الجمعة، 25 يوليو 2025

مُسبب الأسباب

 

خاطرة الجمعة /509

الجمعة 25 يوليو 2025م

(مُسبب الأسباب) 

 

الذي رزقه الله ومشى على رُخام أرضية الحرم في «مكة» يعلم كم هو باردٌ حتى في عز الصيف وارتفاع درجة حرارة الجو بشكلٍ كبيرٍ تصل إلى خمسين درجةً مئوية. هذا الرُخام عجيبٌ لدرجة أن بعض الناس تعتقد أنه يوجد تحت الرُخام نظام تبريدٍ قويٌ وفعّال.

لكن حقيقة الأمر هي في قصةٍ بدأت عندما استلم المُهندس محمد كمال إسماعيل رئاسة مشروع توسعة الحرم المكي، وكان يُفكر بالفعل في أن يضع نظام تبريدٍ تحت الرُخام بصحن الحرم لتخفيف درجة حرارته خاصةً في فصل الصيف، إلا أن (مُسبب الأسباب) جعله يبحث عن بديلٍ لذلك فظلَّ يبحث إلى أن عَلِم أن هناك نوعاً من الرُخام الأبيض النادر جداً اسمه "التاسوس" يعكس الضوء والحرارة وأشعة الشمس، ويتعامل مع الرطوبة في الليل بنظامٍ وفي الصباح بنظامٍ آخر، يتميز بشدة برودته رغم الحرارة الشديدة، رخامٌ غريبٌ جداً ليس موجوداً إلا في جبلٍ بإحدى الجُزر اليونانية؛ فذهب إلى «اليونان» وتعاقد مع الشركة المُنتجة لهذا الرُخام على شراء الكمية الكافية منه للحرم المكي، وكانت الكمية التي اشتراها تُعادل نِصف الكمية الموجودة لدى الشركة تماماً، وعاد بالرُخام الأبيض، وتم فعلاً وضعه في كل أرضية الحرم المكي.

