الجمعة، 22 نوفمبر 2019

التكافل في الإسلام


الجمعة 22 نوفمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٤
(التكافل في الإسلام)

قاضٍ قَلَّ أن يجود الزمان بمثله، عُرضت عليه في إحدى الجلسات قضيةٌ اهتزت لإنسانيتها جنبات المحكمة حين نُودي على اسم المتهمة - وكان لا يضع النساء داخل القفص - وكانت تُحاكم بجريمة تبديدٍ لمبلغٍ في إيصال أمانةٍ، دخلت المتهمة على المنصة، وكانت محبوسةً ولم يُفرج عنها لعدم سداد الكفالة، كانت في أواخر الأربعينيات من عمرها، واللافت للنظر فقر حالها. سألها القاضي: "لماذا لم تدفعي مبلغ  ٧٠٠٠ جنيه للسيد فلان؟"، بصوتٍ خائفٍ ومرتعشٍ أقرب للبكاء أجابته المسكينة: "المبلغ ليس٧٠٠٠ جنيه وإنما في حقيقة الأمر هو ١٠٠٠ جنيه فقط كنتُ قد استدنتهم نظير شراء بضاعةٍ من الحاج "فلان" التاجر والد الأستاذة المحامية الحاضرة في الجلسة، وكنتُ أعطيه ٦٠ جنيهاً كل شهرٍ، لكن حصلت لي ظروفٌ منعتني من السداد، ولم يُمهلني الحاج، ورفع عليّ هذه القضية بموجب إيصال  الأمانة الذي كان قد كتبه عليّ ب ٧٠٠٠ جنيه"، التفت القاضي إلى المحامية وسألها بأدبٍ وهدوءٍ عن صحة ما قالته السيدة المتهمة؛ فأنكرت المحامية معرفتها بالحقيقة. نظر القاضي إلى المتهمة وسألها عن حالها؛ فعلم أنها أرملةٌ تعمل لتربية بناتها الثلاث، فقال لها: "خيرٌ إن شاء الله"، ورفع الجلسة. وقبل أن يدخل غرفة المداولة وجَّه كلامه للمحامين الموجودين وقال لهم: "أعلم أنكم أصحاب فضلٍ ومروءةٍ، ولن تتأخروا عن فعل المعروف"، وأخرج منديلاً كان في جيبه وضعه على المنصة ثم أخرج من جيبه مبلغاً من المال وضعه في المنديل وقال: "هذه ٥٠٠ جنيه، هي كل ما معي الآن، ولا أدري مَن مِن السادة المحامين سيشاركني في سداد دين هذه السيدة؟". أعطى المنديل للحاجب فتوجه به إلى المحامين الذين تسابقوا في عمل الخير؛ دفع أولهم ١٠٠٠ جنيه، ثم توالى الباقون حتى تجمع في المنديل ما تجاوز ٨٠٠٠ جنيه. كانت المحامية ابنة صاحب الدين قد خرجت مسرعةً إلى خارج المحكمة واتصلت بوالدها وأخبرته بما تم، ثم عادت إلى القاعة ونُودي عليها حين دخلت المتهمة غرفة المداولة، وكان القاضي جالساً خلف مكتبه فأشار للمحامية قائلاً: "هذه ٧٠٠٠ جنيه موجودةٌ بالمنديل؛ تستطيعين أخذها وتتصالحين مع المتهمة ونفرج عنها"، قالت المحامية إن أباها أخبرها بألا تأخذ أكثر من ٥٠٠ جنيه قيمة الباقي من القرض. شكرها القاضي وابتسم ناظراً إلى المحامين الذين امتلأت بهم غرفة المداولة وقال: "أظن أنها أخذتال٥٠٠ جنيه الخاصة بي"؛ ضحك الجميع، فقاطعهم قائلاً: "وأظنكم لا تريدون أن يحرمكم الله ثواب المشاركة" فعلا صوت المحامين في الغرفة بالتأييد؛ فنظر إلى المتهمة ومد يده بالمنديل وباقي ال ٨٠٠٠جنيه وقال: "وهذه من الله لك ولبناتك"، فضجت غرفة المداولة بالتهليل والتكبير الذي سرى إلى القاعة وهتف كل من فيها. هرول كل الحاضرين في المحكمة إلى تلك القاعة يتساءلون: "ماذا حدث؟"، فيعلموا بأن ما حدث كان وجود قاضٍ رحيم.

أحبتي في الله .. هذا موقفٌ من مواقف (التكافل في الإسلام) التي غَلَّب فيها القاضي الإنسانية على القانون فكان العدل، وظهرت سماحة الإسلام في أبهى صورها من محبةٍ وتفاهمٍ وتعاونٍ وودٍ ورأفةٍ ورحمةٍ وتسامحٍ وصفحٍ وعفوٍ وإحسان، وهي جميعها قيمٌ إيجابيةٌ عظيمةٌ تقوي روابط الإخوة بين المؤمنين؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾.
و(التكافل في الإسلام) قوامه العطاء وأساسه البر والتقوى؛ يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾، ويقول تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾. والزكاة والصدقات وجهٌ من وجوه التقوى؛ يقول سبحانه: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾، ويبين لنا المولى عزَّوجلَّ أن ما نتصدق به ليس منةً منا وإنما هو حقٌ للفقراء والمساكين؛ فيقول: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْـمَحْرُومِ﴾، ويعلمنا أن الصدقات تطهر المال وتزكيه؛ فيقول تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾، ويقرر أن الزكاة فريضةٌ واجبةٌ، ويحدد مستحقيها ومستحقي الصدقات بقوله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْـمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْـمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ﴾.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الْـمُؤْمِنُ لِلْـمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [... مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]، كما قال صلى الله عليه وسلم: [مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [عَلَى كُلِّ نَفْسٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ صَدَقَةٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ]، وقَالَ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ]، كما قال عليه الصلاة والسلام :[إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَى أَغْنِيَاءِ الْـمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ الَّذِي يَسَعُ فُقَرَاءَهُمْ ...]، ويقول صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ الْـمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْـجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْـجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْـحُمَّى].
وفي هذ المعنى يقول الشاعر:
ديـنُ التـكافـلِ والمحبــةِ دِينـُـه
لا ســــُـوقـَـةَ فـِيـــه ولا أُمَــــراءُ
فالمُسلمونَ جَميعُهم جَسدٌ إذا
عُضـوٌ شَكا سـَهِرَت لَه الأعْضَـاءُ

