الجمعة، 22 يونيو 2018

القابضون على الجمر


الجمعة 22 يونيو 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٠
(القابضون على الجمر)

لم ألتقِ به منذ تخرجنا من الجامعة، ثم التقيته فجأةً وبغير ترتيبٍ في إحدى ليالي رمضان؛ كنا نصلي التراويح في مسجد الأرقم بمدينة نصر. المسجد كعادته كل عامٍ يمتلأ بالمصلين من قبل وقت صلاة العشاء بأكثر من ساعة، ثم يزداد عددهم بالتدريج كلما اقترب موعد الصلاة، ومن يأتي متأخراً فلن يجد له مكاناً داخل المسجد، رغم اتساعه، فيُضطر للصلاة على حُصرٍ تُفرش في الحدائق المحيطة بالمسجد، ومن لم يجد مكاناً له في هذه الحدائق فليس أمامه سوى فرش سجادته والصلاة في أحد الشوارع المحيطة بالمسجد!
يأتي الناس فرادى وزرافاتٍ يتابعون ختم القرآن مرتين خلال الشهر الكريم: مرةً من الشيخ رضا عبد المحسن أثناء صلاة العشاء وبعدها في صلاة التراويح حيث يختم القرآن ليلة السابع والعشرين، وأخرى من الشيخ هاني الشحات أثناء صلاة التهجد قبيل الفجر حيث يختم القرآن ليلة التاسع والعشرين. وكلاهما: الشيخ رضا والشيخ هاني، ممن أنعم الله عليهما بحفظ القرآن الكريم وإجادة تلاوته بصوتٍ جميلٍ حسن، جزاهما الله عنا خير الجزاء.
أعود لقصة زميلي، ليلة التقيته كنت قد تأخرت قليلاً في التوجه للمسجد، وكنت أحاول أن أجد لنفسي موطئ قدمٍ داخله، فإذا بي أرى أمامي هذا الزميل الذي لم أقابله منذ أكثر من أربعين عاماً! عرفته قبل أن يتعرف عليّ، رغم أن الزمن قد ترك عليه كثيراً من بصماته: شعره صار بلون الأرز الأبيض، كست التجاعيد وجهه، تغلبت السمنة على ما كان عليه من رشاقةٍ، يلبس نظاراتٍ طبية، ظهره منحنٍ قليلاً، ويتكأ على عصاةٍ خشبيةٍ، كل ذلك لم يفلح في إخفاء ملامحه التي بقيت محفورةً في ذاكرتي طوال هذه السنوات! اقتربت منه، دققت النظر، وعندما تأكدت أنه هو نطقت اسمه الرباعي كاملاً بصوتٍ عالٍ، لحظةٌ واحدةٌ كانت كافيةً له لاسترجاع الذاكرة؛ نطق باسمي ووجهه يتهلل سروراً وفرحاً، وتعانقنا وسط دهشة المحيطين. جلست بجواره مكان شابٍ كان يتابع هذا المشهد بتعجبٍ، تنازل لي عن مكانه عن طيب خاطر. سألت زميلي القديم عن أحواله، علمت منه أنه هاجر هو وأسرته إلى إحدى دول أوروبا، وحصلوا على جنسيتها. سألته عن أحوال المسلمين هناك؛ أخبرني أن بعض من هاجروا إلى تلك الدولة قد انسلخوا للأسف من دينهم، كما لو كانوا قد هاجروا من أجل التحرر من تكاليف الدين ومن التزاماتهم نحو خالقهم، هؤلاء، والحمد لله، قلةٌ قليلةٌ، أما الغالبية فإن تمسكهم بإسلامهم ازداد بعد هجرتهم، خاصةً حينما أحسوا بأنهم أقليةٌ، وأن واجب كلٍ منهم أن يكون سفيراً لدينه رغم الكثير من الصعوبات التي يعانون منها. وقال لي إن أكثر صعوبةٍ تواجههم هي تعليم أطفالهم وشبابهم أصول الدين؛ فمعظم مصادر التعليم كالمدارس ووسائل الإعلام لا تهتم بالإسلام ولا تُدَرِّس أصوله، والمساجد قليلةٌ جداً ومتباعدةٌ، أما الأسر فالسعي من أجل كسب الرزق وتأمين العيش يستحوذ على معظم وقتهم؛ فترى الأب والأم كلٌ منهما مشغولٌ بعمله. كما أن المجتمع الذي يعيشون فيه ملئٌ بالمغريات التي تجذب الأطفال والشباب بعيداً عن دينهم. وأخبرني أن تعليم أبنائهم اللغة العربية هو من أكبر المشاكل التي يواجهونها؛ فهي مفتاح تعلم الدين، ومن يجيدها من الأطفال والشباب يصبح بمقدوره الاستفادة من مواقع شبكة الإنترنت سواءً لتنزيل الكتب الإسلامية والاطلاع عليها أو للولوج إلى مواقع إسلاميةٍ مفيدةٍ يتعلم منها أصول الدين ويَطَّلِع من خلالها على الفتاوى الدينية، كما يلتقي عن طريق برامج التواصل الاجتماعي مع مسلمين آخرين يتبادلون الآراء والأفكار ويشكلون مجتمعاً إلكترونياً داعماً ومُثَبِّتاً ومُعيناً.

