. إن الغفلة عن ذكر الله عز وجل تبعد المسلم عن كمال الإيمان؛ قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾.
يقول أهل العلم أن ذكر الله تعالى يمنح الإنسان قوةً واطمئناناً في عمل القلب، وشفاءً من معظم الأمراض التي سببها القلب، وتنشيطاً للخلايا، وقدرةً أفضل على التنفس، وتخفيفاً للإجهاد عن أعضاء الجسد وبخاصة الدماغ، وتخلصاً من الخوف والقلق والتوتر والاضطرابات النفسية وهموم الحياة والغم والحزن، ومساعدةً على النوم لمن يعاني من الأرق واضطرابات النوم، وزيادةً في الثقة بالنفس، ومزيداً من السعادة، فتمتلأ نفسه فرحاً برحمة الله تعالى، وتفاؤلاً واستبشاراً وأملاً كبيراً يملأ حياته لما يجده في الحياة الدنيا من راحة نفس وما ينتظره في الآخرة من المغفرة والأجر العظيم.
أحبتي .. علينا أن نتذكر دوماً وعد الصدق الذي وعدنا الله: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) .. علينا ألا نغفل عن ذكر الله، فهو أكبر من أي شيء وأكبر من كل شيء؛ قال تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾، عسى أن نكون من الذين قال الله فيهم: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾، وخاطبهم بقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ولا نكون من الذين قال الله فيهم: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

https://goo.gl/MQkh9e