الجمعة، 1 يناير 2021

الاشتغال بالدنيا

 

خاطرة الجمعة /272


الجمعة 1 يناير 2021م

(الاشتغال بالدنيا)

 

هذه قصةٌ من أعجب القصص التي سمعتُها في حياتي .. حقيقةً، هذه قصةٌ غريبةٌ ولولا صدق راويها لظننتُ أنها محض خيالٍ، لكنها ظريفةٌ ممتعةٌ، لهذا حكيتها لكم.

هكذا كتب ناشر القصة، واستطرد يقول: يخبرنا الشيخ علي الطنطاوي بأن في هذه القصة من الطرافة أكثر من المنفعة منها، وهي واقعةٌ يعرف أشخاصها وظروفها؛ فقال رحمه الله تعالى:

هي قصة شابٍ فيه تقىً وفيه غفلةٌ، في آنٍ واحد؛ طلبَ العلم، حتى أصاب منه حظاً، قال الشيخ له ولرفاقه: لا تكونوا عالةً على الناس، فإن العالِم الذي يمدُّ يده إلى أبناء الدنيا لا يكون فيه خيرٌ، فليذهب كل واحدٍ منكم وليشتغل بالصنعة التي كان أبوه يشتغل بها، وليتق الله فيها. ذهب الشاب إلى أمه فقال لها: ما هي الصنعة التي كان أبي يشتغل بها؟ فاضطربت المرأة وقالت: أبوك ذهب إلى رحمة الله، فما لك وللصنعة التي كان يشتغل بها؟ اذهب وتعلم أية صنعةٍ ودعك من صنعة أبيك. فألح عليها وهي تتملَّص منه، حتى إذا اضطرها إلى الكلام أخبرته وهي كارهةٌ إن أباه كان لصاً. فقال لها: إن الشيخ أمرنا أن يشتغل كلٌّ بصنعة أبيه ويتقي الله فيها. قالت الأم بحسرة: ويحك! وهل في السرقة تقوى؟ وكان في الولد ـ كما قلتُ - غفلةٌ، فقال لها: هكذا قال الشيخ. ثم ذهب فسأل وسأل وتابع السؤال ودرس وراقب والتقط الأخبار حتى عرف الطرق والوسائل التي يسرق بها اللصوص، فأعد عدة السرقة، وصلى العشاء، وانتظر حتى نام الناس، وخرج ليشتغل بصنعة أبيه كما قال الشيخ. فبدأ بدار جاره، ثم ذكر أن الشيخ قد أوصاه بالتقوى، وليس من التقوى إيذاء الجار، فتخطى هذه الدار. ومر بأخرى فقال لنفسه: هذه دار أيتام، واللهُ حذَّر من أكل مال اليتيم. ومازال يمشي حتى وصل إلى دار تاجرٍ غنيٍ ليس له إلا بنتٌ واحدةٌ، ويعلم الناس أن عنده الأموال التي تزيد عن حاجته. فقال: ها هنا، وعالج الباب بالمفاتيح التي أعدها ففتح ودخل، فوجد داراً واسعةً وغرفاً كثيرةً، فجال فيها حتى اهتدى إلى مكان المال، وفتح الصندوق فوجد من الذهب والفضة والنقد شيئاً كثيراً، فهَّم بأخذه، ثم قال: لا، لقد أمرنا الشيخ بالتقوى، ولعل هذا التاجر لم يؤدِ زكاة أمواله، لنخرج الزكاة أولاً. وأخذ الدفاتر وأشعل فانوساً صغيراً جاء به معه، وراح يراجع الدفاتر ويحسب ـوكان ماهراً في الحساب خبيراً بإمساك الدفاترـ فأحصى الأموال وحسب زكاتها فأزاح مقدار الزكاة جانباً، واستغرق في الحساب حتى مضت ساعاتٌ، فنظر فإذا هو الفجر، فقال: تقوى الله تقضي بالصلاة أولاً وخرج إلى صحن الدار، فتوضَّأ من البِركة وأقام الصلاة، فسمع رب البيت، فنظر فرأى عجباً، فانوساً مضيئاً، ورأى صندوق أمواله مفتوحاً ورجلاً يقيم الصلاة فقالت له امرأته: ما هذا؟ قال والله لا أدري! ونزل إليه فقال: ويلك من أنت وما هذا؟ قال اللص: الصلاة أولاً ثم الكلام، فتوضأْ ثم تقدمْ فصلِّ بنا، فإن الإمامة لصاحب الدار!! فخاف صاحب الدار أن يكون مع اللص سلاحٌ ففعل ما أمره به، والله أعلم كيف صلى!! فلما قُضيت الصلاة قال له التاجر: أخبرني من أنت وما شأنك؟ قال: لص. قال: وما تصنع بدفاتري؟ قال: أحسب الزكاة التي لم تُخرجها من ست سنين، وقد حسبتها وفرزتها لتضعها في مصاريفها. فكاد الرجل يُجَنُّ من العجب، وقال له: ويلك، ما خبرك؟ هل أنت مجنون؟ فأخبره خبره كله. فلما سمعه التاجر ورأى جمال صورته وضبط حسابه، ذهب إلى امرأته فكلمها، ثم رجع إليه فقال له: ما رأيك لو زوجتك ابنتي وجعلتك كاتباً وحاسباً عندي، وأسكنتك أنت وأمك في داري، ثم جعلتك شريكي؟ قال: أقبلُ. وأصبح الصباح فدُعي بالمأذون وبالشهود وعُقد العقد!

