الجمعة، 20 أكتوبر 2017

مروءة بطل

الجمعة 20 أكتوبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٥
(مروءة بطل)

إلى أي مدى تدنت أخلاق الناس؟ لماذا تغيرت إلى الأسوأ؟ وما هو السبيل للارتقاء بالأخلاق إلى ما يجب أن تكون عليه؟
هذه الأسئلة الثلاثة كانت محل حوارٍ في لقاءٍ عائليٍ ممتعٍ احتسينا خلاله الشاي مصحوباً بالكعك وقطعٍ من الحلوى اللذيذة، تبادلنا في هذا اللقاء، إخوةً وأخوات، الأفكار والخواطر حول أحوال الناس هذه الأيام.
انتهى حوارنا إلى أن أخلاق الناس في بلدنا قد وصلت إلى درجةٍ غير مسبوقةٍ من الهبوط والتدني والانحدار، فالناس، إلا من رحم ربي، قد أعمتهم المادة، وصارت معاملاتهم قائمةً على المنفعة، وأصبحت معظم علاقاتهم توزن بميزان المصالح. كما اتفقنا على أن ما وصلنا إليه راجعٌ بالأساس إلى البعد عن أخلاق الإسلام، وضعف التربية الأخلاقية، وتقصير الأسرة في دورها في تنشئة الأبناء تنشئةً صالحة، والضعف المتزايد لدور المدارس في ذلك، وانحراف وسائل الإعلام بل وابتعادها عن النهوض بالدور التربوي الذي ينبغي أن تكمل به دور كلٍ من الأسرة والمدرسة. وكان من المنطقي أن نخلص إلى أن لا فكاك مما نحن فيه إلا بالرجوع إلى أصل كل خُلقٍ قويم وإلى منبع كل قيمةٍ طيبةٍ وإلى المَعين الذي لا ينضب من التوجيهات التي ترشدنا إلى طريق الصواب وإلى سواء السبيل، وذلك بغرس وتعزيز الوازع الديني في نفوس النشء.

أحبتي .. يقول أهل العلم أن الإسلام جاء بتحصيل كل فضيلةٍ ونبذ كل رذيلةٍ، ومن أهم ما جاء به الإسلام لتمييز شخصية المسلم الأخلاق والآداب والعقائد والأحكام، حسبنا ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: [إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ]. وجِماع الأخلاق الإسلامية التي ينبغي أن نتحلى بها ويتحلى بها أبناؤنا في المروءة؛ فهي خلقٌ جليلٌ وأدبٌ رفيعٌ، وهي خُلَّةٌ كريمةٌ وخَصْلَةٌ شريفةٌ تحمل الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات. فالمروءة صدقٌ في اللسان، واحتمال للعثرات، وبذلٌ للمعروف، وكفٌ للأذى، وكمالٌ في الرجولة.
وهي خلقٌ من أخلاق الإسلام لها أثرٌ كريمٌ فى جلب المودة والألفة بين أبناء المجتمع، وهي شاهدٌ من أعمال أهل الفضل، ودعامةٌ من دعائم أهل العزائم القوية والأخلاق الندية، وهى مجمع الفضائل ورأس المكارم، وعنوان الشرف وأساس الاستقامة. وهي التحلي بكل خلقٍ حسن، والتخلي عن كل خلقٍ قبيح. تتطلب المروءة علو الهمة؛ فكلما علت الهمة ازدادت المروءة التي أساسها شرف النفس واستعفافها ونزاهتها. وفيها لذةٌ تفوق كل لذةٍ في هذه الحياة، رغم ما تحتاج إليه من صبر النفوس ومجاهدة الهوى. وقد جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: [مَنْ عَامَلَ النَّاسَ فَلَمْ يَظْلِمْهُمْ، وَحَدَّثَهُمْ فَلَمْ يَكْذِبْهُمْ، وَوَعَدَهُمْ فَلَمْ يُخْلِفْهُمْ، فَهُوَ مَنْ كَمُلَتْ مُرُوءَتُهُ، وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ، وَوَجَبَتْ أُخُوَّتُهُ، وَحُرِّمَتْ غَيْبَتُهُ].
قيل لأحد العلماء: قد أكثر الناس في ذكر المروءة فَصِفْها لنا وأوجز. فقال: هي في قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾..
وقيل لآخر: قد استنبطت من القرآن كل شيءٍ، فأين المروءة فيه؟ فقال: في قول الله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ ففيه المروءة، ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق.

