الجمعة، 14 مايو 2021

الأم مَدرسة

 

خاطرة الجمعة /291


الجمعة 14 مايو 2021م

(الأم مَدرسة)

 

يروي الناشر قصتين كان لقلم الرصاص فيهما تأثيرٌ عجيبٌ في مستقبل طفلين؛ إذ أصبح أحدهما سارقاً، أما الآخر فقد صار مسؤولاً عن أكبر جمعيةٍ خيريةٍ في مدينته!

يقول راوي القصة الأولى: كنتُ ذات يومٍ جالساً في مكتب أحد المحامين، وهناك تعرفتُ على رجلٍ مسجلٍ أنه شقيٌ خطر سرقات، وله قضيةٌ عند هذا المحامي، فسألتُ الرجل: "كيف وصلتَ إلى هذه الحال"؟ فقال مبتسماً: "أمي هي السبب"، فقلتُ: "وكيف ذلك"؟ فازدادت ابتسامته وقال: "كنتُ تلميذاً في الصف الرابع الابتدائي، وذات يومٍ عدتُ من المدرسة وقد ضاع مني قلمي الرصاص، وعندما علمت أمي بالخبر ضربتني بشدةٍ وشتمتني بأبشع الشتائم ووصفتني بالعبط، وعدم تحمل المسؤولية. ونتيجةً لقسوة أمي الزائدة عن الحد قررتُ ألا أعود أبداً لأمي فارغ اليدين، قررتُ أن أسرق أقلام زملائي، وفي اليوم التالي نفذتُ خطتي، ولم اكتفِ بسرقة قلمٍ أو قلمين، بل سرقتُ جميع زملائي في الفصل! في بادئ الأمر كنتُ أحس بالخوف وأنا أسرق، وشيئاً فشيئاً تشجعتُ ولم يعد للخوف في قلبي مكانٌ. ومن الطرائف أنني كنتُ أسرق الأقلام من زملائي وأبيعها لهم، وبعد شهرٍ كاملٍ من سرقة زملائي في الفصل لم يعد الأمر يقتصر على سرقة أقلام الرصاص، ولم تعد له تلك اللذة الأولى، فقد قررتُ أن أنطلق نحو الفصول المجاورة وإلى أغراض أخرى، ومن فصلٍ إلى آخر انتهى بي المطاف إلى حجرة مدير المدرسة لأسرقها! علمت أمي بما كنتُ أقوم به، فلم تنهني عنه، وإن كانت لم تشجعني عليه بالكلام، لكني أحسستُ أنها راضيةٌ عنه. ذلك العام كان عام التدريب الميداني، تعلمتُ فيه السرقة عملياً بأساليب وطرق وحيل مختلفة ومتعددة، انطلقتُ بعد ذلك لسرقة الكثير من الأغراض خارج المدرسة، حتى صرتُ محترفاً".

أما راوية القصة الثانية فهي أم الولد الآخر؛ قالت: عندما كان ابني في الصف الثاني الابتدائي رجع يوماً من المدرسة وقد ضاع قلمه الرصاص، فقلتُ له: "وماذا فعلت"؟، قال: "أخذتُ قلماً من زميلي"، فقلتُ له: "تصرفٌ جيدٌ، ولكن ماذا كسب زميلك عندما أعطاك قلماً لتكتب به؟ هل أخذ منك طعاماً أو شراباً أو مالاً"؟، قال ابني: "لا، لم يفعل"، فقلتُ له: "إذاً لقد ربح منك الكثير من الحسنات. يا بُنيّ، لماذا يكون هو أذكى منك؟ لماذا لا تكسب أنت الحسنات"؟، قال: "وكيف ذلك"؟، فقلتُ: "سأشتري لك قلمين: قلماً تكتب به، والآخر نسميه قلم الحسنات، وهذا لأنك ستعطيه من نسي قلمه أو ضاع منه، ثم تأخذه بعدما تنتهي الحصة". كم فرح ابني بتلك الفكرة، وزادت سعادته بعدما طبقها عملياً، لدرجة أنه أصبح يحمل في حقيبته قلماً يكتب به وستة أقلام للحسنات! والعجيب في الأمر أن ابني هذا كان يكره المدرسة، ومستواه الدراسي ضعيف، لكن بعد أن طبق هذه الفكرة فوجئتُ بأنه بدأ يحب المدرسة؛ إذ أنه أصبح نجم الفصل في شيءٍ ما؛ فكل المعلمين أصبحوا يعرفونه، وزملاؤه يقصدونه في الأزمات، كل واحدٍ ضاع منه قلمه يأخذ منه واحداً، وكل معلمٍ يكتشف أن أحد التلاميذ لا يكتب لأن قلمه ليس معه يقول: "أين فلان صاحب الأقلام الاحتياطية"؟، ونتيجةً لأن ابني أحب الدراسة بدأ مستواه الدراسي يتحسن شيئاً فشيئاً. ورغم أنه اليوم قد تخرج من الجامعة وتزوج ورزقه الله الأولاد، فهو لم ينسَ يوماً قلم الحسنات، لدرجة أنه اليوم مسؤولٌ عن أكبر جمعيةٍ خيريةٍ في مدينتنا!