تمر السنوات، وبعد خمسة عشر عاماً، تطلب الحكومة السعودية منه وضع نفس نوع الرُخام بالضبط بالحرم النبوي في «المدينة المنورة». يقول المُهندس محمد كمال: عندما طلب مني مكتب جلالة الملك تغطية الحرم النبوي بنفس نوع الرُخام خفت جداً؛ فلا يوجد على الأرض برحابتها هذا النوع من الرُخام إلا بجبلٍ واحدٍ فقط في جزيرةٍ يونانيةٍ، وقد سبق أن اشتريتُ نصف الكمية من هُناك، ولعل الكمية التي تبقَّت قد بيعت كلها! ذهبتُ إلى نفس الشركة، وطلبتُ مُقابلة رئيسها، وسألته عن الكمية المُتبقية، فأخبرني أنه قد تم بيعها بالكامل. حزنتُ كما لم أحزن في حياتي كلها، حتى أني لم أشرب قهوتي وغادرتُ الشركة، وحجزتُ للعودة إلى «المملكة العربية السعودية» في اليوم التالي، وعندما خرجتُ من مكتب رئيس الشركة رأيتُ السكرتيرة؛ فسبحان (مُسبب الأسباب) الذي جعلني أسألها: "مَن اشترى الكمية المُتبقية؟"، قالت لي: "هذا أمرٌ مرَّت عليه سنواتٌ طويلةٌ، ويصعب البحث عن بيانات المُشتري"، قلتُ لها: "ما زال أمامي يومٌ في «اليونان» أرجوكِ ابحثي، وهذا رقم هاتفي بالفندق". تركتُ الرقم وذهبتُ وأنا حزين. بعدما خرجتُ سألتُ نفسي: "لماذا أُريد معرفة مَن المُشتري؟"، فتذكرتُ الآية الكريمة: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا﴾. في اليوم التالي -وقبل ساعاتٍ قليلةٍ من ذهابي إلى المطار- اتصلت بي السكرتيرة وقالت: "تعالَ إلى الشركة؛ فقد وجدتُ عنوان المُشتري". ذهبتُ مُتباطئاً مُتسائلاً: "وماذا أفعل بعنوان مَن اشترى؟!". كانت ما تزال هناك بعض ساعاتٍ مُتبقيةٍ على موعد السفر؛ فذهبتُ مرةً أخرى إلى الشركة وقابلتُ السكرتيرة، فأعطتني عنوان الشركة التي اشترت الرُخام. يقول المُهندس: خفق قلبي بشدةٍ عندما وجدتُ أن المُشتري كان شركةً سعوديةً! طِرتُ مُباشرةً إلى «السعودية»، ثم من المطار إلى الشركة التي اشترت الرُخام، ودخلتُ على صاحب الشركة وسألته: "ماذا فعلتَ بالرُخام الأبيض الذي اشتريته مُنذ سنواتٍ من «اليونان»؟"، قال: "لا أذكر"، اتصل بالمخازن وسألهم عن الرُخام الأبيض اليوناني، فأخبروه بأن الكمية كُلها موجودةٌ كما هي في المخازن! يقول المهندس محمد كمال: "واللهِ، بكيتُ بكاءً كالأطفال تماماً!" فتعجَّب صاحب الشركة وسألني: "يا أخي، لماذا تبكي؟!"، فحكيتُ له القصة كاملةً وقلتُ له: "هذا شيكٌ على بياضٍ، اكتب المبلغ الذي تُريده"؛ فلما عَلِم أن الرُخام للحرم النبوي قال لي: "واللهِ الذي لا إله إلا هو، لا آخذ ريالاً واحداً، والرُخام كُله في سبيل الله؛ ألا ترى أن (مُسبب الأسباب) عزَّ وجلَّ هو الذي أنساني هذا الرُخام في المخازن كُل هذه المُدة بعد أن جعلني أشتريه، ليكون هُنا لهذه المهمة؟".

 

أحبتي في الله.. سُبحان الله، هذا النوع من الرُخام غير موجودٍ حتى الآن في الأرض كُلها إلا في الحرمين الشريفين فقط! وقد يكون الله عزَّ وجلَّ خلق هذا الجبل بهذه النوعية والكمية من الرُخام ليكون أرضيةً للحرمين فقط، وألا يبقى منه فائضٌ لأي مكانٍ آخر!

بعد نشر هذه القصة في أحد مواقع التواصل الاجتماعي، توالت تعليقات القُراء؛ ومن بين ذلك:

-قصةٌ أغرب من الخيال، سُبحان الله، إنها ارادة ربنا فوق كُل شيء.

-إذا أراد ربُّك شيئاً، هيّأ له أسبابه، ولو كان من المُستحيلات.

-لا تعجب من تدبير الله؛ فهو (مُسبب الأسباب)، يُقرِّب ما نظن أنه بعيد المنال، وإذا أراد شيئاً قال له: "كُن فيكون".

 

