الجمعة، 3 يوليو 2020

الصبر على قضاء الله

الجمعة 3 يوليو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٦

(الصبر على قضاء الله)

 

هذه قصة سيدةٍ تحمل شهادةً جامعيةً وتتمتع بجمالٍ أخاذٍ، وبالرغم من جمالها فقد تعثرت خطواتها على طريق السعادة طويلاً؛ إذ تزوجت وهي في العشرين لبضع سنواتٍ ثم طُلقت لعدم الإنجاب، ثم تزوجت من شخصٍ آخر لسنواتٍ أخري، وطُلقت لنفس السبب، ونصحها الأطباء بألا تسعى للإنجاب مرةً أخرى لأن طريقه مسدودٌ أمامها ولا أمل لها فيه. انطوت السيدة الشابة على نفسها، وراحت تجتر أحزانها وآمالها الحسيرة، حتى ساقت إليها الأقدار مهندساً يكبرها بعشرين عاماً كان متزوجاً وفشل في زواجه لعدم الإنجاب ولعدم صبر زوجته السابقة عليه إلى أن يؤتي العلاج ثماره معه؛ فوجد كلٌ منهما في الآخر ضالته، وتزوجا وكلٌ منهما مقتنعٌ في أعماقه بألا أمل له في الإنجاب، لكن لا بأس من الأخذ بالأسباب، ولو من باب شغل النفس عن أفكارها وهواجسها بزياراتٍ للأطباء، وخضوعٍ للفحوص، وإجراءٍ للتحاليل، إلخ.. ولأن تخصص الزوج دقيقٌ فقد أتيحت له فرصٌ عديدةٌ للسفر إلى الخارج، واصطحب زوجته دائماً معه في هذه الرحلات، وفي كل رحلةٍ يعرضان نفسيهما على المراكز المتخصصة في علاج العُقم، ويُجريان الفحوص ويتلقيان العلاج بلا طائل. مضت عشر سنواتٍ كاملةٍ على حياتهما معاً على هذا النحو، إلى أن لاح لهما -ولأول مرةٍ- أملٌ ضعيفٌ في الإنجاب عن طريق الإخصاب الصناعي أو الأنابيب، وكانا في ذلك الوقت يقيمان في دولةٍ أوروبيةٍ متقدمةٍ، فخاضا التجربة وفشلت، وخاضاها مرةً ثانيةً وفشلت أيضاً، وكرراها للمرة الثالثة فكُتب لها النجاح وبدأت بشائر الحمل تظهر على السيدة وطار الزوجان فرحاً، وترقبا مولودهما السعيد بلهفةِ مَن ينتظره بشوقٍ منذ عشرين عاماً، وخطرت لهما فكرة أن يكون مولد الطفل المرتقب في الرحاب الطاهرة؛ فسافرا من الدولة الأوروبية إلي الأراضي المقدسة، وأديا العمرة، وأقاما في جوار الحرم الشريف ينتظران موعد الولادة إلي أن جاء ووضعت الأم مولودها وقرت به أعين الأب والأم، وقررا أن يرجعا للاستقرار في مصر، ويكفا عن التجوال والترحال ليوفرا لابنهما الحياة العائلية الهادئة. رجعا بالفعل إلى بلدهما، وأقام الرجل مشروعاً خاصاً له إلى جانب عمله في تخصصه الدقيق.

ومضت الأيام رخيةً هانئةً إلى أن اقترب عيد الميلاد الثامن للابن الوحيد، وبدأ الوالدان يستعدان للاحتفال به، وفي عزمهما أن يكون الاحتفال هذه المرة أكبر من كل مرةٍ سابقةٍ، وقبل الموعد المنتظر بيومين خرج الطفل الصغير يلهو بدراجته في الشوارع المحيطة بمسكنه فإذا بسيارةٍ مسرعةٍ تصدم الطفل؛ وتقتل الفرحة في حياة أبويه وسعادتهما، وتقضي على كل شيءٍ جميلٍ في دنياهما. وكان الابتلاء شديداً فاسودت جدران المسكن، وانطفأت أنواره، وخيم عليه الظلام والكآبة. وتجمعنا نحن الأهل والأصحاب نواسي الزوجين، ولا يجرؤ أحدنا على الحديث عن العوض أو الإبدال المذكور في القرآن الكريم؛ إذ من أين يأتي العوض أو الإبدال، وقد كان إنجاب هذا الطفل الفقيد ثمرة جهودٍ استمرت عشرين سنةً، وكان مولده معجزةً لا تتكرر؟ لهذا فقد دار حديث المواساة كله حول الأبرار الصغار وكيف يشفعون لآبائهم وأمهاتهم عند رب العرش العظيم، وكيف يراغم الطفل البريء الملائكة عند باب الجنة لا يريد أن يدخلها إلا وفي يده أبوه وأمه. ثم انسحب الجميع وتركوا الزوجين الحزينين لأحزانهما وآلامهما.

