الجمعة، 4 مارس 2022

رسالة إلى الله

 

خاطرة الجمعة /333


الجمعة 4 مارس 2022م

(رسالة إلى الله)

كتبت إحدى الأمهات تقول: استيقظتُ مبكراً كعادتي، رغم أن اليوم هو يوم إجازتي، صغيرتي «ريم» كذلك اعتادت على الاستيقاظ مبكراً، كنتُ أجلس في مكتبي مشغولةً بكتبي وأوراقي. "ماما ماذا تكتبين؟"، "أكتب (رسالة إلى الله)"، "هل تسمحين لي بقراءتها ماما؟"، "لا يا حبيبتي، هذه رسائلي الخاصة، ولا أحب أن يقرأها أحد". خرجت ريم من مكتبي وهي حزينةٌ، لكنها اعتادت على ذلك؛ فرفضي لها كان باستمرار. مَرّ على هذا الموضوع عدة أسابيع، ثم ذهبتُ إلى غرفة «ريم»، ولأول مرةٍ ترتبك «ريم» لدخولي، يا تُرى لماذا هي مرتبكة؟ "«ريم»؛ ماذا تكتبين؟"، زاد ارتباكها وردت: "لا شيء يا ماما، إنها أوراقي الخاصة". تُرى ما الذي تكتبه ابنة التاسعة وتخشى أن أراه؟، "أكتب (رسالة إلى الله) كما تفعلين"، قطعتْ كلامها فجأةً وسألتْ: "هل يتحقق كل ما نكتبه يا ماما؟"، "طبعاً يا ابنتي فإن الله يعلم كل شيء". لم تسمح لي بقراءة ما كتبتْ، فخرجتُ من غرفتها واتجهتُ إلى «راشد» كي أقرأ له الجرائد كالعادة، كنتُ اقرأ الجريدة وذهني شاردٌ مع صغيرتي؛ فلاحظ «راشد» شرودي، ظن أنه بسبب تعبي معه، فحاول إقناعي بأن أجلب له ممرضةً كي تُخفف عني هذا العبء، يا إلهي، لم أكن أريده أن يُفكر هكذا؛ فحضنتُ رأسه، وقبّلتُ جبينه الذي طالما تعب وعرق من أجلي أنا وابنته «ريم»، واليوم يحسبني أتعب من أجله؛ فأوضحتُ له سبب حُزني وشرودي. ذهبتْ «ريم» إلى المدرسة، وعندما عادت كان الطبيب في البيت فهُرعتْ لترى والدها المُقعد، وجلستْ بقربه تواسيه بمداعباتها وهمساتها الحنونة، وضّح لي الطبيب سوء حالة «راشد» وانصرف، تناسيتُ أن «ريم» ما زالت طفلةً، ودون رحمةٍ صارحتها بأن الطبيب أكد لي أن قلب والدها الكبير الذي يحمل لها كل هذا الحب بدأ يضعف كثيراً، وأنه لن يعيش لأكثر من ثلاثة أسابيع، انهارت «ريم» وظلت تبكي وتردد: "لماذا يحصل كل هذا لبابا؟ لماذا؟"، "ادعي له بالشفاء يا «ريم»، يجب أن تتحلي بالشجاعة، ولا تنسيْ رحمة الله، إنه القادر على كل شيءٍ، فأنتِ ابنته الوحيدة". أنصتتْ «ريم» إليّ ونست حزنها وداست على ألمها وتشجعتْ وقالت: "لن يموت أبي". في كل صباحٍ تُقبّل «ريم» خد والدها الدافئ، لكنها اليوم عندما قبّلته نظرتْ إليه بحنانٍ وتوسلٍ وقالت: "ليتكَ توصلني يوماً إلى المدرسة مثل صديقاتي"، غمره حزنٌ شديدٌ حاول إخفاءه وقال: "إن شاء الله سيأتي يومٌ وأوصلك فيه يا «ريم»"، وهو واثقٌ أن إعاقته لن تُكمّل فرحة ابنته الصغيرة. أوصلتُ «ريم» إلى المدرسة، وعندما عدتُ إلى البيت تملكني فضولٌ لرؤية الرسائل التي تكتبها ريم إلى الله، بحثتُ في مكتبها، وبعد بحثٍ طويلٍ لم أجد أي شيءٍ، تُرى أين هي تلك الرسائل؟! تُرى هل تُمزقها بعد كتابتها؟، ربما تكون الرسائل هنا؛ لطالما أحبت «ريم» هذا الصندوق، طلبتْه مني مراراً، فأفرغتُ ما فيه وأعطيتها إياه، يا إلهي إنه يحوي رسائل كثيرةً، وكلها إلى الله: يا رب يموت كلب جارنا سعيد لأنه يخيفني. يا رب قطتنا تلد قططاً كثيرةً لتعوضها عن قططها التي ماتت. يا رب ينجح ابن خالتي لأني أحبه. يا رب تكبر أزهار بيتنا بسرعة لأقطف كل يومٍ زهرةً وأُعطيها معلمتي. والكثير من الرسائل الأخرى، كان أطرفها التي تقول فيها: "يا رب يا رب كبّر عقل خادمتنا لأنها أرهقت أمي". يا إلهي كل الرسائل مستجابةٌ؛ لقد مات كلب جارنا منذ أكثر من أسبوع، قطتنا أصبح لديها صغارٌ، ونجح «أحمد» بتفوق، وكبرت الأزهار و«ريم» تأخذ كل يومٍ زهرةً إلى معلمتها. يا إلهي لماذا لم تدعُ «ريم» ليشفى والدها ويرتاح من عاهته؟!! شردتُ كثيراً وقلتُ في نفسي: "ليتها تدعو له". لم يقطع هذا الشرود إلا رنين الهاتف المزعج، ردت الخادمة ونادتني: "سيدتي؛ المدرسة، المدرسة!!"، "ما بها «ريم»؟ هل فعلتْ شيئاً؟"، أخبرتني المتصلة أن «ريم» قد وقعتْ من الطابق الرابع وهي في طريقها إلى منزل معلمتها الغائبة لتُعطيها الزهرة، وهي تُطل من الشرفة وقعت الزهرة ووقعت «ريم». كانت الصدمة قويةً جداً لم أتحملها أنا ولا «راشد»، ومن شدة صدمته أصابه شللٌ في لسانه؛ فمن يومها لا يستطيع الكلام. "لماذا ماتت «ريم»؟"، لا أستطيع استيعاب فكرة وفاة ابنتي الحبيبة. كنتُ أخدع نفسي كل يومٍ بالذهاب إلى مدرستها كأني أوصلها، كنتُ أفعل كل شيءٍ كانت صغيرتي تُحبه، كل زاويةٍ في البيت تُذكرني بها، أتذكر رنين ضحكاتها التي كانت تملأ علينا البيت بالحياة.