لقد جاء الإسلام فأقر ما كانت عليه العرب من قيمٍ ومبادئ وأخلاقٍ حسنةٍ، ونهى عن السيئ منها؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا]. وكان النبل وكانت المروءة من أفضل خصال وأحسن صفات العرب في الجاهلية فأبقى عليها الإسلام وأشاد بها وحث عليها؛ فما كان الفارس ليقاتل راجلاً، فإن عُقر حصانه، أو قُتل فرسه، فإن مبارزه يترجل من على صهوة جواده، فيقاتل خصمه راجلاً مثله، أو ينتظر حتى يأتي خصمه بفرسٍ أخرى، يمتطيها ويواصل القتال من على ظهرها، فالمبارزةُ نِدٌ لندٍ، وفارسٌ يواجه فارساً، وإلا فراجلٌ مقابل راجلٍ. أما إن كُسِرَ سيف المبارز، أو سقط من يد حامله؛ فإن منافسه ينتظر حتى يحمل خصمه سيفاً آخر، أو يلتقط سيفه من الأرض، ولا يبادره في هذه الحالة غدراً بضربةٍ من سيفه، أو طعنةٍ من رمحه، حتى وإن سقط على الأرض، فإنه ينتظر نهوضه، ويستعد لمبارزته من جديد، لينال شرف الانتصار عليه بقوة.