بدأت الزوجة تشكو من الأمراض والآلام الجسدية، واستشارت طبيبها فأخضعها لفحوصٍ عديدةٍ ثم أعلنها بأنها حامل! فصرخت السيدة باكيةً وظنت أن طبيبها يحاول تخفيف مأساتها عنها بأن يعلقها بأملٍ مستحيلٍ في الإنجاب، لكي ترتفع معنوياتها وتتخفف من أحزانها وصارحته بذلك، وقالت له إنه من المستحيل أن تحمل مرةً أخرى؛ لأن حملها الأول كان معجزةً وتم عن طريق الأنابيب بعد عذابٍ طويل، فأجابها الطبيب بهدوءٍ إنه لا دخل له بما حدث في الماضي، ولا يسمح لنفسه بأن يُعلق مريضاً بأملٍ موهومٍ حتى ولو كان ذلك بدافع التخفيف عنه، وإنما هو أمام فحوصٍ علميةٍ ونتائج موثوقٍ بها تؤكد له ما يقول، وفي البداية وفي النهاية فإن إرادة الله لا يستعصي عليها شيء.

انصرفت الزوجة ذاهلةً، وظلت على ذهولها بضعة أسابيع إلى أن اكتمل الحمل وظهرت عليها أعراضه، وبعد شهور أخرى جاء المولود إلى الحياة مصداقاً لقوله تعالى: ﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾. وكان من عجائب صنع الله أن يكون الفارق الزمني بين رحيل الطفل الأول ومجيء الثاني هو تسعة أشهر و15 يوماً على وجه التحديد، وسرعان ما أضيئت أنوار البيت المظلم من جديد، وتجمعنا حول الزوجين مرةً أخرى، فشتان كان الفارق بين تجمعنا لديهم هذه المرة وبين تجمعنا السابق في منزلهم قبل تسعة أشهرٍ، ودار الحديث هذه المرة بلا حرجٍ عن العوض والإبدال، ورحمة الله بالمحزونين، وأكد لنا الأبوان عزمهما علي مواصلة مشروع دار الأيتام الذي كانا قد بدآه عقب وفاة ولدهما الأول شكراً لله وحمداً وعرفاناً، ولكيلا ينسيهما تعويض الله سبحانه وتعالى لهما ما انتوياه وهما في غمرة الأحزان، باركنا عزمهما، وأيدناهما فيه، ورجونا لهما السعادة والأمان.

ولم يكتف الله عزَّ وجلَّ بتعويضهما وإبدالهما خيراً ممن فقدا، وإنما أهدى إليهما طفلاً ثانياً بعد تسعة أشهرٍ أخرى من ميلاد الطفل الذي أعاد لهما الأمل في الحياة، وجاء هذا الطفل الثاني أيضاً بلا عمليات جراحيةٍ ولا علاجٍ ولا إخصابٍ؛ فأصبح في حديقتهما زهرتان جميلتان عوضاً لهما عن الزهرة المفقودة، وسبحان من إذا أراد شيئاً قال له ﴿كُنْ فَيَكُون﴾.

 

أحبتي في الله .. يقول ناشر هذه القصة إنه لا عجب في ذلك؛ ألم تشهد حياة كثيرين منا مواقف معينةً بكينا أمامها وأسفنا على ما فاتنا فيها، وضاقت صدورنا باحتمالها، ثم لم تلبث الأيام أن أثبتت لنا أنها لم تكن سوى مقدمةٍ لخيرٍ عميمٍ أراده الله لنا، وقصرت آمالنا حتى عن التطلع إليه؟ ألم تراودنا في بعض مراحل العمر آمالٌ رغبنا بشدةٍ في أن نحققها لأنفسنا، وشعرنا بالحسرة لعجزنا عن بلوغها، ثم مضت بنا رحلة الحياة فإذا بنا نُسَلِّم بأننا لو كنا قد بلغنا تلك الآمال في حينها، لحالت بيننا وبين ما أراده لنا المولى عزَّ وجلَّ فيما بعد من خيرٍ أعمٍ وأبقى؟