يقول الشيخ: وهذه قصةٌ واقعيةٌ ليت للكثير فقه هذا اللص دون غفلته، فالمشكلة أن للكثيرين الغفلة من غير تقوى، والله مصيبة!

 

أحبتي في الله .. إلى جانب ما في هذه القصة من طرافةٍ، فإن بها معنىً جميلاً لخصته عبارة الشيخ حينما قال: "العالِم الذي يمدُّ يده إلى أبناء الدنيا لا يكون فيه خيرٌ"؛ ذلك أن همه صار الانشغال و(الاشتغال بالدنيا) والركون إليها كما لو كانت هي الحياة، والله سبحانه وتعالى ينبهنا في غير موضعٍ إلى عكس ذلك تماماً؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾، وفي وقت الندم يوم الحساب يقول المقصر: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ فالآخرة هي الحياة الأزلية الدائمة ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.

و"العالِم الذي يمدُّ يده إلى أبناء الدنيا لا يكون فيه خيرٌ" لأنه اعتمد في أمر معيشته على أبناء الدنيا، يدور في فلكهم، ويواكب هواهم، فيفقد استقلاليته وينتقص من كرامته، ويصبح من الصعب عليه أن يقول قولة حقٍ. يصير خوفه من انقطاع رزقه من أبناء الدنيا أكبر من خوفه من انقطاع صلته برب الدنيا وما فيها! يسعى لتأمين رزقه، وينسى -أو يتناسى- أن يؤمن نفسه مع الرزاق ذو القوة المتين! يهتم برضا الناس في كل لحظةٍ أما رب الناس فهو غفورٌ رحيم! ولو أن العالِم التقي الورع اعتمد في كسب معاشه على نفسه لصار نزيهاً لا تحركه المصالح ولا الأهواء، ولتغير حال أمتنا؛ فبصلاح العلماء يكون صلاح الأمة كلها.

 

بالطبع؛ ليس كل عالِم يعمل في وظيفة يتقاضى عنها أجراً هو من هذا النوع الذي أشرنا إليه، لكن البعض -وإن كانوا قلةً- يسعى لدنيا يصيبها؛ فيفقد استقلاليته وحريته وقدرته على التعبير والتغيير، وقد يكون سبباً في فساد الكثيرين من العامة. بعض هؤلاء العلماء يتم شراؤه بمنصب، وبعضهم بمرتبٍ عالٍ وبدلات وعلاوات، وبعضهم كل أمله أن يحصل على رضا المسئولين ونظرة عطفٍ منهم، وربما أصبح غاية مناه أن يسمع ممن يعمل لديهم أو لحسابهم مجرد كلمة ثناءٍ عليه. هذا النوع من العلماء مد يده إلى أبناء الدنيا، باع كرامته وفقد مصداقيته حين صارت الدنيا هي شغله الشاغل وربط مصلحته الدنيوية بمصالح غيره من البشر على حساب الأنفة وعزة النفس التي ينبغي أن يتحلى بها العلماء حتى يستطيعوا أن يقولوا كلمة الحق لا يمنعهم عنها سلطانٌ جائرٌ ولا يخافون في الله لومة لائم.

العالِم الذي يمدُّ يده إلى أبناء الدنيا لا يكون فيه خيرٌ؛ لأنه الأكثر علماً والأفضل فهماً والأعلى مقاماً من غيره؛ يسمع العامة لكلامه ويتبعونه، ويتلمسون أفعاله وتصرفاته لتكون قدوةً لهم، من هنا كانت مسئوليته أشد وحسابه أدق.