مرت سنواتٌ على وفاتها، كنا نتوقع موت أبيها المقعد المريض فإذا هي التي تموت! تمر ذكراها كأنها ماتت اليوم. في صباح يوم الجمعة أتت الخادمة وهي فزعةً وتقول إنها سمعت صوتاً صادراً من غرفة «ريم»، "يا إلهي هل يُعقل؟ «ريم» عادت؟! هذا جنونٌ. أنت تتخيلين. لم تطأ قدمٌ هذه الغرفة مُنذ أن ماتت «ريم»". أصر «راشد» على أن أذهب وأرى ماذا هناك. وضعتُ المفتاح في الباب، وانقبض قلبي، فتحتُ الباب فلم أتمالك نفسي، جلستُ أبكي وأبكي. ورميتُ بنفسي على سريرها، إنه يهتز. نعم تذكرتُ؛ قالت لي مِراراً أنه يهتز ويُصدر صوتاً عندما يتحرك، ونسيتُ أن أجلب النجار كي يُصلحه لها، لا فائدة الآن. لكن ما الذي أصدر الصوت؟ نعم؛ إنه صوت وقوع اللوحة التي زُينت بآية الكرسي، وكانت تحرص «ريم» على قراءتها كل يومٍ حتى حفظتها، وحين رفعتُها كي أعلقها وجدتُ ورقةً بحجم البرواز وُضعت خلفه، يا إلهي؛ إنها إحدى الرسائل التي كتبتها «ريم». يا تُرى ما الذي كان مكتوباً في هذه الرسالة بالذات؟ ولماذا وضعتها «ريم» خلف الآية الكريمة؟ إنها إحدى الرسائل التي كانت تكتبها «ريم» إلى الله كان مكتوباً فيها: "يا رب خُذ من عمري واعطِ بابا، يا رب أموتُ أنا، ويعيش بابا".

 

