الجمعة، 25 سبتمبر 2020

الزوجة الصالحة

                                                             الجمعة 25 سبتمبر 2020م


خاطرة الجمعة /258

(الزوجة الصالحة)

 

تقول سيدةٌ لم يسقني ابني العاق يوماً شربة ماء؛ زوجته كانت تحثه على عقوقي، وكانت تعاملني بجفاءٍ مثل ابني وأكثر. ظل قلبي راضياً عنه؛ فرغم كل الأذى الذي شاهدته في سكني عنده.

كنتُ أدعو له بالرضا والهداية، ما سئمتُ من أملٍ يراودني بأن ابني سيُقَبِّل يدي يوماً ما. اشتقتُ أن أضمه إلى صدري، اشتقتُ أن أسمع صوته وهو صغيرٌ يناديني "أمي"، اشتقتُ أن أمسح دموعه التي لم تعد تسيل باسم الرجولة. أشعر بأنه يحمل هموم الدنيا، لكنه يكتم ذلك في صدره؛ فقد كانت الديون تتكاثر عليه، والمرض ينهش في جسد ابنه، وزوجته السيئة لم تعينه يوماً؛ لا على دينه ولا على دنياه، وإنما كانت سبباً في إفساد حياته، وزيادة همومه.

جاء في ليلةٍ متأخراً إلى البيت، وأنا أسكن في إحدى غرفه؛ غرفةٍ باردةٍ مكسورة النافذة. فتح الباب عليّ وجدني أضع سجادة الصلاة لأصلي قيام الليل، نظر إليّ، ولم ينطق بحرفٍ واحد، ظل يُحدق بي، قلتُ له بصوتٍ أتعبه الشوق: "اشتقتُ إليك يا بني"، لم يرد عليّ وأغلق الباب وخرج مسرعاً إلى غرفته. وددتُ لو أتبعه ليُلقي برأسه في حضني ويخبرني بحمول قلبه وهمومه فأخفف عنه، لكنني لم أستطع. تذكرتُ أنني كنتُ أستعد للوقوف بين يدي الرحمن الرحيم؛ فعدتُ إلى سجادتي، ناجيتُ ربي، وبكيتُ بكاءً شديداً لم أبكِ مثله من قبل، شكوتُ إلى الله حال ابني، ودعوتُ له بالهداية والصلاح، وأخبرتُ الله بأني راضيةٌ عن ابني كل الرضا.

أنهيتُ صلاتي وجلستُ أستغفر الله إلى أن سمعتُ أذان الفجر، فصليتُ سُنته وفرضه، وبقيتُ على سجادتي، أدعو الله وأتضرع إليه، ودموعي تنهمر على خديّ كأنها نهر، حتى أشرقت الشمس. لقد استغفرت الله سبحانه وتعالى لمدةٍ زادت عن ثلاث ساعاتٍ متواصلةٍ، لم أشعر بالوقت، ولم أشعر بتعبٍ، وإنما شعرتُ براحةٍ تنتشر في عروقي، واطمئنانٍ يغشى قلبي، شعرتُ بمعنى معية الله والأنس به.

بعد دقائق، سمعتُ صوت ابني وصوت زوجته يتشاجران، سمعته يقول لزوجته: "منذ أن عرفتك لم يحالفني التوفيق في حياتي؛ أنتِ طالق طالق طالق"، خرجتُ من غرفتي مسرعةً كي أمنع زوجة ابني من أن تغادر بيتها؛ فلديها طفلٌ مريضٌ، نظر ابني إليّ قائلاً: "لن أسامح من جعلتني أعق والدتي، دعيها يا أمي فابني في حماية الله وليس في حماية أمٍ لا تعرف معنى الأمومة الحقة، ولم تكن يوماً زوجةً صالحة". غادرت زوجة ابني بيتها، ووقف هو أمامي والدموع تملأ عينيه، فتحتُ له ذراعيّ لأحضنه بقلبي قبل جسدي، لكنه استقر عند قدميّ يقبلهما ويبكي بصوتٍ مرتفعٍ وهو يردد: "سامحيني يا أمي، سامحيني يا أمي"، ضممتُه إلى صدري، ومسحتُ على رأسه بكلتا يديّ، وأخبرته إنني لم أغضب عليه يوماً لأسامحه.

