الجمعة، 23 فبراير 2024

كفالة اليتيم

 

خاطرة الجمعة /435

الجمعة 23 فبراير 2024م

(كفالة اليتيم)

 

يقول رجلٌ رأيت أمام أحد المحلات امرأةٌ تصرخ بعصبيةٍ في وجه ابنها الصغير، وتبكي، وكان يقف بالقُرب منها شابٌ تبدو عليه علامات الغضب والعصبية، فشدني الفضول لمعرفة ما يحدث معهم؛ حيث كان الشاب يصرخ في وجه المرأة، وكانت المرأة تصرخ في وجه ابنها، وبدأ الناس يحتشدون حولهم ويُشاهدون ما يحدث، اقتربتُ من الشاب وسألتُه عن سبب الشجار؛ فقال: "ابن هذه المرأة قام برمي حجرٍ على زجاج المحل فكسره، وعندما طلبتُ من أمه دفع ثمن الزجاج المكسور قالت لي إن ابنها يتيمٌ وليس لديها مالٌ" واستطرد الشاب يقول: "أنا مجرد عاملٍ في المحل، وإذا عرف صاحب المحل بما حدث فسيُحملني المسؤولية"، فسألتُ المرأة: "لماذا لا تدفعين المال للشاب كي يقوم بتركيب زجاجٍ بدلاً من الذي كسره ابنك؟"، قالت المرأة وهي تبكي: "من أين أدفع له هذا المبلغ؟ والله إننا نمنا البارحة دون عشاءٍ، فنحن لا نملك المال لشراء الخبز، ولا يوجد من يعولنا، نأكل يوماً ونجوع أسبوعاً". أحزنني حديثها وشعرتُ بالأسف لما يحصل معها، فقلتُ للشاب: "سوف أتكفل بدفع نصف المبلغ، وسننتظر حتى يصل صاحب المحل وسأطلب منه أن يُسامح المرأة في النصف الآخر؛ فاتركها تذهب الآن"، لكن الشاب أصَّر على عدم مُغادرة المرأة حتى يأتي صاحب المحل ويُسلمه القضية ويُخرج نفسه من المشكلة حتى لا يتحمل المسؤولية.

بعد ساعةٍ وصل صاحب المحل، وحكى له الشاب ما حدث، وتقدمتُ لصاحب المحل وقلتُ له: "إن حالة المرأة صعبةٌ جداً؛ فهي مَن تعول أسرتها ولا تمتلك المال لشراء الطعام لصغارها، وقد تكفلتُ أنا بنصف تكلفة تركيب زجاجٍ جديدٍ، أما النصف الآخر فأطلب منك أن تتكفل به لوجه الله"؛ فقال صاحب المحل: "أبداً؛ سأتكفل أنا بالمبلغ كله وحدي لوجه الله، وأعفو عنها وأتركها تذهب"، لم أستطع أن أمنع دموعي؛ فتساقطت بشكلٍ لا ٳرادي، وقلتُ له: "جزاك الله خيراً، جعل الله هذا في ميزان حسناتك، وعوضك عن خسارتك"، ثم قلتُ للمرأة: "إنني كنتُ قد نويتُ أن أدفع المال لوجه الله؛ فلا ترديني، هذا المال لكِ"، ثم فوجئتُ بصاحب المحل وقد أخرج مبلغاً من جيبه وأعطاه للمرأة أيضاً. شعرتُ بالدهشة للتعاطف الذي حصل مع هذه المرأة وكأن بينها وبين الله سراً؛ فقد كانت تبكي حُزناً منذ قليلٍ، وأصبحت الآن تبكي فرحاً! أخذت المرأة المال وهمَّت بمغادرة المكان فسألتها: "معذرةً يا أختي؛ أخبريني ما الذي بينك وبين الله حتى تبدلت دموعك من دموع حزنٍ إلى دموع فرحٍ، لقد كنتِ قبل قليلٍ في مشكلةٍ وكان عليك أن تدفعي المال بشكلٍ إجباريٍ ولكن بدل ذلك أرى أنكِ حصلتِ على المال!"، أجابت وهي تبكي: "إن معي في المنزل-إضافةً إلى ابني اليتيم- أربع بناتٍ لسن بناتي فهُنّ بنات أختي الراحلة، تكفلتُ بهنّ عندما قرَّر والدهن أن يتزوج بعد رحيل أرملته، وتركهن دون رعايةٍ أو اهتمامٍ في بيت أهله؛ فقررتُ أن أتكفل بهن لوجه الله، لقد مرّ على رعايتي لهن خمس سنوات". يقول الرجل: "عرفتُ الآن السر الذي جعلني أبكي كلما تذكرتُ تلك المرأة وما حدث معها".