 

أحبتي في الله .. عقَّب ناشر القصتين عليهما مُرَكِّزاً على العامل المشترك فيهما وهو قلم الرصاص، لكن ما شد انتباهي ليس قلم الرصاص وإنما دور الأم في كلتا القصتين.

(الأم مَدرسة) ودورها مهمٌ في تربية الأطفال، يقول الخبراء في المجال التربوي إن الأم تتحمّل أعباء تغذية الأطفال والعناية بهم حتّى يتمكّنوا من الاعتماد على أنفسهم، وتلك المهام تتطلّب منها مشاعر فيّاضة من الصبر والمثابرة؛ فهي المعلمة الأولى في حياة أبنائها تُعلّمهم المهارات الأساسية في حياتهم كالكلام والمشي، وهي مصدر معظم المعلومات والحقائق، كما أنها هي التي تعلمهم المشاعر الإنسانية؛ كالحب، والرحمة، والمودة، والأخلاق الحميدة؛ مثل المساواة والاحترام والكرم وغير ذلك. ومعلومٌ أن الأطفال يتأثرون بكلّ ما يُحيط بهم، وتحتفظ عقولهم بما يُراقبونه ويُقلّدونه باستمرار، ونظراً إلى أنّهم يقضون معظم أوقاتهم مع الأم فإنّهم يتأثّرون بها كثيراً ويُصدّقونها ويُطيعونها؛ لذلك فالأم هي المسؤولة الأولى عن سعادة أبنائها وتكوين شخصياتهم بطريقة إيجابية، كما أنّ الأبناء يرون في أمهم صديقةً لهم تشاركهم أوقاتهم وألعابهم، ويتّخذونها قدوةً لهم؛ فيتشبهّون بها ويتمنّون أن يكونوا مثلها عندما يكبرون.

 

والأم في الإسلام لها وضعٌ فريدٌ؛ إذ يقول أهل الاختصاص إن التاريخ لا يعرف ديناً ولا نظاماً كرَّم المرأة باعتبارها أماً، وأعلى من مكانتها مثلما جاء به الإسلام الذي رفع مكانتها وجعل برها من أصول الفضائل، وجعل حقها أعظم من حق الأب لما تحملته من مشاق الحمل والولادة والإرضاع والتربية. ومن أعظم الأدلة على مكانة الأم في الإسلام الحديث النبوي الشريف الذي يروي قصَّة رجلٍ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله: من أحق الناس بصحابتي يا رسول الله؟ قال: [أمك]، قال: ثم من؟ قال: [أمك]، قال: ثم من؟ قال: [أمك]، قال: ثم من؟ قال: [أبوك]. ويُروى أن رجلًا كان بالطواف حاملًا أمه يطوف بها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل أديت حقها؟ قال: [لا، ولا بزفرةٍ واحدة]، أي زفرةٌ من زفرات الطلق والوضع ونحوها. ومن رعاية الإسلام للأمومة وحقها وعواطفها أنه جعل الأم المطلقة أحق بحضانة أولادها، وأولى بهم من الأب، حيث قالت امرأةٌ: "يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينتزعه مني"، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: [أنتِ أحقُ به ما لم تَنكِحي]. والأم التي عُني بها الإسلام كل هذه العناية، وقرر لها كل هذه الحقوق، واجبٌ عليها أن تُحسن تربية أبنائها، فتغرس فيهم الفضائل، وتُبغِّضهم في الرذائل، وتُعوِّدهم على طاعة الله.