و(التكافل في الإسلام) يصفه العلماء بأنه دِعَامَةٌ أساسيةٌ من دعائم المجتمع الإسلامي، ويقولون إنه يشمل صوراً كثيرةً من التعاون والتآزر والمشاركة؛ تتمثَّل بتقديم العون والحماية والنصرة والمواساة، وذلك إلى أن تُقضى حاجة المضطر، ويزول هَمُّ الحزين، ويندمل جرحُ المصاب، ويبرأ جسدُ الأمة كاملاً من الآلام والأسقام.
ويقول أهل العلم إن العطاء من الله وحده، يهب ما يشاء لمن يشاء، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ولو شاء لجعل الجميع أغنياء، ولكنه سبحانه جعل في خلقه أغنياء وفقراء، وأقوياء وضعفاء؛ ليبلو بعضهم ببعض، والجميع في موضع الاختبار من الله، الفقير في موضع الاختبار من الله أيصبر أم يجزع؟ والغني في موضع الاختبار من الله أيعطي أم يبخل؟ والإسلام حين يكلف الغني برعايته للفقير، ويضع عليه التزاماتٍ معينةً نحوه، إنما يهدف إلى رفعة قدر ذلك الغني والحفاظ على كرامته فيظل مالكاً لماله لا مملوكاً له، وفي ذلك تحريرٌ للإنسان من عبوديته للمال. كما أن (التكافل في الإسلام) يحفظ كرامة غير القادرين الذين لا يجدون ما ينفقون، ويصونهم من مرارة البؤس وذل الاحتياج؛ ففيها إشعارٌ لهم بالتضامن والتآخي والتآزر والتعاون في محيط الجماعة المسلمة، التي لا يُهمَل فيها فردٌ، ولا يضيع فيها فقيرٌ أو مسكينٌ أو ذو حاجة.

يقول الشاعر:
إذا جَادت الدُنيـا عليك فُجدْ بها
على النـاسِ واعلم أنهـا تتقلــبُ
فلا الجودُ يُفنيهـا إذا هي أقبلتْ
ولا البخلُ يُبقيها إذا هي تَذهبُ
ويقول آخر:
يـَرْجـُـو بـِطـَاعَـتـهِ رِضَـــاهُ فَـإنـَــهُ
بِالجُودُ يُعْطي المُنفِقينَ رِضــــاهُ
فالمَـالُ مَـالُ اللهِ وهُـوَ المُـرتَجَـى
للسَـائليــنَ يُجِيــــبُ مَــنْ نـَـاداهُ

أما عن ثمرات (التكافل في الإسلام) فيقول أحد العارفين إنها عظيمةٌ في الدنيا والآخرة، ومن مظاهرها: تماسك بنيان المجتمع وحمايته، تقوية علاقة المسلم بالله وبالناس، نيل رضا الله ومحبته ورحمته، حصول البركة في العمر والمال والولد، إشاعة التحاب بين أفراد المجتمع، تحقيق العدل في المجتمع الإسلامي، تمتين العلاقات الاجتماعية بين المسلمين، شكر الله على نعمة المال، مواساة الفقراء والمساكين وسد حاجة المعوزين، إشاعة التراحم والتواد وتزكية النفس بإخراج الشُح منها، بركة المال ونماؤه ووقاية الإنسان من المصائب، النجاة يوم القيامة بإذن الله؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ]، أَوْ قَالَ: [يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ].
وعن أفضل الصدقة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ]، ويقول كذلك: [جُهْدُ المُقلِّ وابدأْ بمن تَعُولُ].
ومن أعظم الصدقات الصدقة الجارية وهي ما يبقى بعد موت العبد، ويستمر أجره عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: [إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثَةِ، إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ].

أحبتي .. تصدقوا في السر والعلن، أنفقوا على المحتاجين والفقراء والمساكين؛ أخرجوا الزكاة، وأكثروا من الصدقات، وخصصوا جزءاً من أموالكم للقروض الحسنة، وأَنْظِروا المُعسر إلى حين مَيسرة، اكفلوا اليتامى، سدوا ديون الغارمين، ارعوا ذوي الاحتياجات الخاصة، ساهموا في التخفيف من معاناة غيركم ما استطعتم، تبرعوا بأموالكم في كل مجالات البر، واعلموا أن المال مال الله ونحن مستخلفون فيه، واعلموا أننا مسئولون عن أموالنا يوم القيامة فاجعلوها شاهدةً لنا لا علينا، ثم اعلموا أنما تنفقون منمالٍ في أوجه الخير لا يضيع؛ فما راح من مالٍ فيه هو الباقي، وما تبقى دون الصرف منه على عمل خيرٍ هو الذي يضيع. كونوا عباد الله ممن يقيمون (التكافل في الإسلام)، بأفعالكم وليس بأقوالكم، وأبشروا برضا الله ومحبته.

اللهم اهدنا إلى سُبل الخير وقِنا شح أنفسنا.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

http://bit.ly/2OEqsOY