بدأت حياة ابني تتغير شيئاً فشيئاً؛ وجد وظيفةً بمعاشٍ مرتفعٍ ساعده على سداد ديونه، وأصبح ملازماً للمسجد، وبدأت صحة حفيدي تعود إليه. ثم كان يوم فرحٍ لقلبي عندما أخبرني ابني بأنه يريد أن يتزوج ابنة إمام المسجد الذي يصلي فيه. خطبتُ له ابنة الإمام فكانت نعم (الزوجة الصالحة) التي تُعين زوجها، والحمد لله أن ابني الآن من أسعد الناس.

 

أحبتي في الله .. عندما تكون الزوجة صالحةً ينصلح حال جميع أفراد الأسرة، وعندما لا تكون كذلك تزداد المشكلات فلا ينعم أحدهم بالراحة؛ فالزوجة الصالحة نعمةٌ من أجلَّ النعم، وصدق رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام حين قال: [الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ]، يقول شُراح الحديث: إن الدنيا متاعٌ زائلٌ، وخير ما فيها من هذا المتاع المرأة الصالحة؛ لأنها تُسعد صاحبها في الدنيا، وتُعينه على أمر الآخرة، التي هي خيرٌ وأبقى. وصدق صلى الله عليه وسلم حين قال: [مِنْ سعادَةِ ابنِ آدمَ ثلاثَةٌ: المرأةُ الصالحةُ والمسْكَنُ الصالحُ والمركبُ الصالحُ]؛ فالزوجة الصالحة تعين نفسها وزوجها وأبناءها على دينهم؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَن رَزَقَهُ اللَّهُ امرَأَةً صَالِحَةً فَقَد أَعَانَهُ عَلَى شَطرِ دِينِهِ، فَليَتَّقِ اللَّهَ فِي الشَّطرِ الثَّانِي].

فالزواج في الأصل من أعظم أسباب السعادة التي عبَّر عنها المولى عزَّ وجلَّ بالسكينة والمودة والرحمة، وهل هناك سعادةٌ في الدنيا يمكن وصفها بأجمل وأرق من هذه الكلمات؟ يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

وعن صفات (الزوجة الصالحة) يقول الله تعالى: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾، "والقنوت هو دوام الطاعة واستمرارها". ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عنها: [التِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ إِليهَا، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَر، وَلا تُخَالِفُهُ فِي نَفسِهَا وَلا فِي مَالِهِ بِمَا يَكرَهُ]؛ فالزوجة الصالحة -كما يقول العلماء- هي التي تُدخل السرور إلى قلب زوجها، وتحرص على مظهرها وتتزين لزوجها، وتحفظه في عِرضها وماله حال غيابه، وتُطيعه في غير معصية. هي التي تُعين زوجها على أمور دينه ودنياه. تتحلى بالخلق الحسن والأدب الرفيع؛ فلا يُعرف منها بذاءة لسانٍ ولا خبث جنانٍ ولا سوء عِشرةٍ، بل تتحلى بالطيبة والنقاء والصفاء، وتتزين بحُسن الخطاب ولطف المعاملة، وتتقبل النصيحة وتستمع إليها بقلبها وعقلها، ولا تكون من اللواتي اعتدن الجدال والمِراء والكبرياء. و(الزوجة الصالحة) هي التي تحافظ على صلتها بربها، وتسعى دوماً إلى رفع رصيدها من الإيمان والتقوى، فلا تترك فرضاً، وتحرص على شيءٍ من النفل، وتُقدم رضى الله سبحانه على كل ما سواه.

وهي المربية الصادقة لأبنائها، تعلمهم الإسلام والقرآن والخُلق القويم، وتغرس فيهم حب الله وحب رسوله وحب الخير للناس.

قال بعضهم: خير النساء التي إذا أُعطيت شكرت، وإذا حُرمت صبرت، تسرك إذا نظرت، وتطيعك إذا أمرت.

 