ومن أروع القصص الواقعية التي تُظهر مروءة الشخص المسلم في أجمل مظاهرها قصة بطل الجودو المصري محمد على رشوان الذي أدهش العالم بأخلاقه؛ كان ذلك في أولمبياد لوس أنجلوس عام 1984م، فلحظة تحقيق حُلم الفوز بميداليةٍ ذهبيةٍ والصعود إلى منصة الشرف ورفع علم مصر كانت قد اقتربت، كانت هذه اللحظة تتويجاً لما عاش رشوان يحلم به ويعمل جاهداً من أجل الوصول إليه، فيما كان الأولمبياد قد أشرف على الانتهاء، ورشوان قد فاز على جميع منافسيه حتى وصل للمباراة النهائية أمام البطل الياباني ياسوهيرو ياماشيتا، وهو بطل العالم في الجودو آنذاك، وجدَ رشوان نفسه أمام منافسةٍ قويةٍ، لكنه عزم على الفوز. وقبل أن تبدأ المباراة، ومن غرفته التى كانت تسمح لهُ برؤية صالة التسخين، كانت المفاجأة التي لم يتوقعها أبداً، ولم تكن لتخطر على باله ولا في الخيال؛ فقد رأى رشوان ومدربه البطل الياباني وهو يُعالَج من إصابةٍ في قدمه وقطعٍ في رباط رُكبته اليمنى. أيقن مُدرب رشوان آنذاك أن فرصة الفوز بالبطولة جاءت لرشوان على طبقٍ من ذهب، لم يتحدّث رشوان وقتها، وخاض المباراة النهائية بنزاهةٍ، لم يستغل نقطة ضعف ياماشيتا ويضربه في قدمه المُصابة، وعندما أمره المدرب بتوجيه الضربات المتتالية في القدم المصابة، رفض رشوان، بل تراجع أمام خصمه وتركه يفوز بالمباراة، ليحصل البطل الياباني على الميدالية الذهبية والمركز الأول في البطولة ويحصل رشوان على الميدالية الفضية والمركز الثاني في البطولة. بعد انتهاء المباراة، حضرَ رشوان مؤتمراً صحفيّاً عادةً ما يُعقد للفائزين، وواجه اندهاش جميع الحاضرين من تراجع مستواه في تلك المباراة تحديداً وكأنّ شخصاً آخر هو من خاضها، حتى قام صحفيٌ يابانيٌ وسأل رشوان: «هل كُنت تعلم بإصابة ياماشيتا؟»، فرد عليه بنعم، وهو ما دفع الصحفي لسؤاله عن سر عدم استغلال إصابة البطل الياباني لصالحه، أجاب رشوان قائلاً: «لا ديني ولا أخلاقي تسمح لي بذلك». وبمُجرد أنّ انتهى رشوان من الإجابة، وقف الجميع إجلالاً واحتراماً له، لتخرج بعدها وسائل الإعلام العالمية تشيد بمحمد على رشوان وبأخلاقه الرفعية؛ حيث توقع كل من شاهد المباراة أن يستغل رشوان إصابة منافسة بضربه في ركبته المصابة إلا أن رشوان لم يفعل ذلك وتعمد الخسارة أمامه. أصدرت اليونسكو بياناً أشادت فيه بهذا البطل وامتدحت أخلاقه ومنحته جائزة اللعب النظيف عام 1985م. كما فاز بجائزة أحسن خلقٍ رياضيٍ في العالم من اللجنة الأولمبية الدولية للعدل ومقرها فرنسا.
أما الشعب الياباني فقد أصر على تكريمه في طوكيو فسافر رشوان إليها واستقبله عشرات الآلاف من اليابانيين وكبار المسئولين اليابانيين والرياضيين لأنه حافظ على صورة يامشيتا كبطلٍ رياضيٍ وقوميٍ عندهم.
لكن الجائزة الكبرى أتت من حيث لا يحتسب؛ فقد أعلن مئاتٌ من اليابانيين إسلامهم لجملةٍ عابرةٍ قالها رشوان وصارت عنواناً رئيسياً وهي: "ديني لا يسمح لي إلا بالخلق الحسن"، فأقبل اليابانيون على معرفة الإسلام واعتناقه.
هذه (مروءة بطل) دفعته إلى أن يخسر الميدالية الذهبية بشرفٍ عن أن يفوز بالمركز الأول بالخسة؛ فوضعه العالم في المكان الذي يستحقه.

قال الشاعر عن المروءة:
ويَهُزُّني ذكْرُ المروءةِ والندى
بين الشمائلِ هزةَ المشتاقِ
فإِذا رُزقتَ خَليقةً محمودةً
فقد اصطفاكَ مُقسِّمُ الأرزاقِ
والناسُ هذا حظُّه مالٌ
وذا علمٌ وذاكَ مكارمُ الأخلاقِ

أحبتي .. مَن يريد نصرة الإسلام، ومن يرغب في تقديمه في صورته الحقيقية، ومن يسعى إلى تصحيح الصورة الذهنية المغلوطة عنه، عليه أن ينصره بالأعمال لا بالأقوال، عليه أن يقتدي بأخلاق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي مدحه الله سبحانه وتعالى بقوله: :﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، عليه أن يتأسى به في أخلاقه وفي معاملاته مع الناس. وعلى كلٍ منا أن يقوم بعمله على أكمل وجه، ويراعي ضميره في كل تفاصيل حياته، عليه أن يكون نموذجاً للإسلام الحقيقي، فكل مسلمٍ يجب أن يكون سفيراً لدينه، قدوةً بأخلاقه وسلوكياته كما فعل بطل الجودو المصري محمد علي رشوان. يكفينا درساً أن (مروءة بطل) كانت سبباً في دخول الناس في دين الله أفواجاً.

اللهم اجعلنا دعاةً للإسلام بأخلاقنا وأفعالنا وسلوكنا ومعاملاتنا، وأَعِنَّا على أن نحول الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ إلى واقعٍ يلمسه الجميع فيرون في كلٍ منا (مروءة بطل) تمشي على قدمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/qcDXZP