 

أحبتي في الله.. لقد كان السر هو (كفالة اليتيم)؛ يقول أهل العلم إن اليتامى هُم أطفالٌ ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بموت الأبوين أو أحدهما؛ فحُرموا الأُبوة والرعاية، والدفء والحنان، فحثَّ الله سبحانه وتعالى على (كفالة اليتيم) ليقوم المؤمنون بهذا الدور الأبوي العظيم، والعمل الإنساني الفضيل؛ إحساناً منهم وتفضلاً؛ فالإحسان إلى اليتيم خُلقٌ إسلاميٌ رفيعٌ، حثنا ديننا عليه وندبنا إليه، بل وجعله من أفضل الأعمال وأزكاها. والاهتمام باليتامى والوقوف على شؤونهم ورعاية مصالحهم شرفٌ ومنقبةٌ؛ فقد اهتم الإسلام بشأن (كفالة اليتيم) اهتماماً بالغاً؛ من حيث تربيته ورعايته ومعاملته وضمان سُبل العيش الكريم له؛ بدفع المضار عنه، وجلب المصالح له في ماله، وفي نفسه، والحث على الإحسان إليه، ومراعاة الجانب النفسي لديه.

 

وردت كلمة اليتيم ومشتقاتها في العديد من آيات القرآن العظيم، منها: يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾. ويقول سبحانه: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾. ويقول أيضاً: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾. ويقول كذلك: ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾. كما يقول: : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾.

 

وعن (كفالة اليتيم) قال النبي صلى الله عليه وسلم: [أنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا] وَأشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئاً. وقال عليه الصلاة والسلام: [أدْنِ اليَتِيمَ مِنْكَ وأَلْطِفْهُ وامْسَحْ بِرَأسِهِ وأَطْعِمْهُ مِنْ طَعامِكَ فإنَّ ذَلِكَ يُلَيِّنُ قَلْبَكَ ويُدْرِكُ حاجتك]. وقال: [إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ؛ فَأَطْعِمِ الْمَسَاكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ]. وقال أيضاً: [مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إِلَّا لِلَّهِ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٌ، وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَى يَتِيمَةٍ أَوْ يَتِيمٍ عِنْدَهُ، كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ] وَقَرَنَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى. وقَالَ كذلك: [خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ]. كما قَالَ: [مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ إِلَى طَعَامِهِ، وَشَرَابِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِىَ عَنْهُ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ الْبَتَّةَ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ]، وذكر منها: [أَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [اللَّهمَّ إنِّي أحرِّجُ حقَّ الضَّعيفينِ اليتيمِ والمرأةِ] ومعنى أحرج: أحذر من الوقوع في ظلمهم. وقال: [والذي بَعَثَني بالحَقِّ لا يُعَذِّبُ اللهُ يومَ القيامةِ مَن رَحِمَ اليَتيمَ، وأَلانَ له في الكلامِ، ورَحِمَ يُتْمَه وضَعْفَه]. وقال أيضاً: [مَنْ ضَمَّ يَتِيمَاً فَكَانَ فِي نَفَقَتِهِ وكفاهُ مؤنَتَهُ، كَانَ لَهُ حِجَابَاً مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ].

 

قال الشاعر:

مسحتَ على رأسِ طفلٍ يتيمٍ

فكفُّكَ نورٌ وقلبُكَ حيُّ

مسحتَ عليه فمُلّئتَ عَطفًا

وفُزتَ كما قدْ أبانَ النبيُّ

وقال آخر:

انظرْ إلى وجه اليتيمِ وهَبْ له

عَطْفاً يعيش به الحياةَ كريماً

وافتحْ له كَنْزَ الحنانِ، فإنما

يرعى الحنانُ، فؤادَه المكلوما

يا كافلَ الأيتامِ، كأسُكَ أصبحتْ

مَلأَى، وصار مِزاجُها تَسنيماً

حَسْبُ اليتيمُ سعادةً أنَّ الذي

نشرَ الهُدَى في الناسِ عاشَ يَتيماً

 

أحبتي.. (كفالة اليتيم)، بابٌ واسعٌ لرضا الله سبحانه وتعالى، ثم إنها سببٌ لدخول الجنة بإذن الله؛ فليُبادر كل مسلمٍ مقتدرٍ إلى كفالة اليتامى بشكلٍ مباشرٍ، أو عن طريق دعم المؤسسات التي تقوم برعايتهم. ومَن كانت (كفالة اليتيم) مسئوليته فليتقِ الله في مال اليتيم وفي طعامه وشرابه وفي جميع شئونه، فهو أمانةٌ حتى يكبر ويصل إلى بر الأمان. إنّ كافل اليتيم وراعيه، يُعرِّض نفسه للعديد من المِنح الربانية، والعطايا الإلهية؛ فهل بعد كل هذه المِنح والعطايا يتكاسل عاقلٌ عن رعاية اليتيم وكفالته؟ إن (كفالة اليتيم) هو فرصةٌ أغلى من الذهب؛ فلنحرص على ألا نفوِّتها، وندعو الله أن يُعيننا على الوفاء بمسئولياتها، طاعةً لله وقربةً منه.

 

https://bit.ly/3T6vKW2