 

وماذا عنا نحن، المسلمون العاديون ونحن لسنا علماء، هل يتوجب علينا ترك الدنيا بالكلية؟ هل ينبغي علينا عدم (الاشتغال بالدنيا)؟ قرأتُ تعليقاً كتبه أحد الأفاضل فيه إجابةٌ عن هذا السؤال جاء فيه: (الاشتغال بالدنيا) من أسباب مرض القلوب، عندما يكون هذا الاشتغال مقدماً على الدين؛ فنحن لا نقول الدنيا حرام، ولا نقول للناس لا تبنوا بيوتاً ولا تشتروا سياراتٍ ولا تتزوجوا، هذا لا يقوله أحدٌ من العلماء، وإنما نقول: يا أيها المسلمون أعدوا العدة للقاء الله عزَّ وجلَّ؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾. أترضى أخي المسلم أن تكون رفيق قومٍ لهم زادٌ وأنت بغير زادٍ؟ فما هو زادك عند الله عزَّ وجلَّ؟ إن غلبة الانصراف إلى الدنيا، وإعطاؤها كل الاهتمام والساعات الطويلة ليل نهار، وجعل دقائق معدودةً للدين، هذا من أسباب مرض القلوب -والعياذ بالله- وحين يُصبح القلب مريضاً، تجد صاحبه لا يرتاح للذكر في المجالس، يريد أن تحدثه عن العقار، عن البيع والشراء، عن الشركات السياحية، عن الصرافة، عن الأسعار، عن الأشجار، وعن الأخبار، لكن الدين لا يريدك أن تحدثه عنه، وهذا من غفلة القلب ومن الإقفال عليه ومن إعراضه عن مولاه سبحانه وتعالى؛ يقول تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾.

يقول أهل العلم إن طريق الدنيا والآخرة طريقٌ واحد، وأن طريق العبد المؤمن في هذه الحياة حتى ولو كان يعمل للدنيا فإنما هو ينظر إلى الآخرة، فلا تعارض بين الدنيا والآخرة؛ إن مسألة الكسب وتحصيل المال لإنفاقه على النفس وسد الحاجة مطلبٌ شرعيٌ، وليست قضيةً دنيويةً مجردةً، إذ يرتبط بتحصيل الكسب للإنفاق على النفس وسد الحاجة أجرٌ وثوابٌ في الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾.

مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [ما مِن مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ منه طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كانَ له به صَدَقَةٌ] وفي الحديث فضل الغرس، والزرع، والحض على عمارة الأرض.

لقد قدم لنا الصحابة رضي الله عنهم نموذجاً عملياً للجمع بين الدنيا والآخرة، كانوا في قمة الدِين، وكانوا يُحصِّلون الدنيا في ذات الوقت.

والنية أمرٌ في منتهى الأهمية هنا؛ فلو أن تاجراً يقصد بتجارته وجه الله، لا الأشر ولا البطر، ولا التفاخر، ولا التكاثر، ويقصد إعفاف نفسه عن سؤال الناس، والاستغناء عن الخلق، والإنفاق على الأهل، وصلة الرحم، وابتغاء الأجر من الله، يكون قد أصاب خيري الدنيا والآخرة. بل إن الإنسان إذا لم ينوِ بعمله الدنيوي وجه الله، فإنه يفقد أجراً عظيماً كان يمكنه تحصيله لو أنه احتسب الأجر على أعمال الدنيا وأراد بطعامه ونومه وإتيانه اللذات المباحة التقَوّي على أعمال الآخرة.

الفارق في الموضوع هو النية؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِىَ رَاغِمَةٌ].

والآيات التالية تلخص هذا الأمر بوضوح؛ يقول تعالى: ﴿.. فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.

 

أحبتي .. (الاشتغال بالدنيا) ليس خطأً في حد ذاته، إنما الخطأ أن تشغلنا الدنيا عن الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾، ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾، كما يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾. إنه الفهم الصحيح للحياة، والموازنة الدقيقة بين أعمال الدنيا وأعمال الآخرة، وعقد النية بإخلاصٍ على أن تكون أعمالنا للدنيا سبيلاً إلى رضا الله سبحانه وتعالى، واعتبار الدنيا مزرعةً للآخرة.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنّة هي دارنا وقرارنا. اللهم آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار.

 

https://bit.ly/3mYL0kw