يُذكر أن المهندس/ محمد كمال إسماعيل "1908-2008م"، هو مُهندسٌ معماريٌ مصريٌ وُلد بمدينة «ميت غمر» بمُحافظة «الدقهلية»، ودرس في مدارسها الابتدائية، بعدها انتقلت أُسرته إلى مدينة «الإسكندرية» وهناك أنهى تعليمه الثانوي، وكان أصغر من حصل على الثانوية في تاريخ «مصر»، توجه بعدها إلى «القاهرة» للالتحاق بجامعة فؤاد الأول "جامعة القاهرة حالياً" ودرس الهندسة بها، فكان أصغر من دخل مدرسة الهندسة الملكية، وكان واحداً من أفراد دفعته التي لم يتعدَ عددهم سبعة دارسين، وأصغر من تخرج فيها، سافر بعدها إلى «فرنسا» ليكون أصغر من تم ابتعاثه إلى «أوروبا» للحصول على الدكتوراه في العمارة، التي حصل عليها بتقدير امتياز عام 1933م؛ فكان أصغر من حمل لقب دكتور في الهندسة، ثم بعد سنواتٍ قليلةٍ حصل على دكتوراه أخرى في الإنشاءات، ليعود إلى «مصر» ويلتحق بالعمل في مصلحة المباني الأميرية، فكان أول مُهندسٍ مصريٍ يحل محل المُهندسين الأجانب الذين كانوا يعملون بتلك المصلحة، وظلَّ بها حتى شغل منصب مديرها في العام 1948م، وكانت وقتها تُشرف على بناء وصيانة جميع المباني والمصالح الحكومية، لتُصمم يداه العديد من المباني المُميزة؛ منها: دار القضاء العالي، مصلحة التليفونات "سنترال رمسيس حالياً"، مسجد صلاح الدين بالمنيل، مسجد المُرسي أبو العباس بالإسكندرية، ومُجمع المصالح الحكومية الشهير بمُجمع التحرير الذي أُنشئ عام 1951م وبلغ ارتفاعه أربعة عشر طابقاً، وكان لتصميم هذا المبنى على شكل القوس دوراً في تحديد شكل ميدان التحرير، وما تفرع عنه من شوارع.

وعلى الرغم من أنه كان قد تتلمذ على يد أساتذةٍ من «إنجلترا» و«سويسرا» درَّسوا له في الجامعة فنون العمارة العالمية إلا أنه تأثر بشدةٍ بفن العمارة الإسلامية ليُبدع فيه عقب تخرجه، ويكون مُلهمه لعمل دراسةٍ شاملةٍ عن المساجد المصرية؛ حتى أنه أصدر مؤلفاً بعنوان "موسوعة مساجد مصر"، في أربعة مُجلداتٍ باللغتين العربية والإنجليزية، عرض فيها لتصميمات المساجد المصرية وطُرُزها وسماتها المعمارية التي تُعبِّر كلٌ منها عن مرحلةٍ من مراحل الحضارة الإسلامية، وقد طُبعت تلك الموسوعة فيما بعد في أوروبا، ونفدت -كما يقول المتخصصون- فلم يعد منها أية نُسخٍ سوي في المكتبات الكُبرى، وقد كانت تلك الموسوعة سبباً في حصوله على رُتبة البكوية وعلى وشاح النيل من الملك فاروق، فكان أيضاً أصغر من حصل عليهما، كما أن (مُسبب الأسباب) عزَّ وجلَّ يَسرَّ للملك فهد بن عبد العزيز أن يطلع على تلك الموسوعة، فيُعجب بها، فيختار مؤلفها ويوكل إليه مُهمة إعداد التصميمات الخاصة بمشروع توسعة كلٍ من الحرم المكي والحرم النبوي، والإشراف على عمليات التنفيذ، وكانت تلك أكبر عملية توسعةٍ للحرمين الشريفين، إضافةً إلى تكليفه بمشروع توسعة «البقيع».

وقد وُصِفَت توسعة المسجد الحرام في ذلك الوقت بأنها أكبر توسعةٍ خلال أربعة عشر قرناً، لاستيعاب العدد المُتزايد من الحُجاج الذين يؤدون فريضة الحج والعُمرة؛ إذ أصبحت مساحة المسجد حوالي356,800 متراً مُربعاً، ويتسع لما يصل إلى 820 ألف مُصلٍ في الأيام العادية، وأكثر من مليون خلال موسم الحج وشهر رمضان، إضافةً إلى ما تضمنته مشروعات التوسعة من مظلاتٍ وتكييفاتٍ وجراجٍ تحت الأرض يتسع لخمسة آلاف سيارة، حيث بلغ إجمالي تكلفة تلك الأعمال 18 مليار دولار.