لقد جعل الله سبحانه وتعالى الأم مسؤولةً عن تربية أولادها، فهي راعيةٌ ومسؤولةٌ عن رعيتها؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ﴾، وقال رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عليه وَسَلَّمَ: [كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، ...].

 

يقول المتخصصون في علم النفس إنه يتوجب على الأم أن تدرك أثر كلّ عَملٍ تفعله على سلوك طفلها في المستقبل، متجنبةً إظهار الغضب والسخط والقسوة والترهيب والتهديد، ومبتعدةً أيضاً عن الصمت أو إبداء مشاعر القبول والرضا عند قيام الطفل بتصرفٍ خاطئٍ حتى لا يفهم الطفل من ذلك أنه تشجيعٌ له للاستمرار في الخطأ. والحب في قلب الأم غير كافٍ وحده لبناء سلوكٍ قويمٍ وشخصيةٍ سويةٍ للطفل، ما لم يكن مصحوباً بالعلم والمعارف العامة الأساسية التي تحتاجها كل أمٍ لتقوم بدورها التربوي على أكمل وجه؛ لذا فإنه من الأهمية إعداد الفتيات المُقبلات على الزواج إعداداً يُمكّنهن من تحقيق النجاح في تربية أطفالهن.

 

تخلص إحدى الناشطات الاجتماعيات إلى نتيجة مؤداها إن عملية التربية المناط بالأم القيام بها ليست بالأمر السهل أو الهين، وهي ليست مقتصرة على مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ، فهذا لا يليق إلا بتربية جروٍ أو قطةٍ أو أي كائنٍ آخر، لكن هنا الأمر يختلف فهو يتعلق بتربية إنسانٍ له عقلٌ وكيانٌ، و(الأم مَدرسة)، عليها أن تعي ذلك جيداً وتُعد نفسها لهذا الدور؛ فصلاح الأمم يبدأ بصلاح الأم.

 

وصدق الشاعر حين وصف الأم فقال:

(الأُمُّ مَدْرَسَةٌ) إِذا أَعدَدتَها

أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ

الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّدَهُ الحَيا

بِالرِيِّ أَورَقَ أَيَّما إيراقِ

الأُمُّ أُستاذُ الأَساتِذَةِ الأُلى

شَغَلَت مَآثِرُهُم مَدى الآفاقِ

 

أحبتي .. (الأم مَدرسة) إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق، فليكن إعدادنا لبناتنا وفتياتنا الهدف منه تنشئة أطفال المستقبل على الفضيلة والقيم والأخلاق النبيلة، حتى يشبوا على ما تعلموه في صغرهم فيكونوا نواةً لشعبٍ مسلمٍ طيب الأعراق يجمع بين معايشة عصره والتفاعل معه واستيعاب علومه والتفوق فيها، وبين الحفاظ على دينه والفخر للانتماء له ودعوة الآخرين له من خلال السلوك العملي والمعاملات الطيبة والقدوة الحسنة. وليكن المرجع في تربية أطفال المستقبل هو الشريعة الإسلامية الغراء التي عندما تربى عليها سلفنا الصالح سادوا العالم، وكان لهم السبق في جميع العلوم؛ علوم الدين وعلوم الدنيا، وبنوا حضارةً استمرت لقرون عديدةٍ شهد لها القاصي والداني. صدق من قال: "علِّمُوا أولادكم القُرآن، والقُرآن سيُعلِّمهُم كُلَّ شَيء"، ولا تنسوا أنه سيكون من أهم ما سيتعلمونه البر بكم!

 

وفقنا الله لما يحب ويرضى، والله من وراء القصد.

 

https://bit.ly/3eKkp9S