أحبتي في الله .. ذكرتني هذه القصة بأخرى مشابهةٍ لها، الفرق بين القصتين أنّ الأولى حقيقيةٌ حدثت بالفعل، أما الثانية فقد كانت قصة فيلمٍ سينمائيٍ عن طفلين صغيرين يعيشان مع أبيهما وأمهما في بيتٍ ريفيٍ بسيطٍ. مرضت الأم واحتاجت لإجراء عمليةٍ جراحيةٍ، ولكن أنّى لها ذلك والأب فقيرٌ لا يملك المال اللازم لإجرائها، ما دفعه للذهاب إلى المدينة علّه يجد من أصدقائه من يُقرضه المال. في غياب الأب وقعت مسؤولية تلبية حاجات المنزل على عاتق الابن ذي السنوات السبع؛ فكان يذهب يومياً هو وأخته إلى المدرسة، وحين يعودان إلى البيت يضع حقيبته المدرسية، ويحمل الحطب من غرفة المؤونة للداخل كي يعمّ الدفء في جو البيت الشتوي البارد، وبعدها يذهب كباقي أهل القرية لصيد البط لطهيه للطعام، وما يزيد من الصيد يبيعه ليكسب قليلاً من المال. شاهد في أحد الأيام -وهو في المدرسة- عامل البريد يُسلم للمعلم خطاباً؛ فخطرت له فكرة أن يرسل (رسالة إلى الله)! ما إن انتهى الدوام حتى ذهب إلى الحانوت واشترى ظرفاً وطوابع بريدٍ وعاد مُسرعاً إلى البيت، ودخل غرفة المؤونة وجلس هو وأخته ذات السنوات الست يخطان (رسالة إلى الله)، كتبا فيها: “سلامٌ يا الله، أمنا مريضةٌ وحالتها سيئةٌ للغاية، لابدّ لأمي من الذهاب للمشفى للعلاج، والمشفى يطلب مالاً كثيراً؛ لذا قصد أبي المدينة منذ عدة أيامٍ بحثاً عن شخصٍ يُقرضه مالاً، وإذا لم يتمكن أبي من أن يأتي بالمال الكثير فلن تتعافى أمنا، قالت جدتي: إنّ الله يستطيع أن يفعل كل شيءٍ، وأن الله يُشفي المرضى، لذلك أنا وأختي نكتب لك هذه الرسالة حتى  تقرأها وترسل لنا من يأخذ أمي إلى المشفى، أنت حنونٌ جداً، وأنت تُحبّ الأطفال كثيراً، ونحن نحبك كثيراً، وإذا أرسلتَ من يأخذ أمي إلى المشفى فسنحبك أكثر، وإذا لم يحدث ذلك فسنكون أنا وأختي حزينين جداً.  أنا وأختي لا نعرف أحداً غيرك أنت لنطلب منه أن يُساعدنا، سنأتي كلّ يومٍ ونقف عند مدخل قريتنا ننتظر حتى تبعث إلينا أحداً معه سيارةٌ ليأخذ أمنا إلى المستشفى". انتهى الطفلان من كتابة الرسالة، وكتبا على الظرف (رسالة إلى الله)، وذهب الابن فوضعها في صندوق البريد. في مكتب البريد لاحظت الموظفة أن الظرف كان مفتوحاً مما أثار فضولها لمعرفة العنوان المُراد إيصال الرسالة إليه، وفوجئت أنها (رسالة إلى الله) فأخرجت الرسالة وبدأت في قراءتها فانهمرت دموعها واجتمع زملاؤها، وأتى مديرها وأخذ الرسالة من يدها وقرأها بصوتٍ عالٍ أمام الجميع؛ فكان الحسّ الإنساني لديهم كبيراً، فقرروا أن يرسلوا سيارة إسعافٍ إلى القرية ويأتوا بأم الطفلين للمشفى ليتم علاجها. وهكذا استجاب الله لرسالة الطفلين بأن أوحى لموظفي البريد بتقديم المساعدة للأم المريضة، وبذلك تحققت أحلام الطفلين البريئين في إجراء العملية الجراحية لأمهما.

 

أحبتي .. رغم اختلاف البيئة والثقافة والتقاليد والعادات واللغة بين مجتمع وآخر تبقى سمات البراءة والعفوية والصفاء واحدةً لدى جميع الأطفال.

فماذا عنا نحن الكبار؟ هذا السؤال سأله أحد الكُتّاب فقال: "لو أُتيح لكل واحدٍ منا أن يكتب (رسالة إلى الله)، ماذا سيقول فيها؟ ما الحوائج التي سيطلبها؟ وما الرغائب التي سيتمناها؟ وما المصائب التي سيطلب دفعها؟"، أما أنا فأقول: قبل أن يُرسل أحدنا (رسالة إلى الله) ليسأل نفسه أولاً: ماذا عن رسالة الله التي أرسلها إليّ؛ إلى أي مدى استجبتُ لها؟ هذا هو السؤال؛ يقول تعالى على لسان سيدنا صالح عليه السلام: ﴿يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾. اللهم اجعلنا ممن يُحبون الناصحين، ورُدنا إليك رداً جميلاً، ويسّر لنا ربنا أن نكون أوفياء لرسالتك إلينا، التي أوصلها إلينا رسلك وأنبياؤك، رسالة الإسلام، التي كملت وتمت على يد نبينا الكريم، آخر الأنبياء وخاتم المرسلين، صلواتك اللهم وسلامك عليه؛ إذ تقول -وقولك الحق-: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾. اللهم أعنّا على أن نحيا ونموت ونحن مسلمون حقاً، قولاً وفعلاً، على الوجه الذي يُرضيك عنا، إنك سبحانك على كل شيءٍ قدير.

 

https://bit.ly/3Mrw0K2