هذا وقد تمَّ تكريم هذا المُهندس العبقري من قِبَل مُنظمة المؤتمر الإسلامي بحصوله على جائزة التفوق في العمارة، سلمَّها له الملك فهد شخصياً، ومنحته «السعودية» جائزة الملك فهد للعمارة، كما أسبغت عليه نقابة المُهندسين المصرية لقب "أُستاذ الأجيال"، وكرمته «ألمانيا» لدوره في إيجاد صناعةٍ جديدةٍ بها من خلال المظلات الكهربائية، التي طلبها وشاهدها العالم لأول مرةٍ وهي تُزين ساحات الحرم، وعددها 21 مظلة لحماية المُصلين.

ومن المعروف أن المُهندس/ محمد كمال إسماعيل -رحمة الله عليه- رفض أن يتقاضى أجراً مُقابل عمله، على الرغم من مُحاولات الملك فهد وشركة بن لادن لإقناعه بالحصول على أجر، وقال: "كيف آخذ مالاً نظير عملي في أقدس الأماكن في الدنيا؟ كيف أواجه الله يوم القيامة لو فعلتُ ذلك؟".

 

يقول العُلماء إن عقيدة أهل السُنة والجماعة في القدر أنه لا يحصل شيءٌ إلا والله مُقدِّره، وما من سببٍ إلا والله مُسبِّبه، وهذا من باب الإخبار عن الله تعالى؛ فهو سُبحانه الحي الفعّال لما يشاء، العليم القدير الحكيم، الخبير الرحيم الودود، لا إله إلا هُو، وكُل ما سواه فقيرٌ إليه، وهُو غنيٌ عما سواه، وهو خالق الأسباب والمُسببات.

 

أحبتي.. إن الله سُبحانه وتعالى ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ﴾؛ فهو (مُسبب الأسباب) وموجدها منعدمٍ، لتنفذ مشيئته؛ فهو سُبحانه ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾. إنها إرادة الله ﴿إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ وهو ﴿بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾. وإن كُنا -نحن البشر- نأخذ بالأسباب، فإننا نؤمن بقوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾؛ فلا نحزن على شيءٍ فاتنا، ولا نفرح ونفخر لشيءٍ نجحنا فيه؛ فكُل ذلك هو بقدر الله عزَّ وجلَّ؛ يقول تعالى: ﴿لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [...اعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ]. صحيحٌ أننا مأمورون بأن نأخذ بالأسباب ما وسعنا ذلك، إلا أنه يجب أن يرسخ في وجداننا ويتأصل في يقيننا أن مشيئة (مُسبب الأسباب) نافذةٌ، وأنه يختار للمُسلم المؤمن التقي ما فيه خيره وصلاح أمره، حتى ولو لم يُدرك ذلك إلا بعد حين.

خلاصة الأمر أنه إذا علمتَ أن الله تعالى يوجد الأسباب، وأنه لا يستقل سببٌ منها عن قُدرته وإرادته وحكمته؛ فكُن في معية الله المُدبِّر المُصرِّف المُقتدر، (مُسبب الأسباب)، رب الأرباب؛ يُهيئ لك من أمرك رشداً.

اللهم يا (مُسبب الأسباب)، الأبواب‏، يا فاتح ياسامع الأصوات، يا مُجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات، أرشدنا إلى طريق الصواب، وزِد إيماننا، وثبِّت يقيننا، وقوِ عزائمنا، واجعلنا من العاملين المُجتهدين المُتوكلين عليك حق التوكل، مُسَلِّمين بقُدرتك، راضين بقضائك، حامدين شاكرين لأفضالك وآلائك، واجعل اللهم بيوتنا عامرةً بذِكرك، هانئةً بشُكرك، سعيدةً بفضلك، مُطمئنةً بكرمك. اللهم سبِّب لنا من الأسباب ما ينفعنا ويُصلح أحوالنا، ويُذهب غمّنا وهمومنا، ويُغنينا بفضلك عمن سواك.

https://bit.ly/3IMDsBQ