إنها دعوةٌ للتمسك بالأمل في رحمة الله إلى ما لا نهاية، مهما تشتد الأحزان والآلام؛ ودعوةٌ إلى (الصبر على قضاء الله) فرحمته تأتي في أي وقتٍ يشاء، كيفما يشاء، لمن يشاء، وإرادته لا تقف دونها الحوائل والسدود. إن رحمة الله سبحانه وتعالى التي وسعت كل شيءٍ لا تضيق بمن يظنون في غمرة اليأس والقنوط ألا مخرج لهم مما يكابدون، غير أننا مأمورون بالصبر على ما نكره، والتعلق بالأمل دوماً في رحمة الله أن يحقق لنا ذات يومٍ ما نرجوه لأنفسنا ولو طال بنا الانتظار.

لقد لاحظ بعض المفسرين أن الله سبحانه وتعالى لم يأمر رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه بالاقتداء بأسلافه من الرسل في خُلُقٍ بذاته إلا في الصبر على ما لاقوه من شدائد وواجهوه من محن، وأنه سبحانه وتعالى قد قرن أمره لرسوله بالصبر في أكثر من موضعٍ بالقرآن الكريم بأمره له أن يسبح بحمد ربه كما في الآية الكريمة: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾، وقيل في تفسير ذلك إن التسبيح هنا يحمل معنيين جليلين: الأول هو تنزيه الله سبحانه وتعالى عن أن يفعل شيئاً عبثاً، أو أن يصدر عنه ما لا يليق بكماله وكرمه وحكمته؛ فإذا ابتلى بعض عباده بما يشق عليهم احتماله في حينه فلحكمةٍ يعلمها هو وإن خفيت على أفهامهم. وأما المعنى الآخر فهو أن له سبحانه وتعالى في كل شدةٍ عطاءٌ وفي كل بليةٍ نعمةٌ، فكأنما نبادر بالتسبيح والحمد في ذروة الشدة عسى أن يُعجل الله لنا بالكشف عن عطائه المحجوب وراء هذا الابتلاء، على غرار ما يقال عن الألطاف الإلهية التي يقول الواصلون إنها ذلك التدبير الإلهي الذي قد يأتينا أحياناً بما نكره ليحقق لنا فيما بعد ما نحب، فيكون اختيار الله لنا حين يجئ أفضل مما اخترناه نحن لأنفسنا وأشمل فضلاً وكرماً.

 

سبحان الله جلت قدرته، وإن خفيت حكمته؛ فكم من المرات دعونا الله ولم يُستَجَب لدعائنا، ومع (الصبر على قضاء الله) يُنعم علينا سبحانه بأفضل مما كنا ندعو؟ لأننا كنا نثق في أن الاستجابة ستكون حتماً بإحدى ثلاثٍ ذكرها النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا] قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: [اللَّهُ أَكْثَرُ].

فمع الدعاء و(الصبر على قضاء الله) لا يكون في نفس المؤمن محلٌ ليأسٍ أو قنوطٍ أو تشاؤمٍ؛ قال الشاعر:

‏قُل للذي مَلأ التشاؤمُ قلبَه

ومضى يُضيِّقُ حولنا الآفاقا

سرُّ السعادةِ حُسنُ ظنِك بالذي

خلقَ الحياةَ وقسَّمَ الأرزاقا

 

أحبتي .. لنتمسك بالأمل والثقة في المولى عزَّ وجلَّ بغير حدودٍ، ونُحسن الظن به؛ وهو القائل في الحديث القدسي: {أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي}. ما أيسر على الله أن يُحقق لنا ما نراه بعيد المنال؛ يقول سبحانه: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا﴾؛ فلنحسن الظن بالله ولا نستحسر في دعائنا كما أوصانا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال: [لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ] قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: [يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ].

اللهم اجعلنا من الصابرين على قضائك، المستسلمين له، الراضين به، الواثقين في أن به خيراً كثيراً وإن لم نره أو ندركه. اللهم اكتب لنا الخير حيثما كان، ومتى يكون، ورضِّنا به، وبارك لنا فيه، وارزقنا شكرك عليه على الوجه الذي يرضيك عنا.

 

https://tinyurl.com/ya7qdweq