وهذا أحد نماذج (الزوجة الصالحة) يقول عنها زوجها: من عشرين عاماً لم أرَ ما يُغضبني من أهلي؛ ففي أول ليلةٍ دخلتُ على امراتي، قلتُ في نفسي: "فلأتطهر وأصلي ركعتين شكراً لله"، فلما سلمتُ وجدتُ زوجتي تصلي بصلاتي، وتسلم بسلامي. فلما خلا البيت من الأصحاب والأصدقاء، قمتُ إليها، فمددتُ يدي نحوها، فقالت: "على رِسلك يا أبا أمية، كما أنت"، ثم قالت: "الحمد لله أحمده وأستعينه، وأصلي على محمدٍ وآله، إني امرأةٌ غريبةٌ لا علم لي بأخلاقك، فبيِّن لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأتركه"، وقالت: "إنه كان في قومك من تتزوجه من نسائكم، وفي قومي من الرجال من هو كفءٌ لي، ولكن إذا قضي الله أمراً كان مفعولاً، وقد ملكتَ فاصنع ما أمرك به الله؛ إمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك". فقلتُ وقد أحوجتني إلى الخطبة في ذلك الموضع: "الحمد لله أحمده وأستعينه، وأُصلي على النبي وآله وأُسلم وبعد، فإنك قلتِ كلاماً إن ثَبَتِّ عليه يكن ذلك حظك، وإن تدعيه يكن حجةً عليك، أحب كذا وكذا وكذا، وأكره كذا وكذا وكذا، وما رأيتِ من حسنةٍ فانشريها، وما رأيتِ من سيئةٍ فاستريها". فقالت: "كيف محبتك لزيارة أهلي"؟ قلتُ: "ما أُحب أن يملني أصهاري"، فقالت: "فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك فآذن له ومن تكره فأكره"؟ فقلتُ: "بنو فلانٍ قومٌ صالحون، وبنو فلانٍ قوم سوءٍ". قال شريح: "فعشتُ معها لا أرى إلا ما أحب، لم أعقب عليها في شيءٍ إلا مرةً، وكنتُ لها ظالماً!

 

ولعل مِن أبلغ مَن تحدث عن سمات (الزوجة الصالحة) تلك الأم التي أوصت ابنتها ليلة زفافها فقالت: "أي بُنيّة؛ إنك قد فارقتِ بيتك الذي منه خرجتِ، ووكرك الذي فيه نشأتِ، إلى وكرٍ لم تألفيه، وقرينٍ لم تعرفيه، فكوني له أمةً يكن لكِ عبداً، واحفظي له عشر خصالٍ يكن لكِ ذُخراً .. أما الأولى والثانية: فالصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحُسن السمع والطاعة .. أما الثالثة والرابعة: فالتعهد لموقع عينيه، والتفقد لموضع أنفه؛ فلا تقع عيناه منكِ على قبيحٍ ولا يشمن منكِ إلا أطيب ريحٍ، والكحل أحسن الحسن الموصوف، والماء والصابون أطيب الطيب المعروف .. وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت طعامه، والهدوء عند منامه؛ فإن حرارة الجوع ملهبةٌ، وتنغيص النوم مكربةٌ .. وأما السابعة والثامنة: فالعناية ببيته وماله، والرعاية لنفسه وعياله .. أما التاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمراً، ولا تفشين له سراً؛ فإنك أن عصيتِ أمره أوغرتِ صدره، وإن أفشيتِ سره لم تأمني غدره. ثم بعد ذلك .. إياك والفرح حين اكتئابه، والاكتئاب حين فرحه؛ فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير .. وأشد ما تكونين له إعظاماً، أشد ما يكون لكِ إكراماً .. ولن تصلي إلى ذلك حتى تؤثري رضاه على رضاكِ .. وهواه على هواكِ .. فيما أحببتِ أو كرهتِ".

 

أحبتي .. يُقال: "بضدها تُعرف الأشياء"؛ فإذا أردنا أن نتعرف على مواصفات (الزوجة الصالحة) فلنتذكر ما قالته بعض العرب عن مواصفات النساء التي يُنصح بتجنب زواجهن: "لا تنكحوا من النساء ستة: لا أنانة، ولا منانة، ولا حنانة، ولا تنكحوا حداقة، ولا براقة، ولا شداقة". والأنانة كثيرة الأنين، والمنانة التي تمن على الزوج بما تفعله، والحنانة التي لها ولدٌ تحن إليه، والحداقة التي تسرق كل شيء بحدقتها وتكلف الزوج، والبراقة التي تشتغل غالب أوقاتها ببريق وجهها وتحسينه، والشداقة كثيرة الكلام.

فلتحرص نساؤنا على أنْ تكنّ نماذج تحتذي بها فتياتنا الصغار؛ بأن تتمسكن بالصفات الطيبة التي تجعلهن خير النساء. وعلى الرجال في المقابل أن يكونوا أزواجاً وآباءً وإخوةً وأبناءً صالحين ليكونوا قدوةً لنسائهم، وليُصلح الله لهم زوجاتهم وأخواتهم وبناتهم.

اللهم اجعلنا -رجالاً ونساءً- من الصالحين، واجعل اللهم أبناءنا وإخوتنا -بنين وبنات- من الذين يقتدون بالصالحين والصالحات منا.

https://cutt.ly/cfB8Yay