حكى لي عن مشروعٍ نفذوه نجح وفاقت نتائجه ما كان متوقعاً، فقد أنشأ أحد المسلمين هناك صفحةً خاصةً على الفيس بوك ينضم إليها من يرغب من شباب المسلمين، وجعل أهم أنشطة المجموعة نشر المعلومات الصحيحة عن الإسلام، وفكَّر في طريقةٍ يجذب بها الشباب؛ فأعلن عن مسابقاتٍ دينيةٍ: يختار لكل مسابقةٍ موضوعاً محدداً، ويطلب من كل عضوٍ في المجموعة أن يقرأ شيئاً عن هذا الموضوع ثم يبادر إلى نشره، على أن يلتزم بأن يكون النقل عن أحد الكتب أو أحد مواقع الإنترنت الموثوق فيها، وألا ينشر شيئاً يكون غيره قد سبق ونشره، ويتم توزيع جوائز على أصحاب أفضل المشاركات.
قطع حديثنا صوت مؤذن المسجد وهو يرفع أذان العشاء؛ فقررنا استكمال الحديث بعد الانتهاء من صلاتي العشاء والتراويح.
انتهينا من الصلاة، وخرجنا من المسجد سوياً، سألته عن حياته الخاصة وأسرته وأبنائه، كما سألته عن عمله ووظيفته، وسألني هو نفس الأسئلة تقريباً، وتبادلنا العناوين وأرقام الهواتف، ووعدني قبل أن نفترق أن يرسل لي عن طريق الواتس آب نماذج لما كتبه الشباب وهم يشاركون في إحدى تلك المسابقات الدينية التي أخبرني عنها، وكان موضوعها {الأذان للصلاة}، شكرته لاهتمامه، وقلت له مودعاً: "أعانكم الله؛ فأنتم (القابضون على الجمر) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: [يِأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الْقَابِضُ عَلَى دينه كالقابض على الجمر]".
بعد عدة ساعاتٍ وصلتني منه على الواتس آب رسائلُ متتابعةٌ هي بعض مشاركات الشباب المسلم في المسابقة الدينية التي أخبرني عنها.

أحبتي في الله .. أنقل لكم فيما يلي بعضاً من مشاركات الشباب في المسابقة المذكورة، لم أتدخل إلا في ترتيبها والتصحيح اللغوي لبعضها:

- "الأذان هو التعبد لله بالإعلام بدخول وقت الصلاة بذِكرٍ ٍمخصوصٍ".
- "الأذان إعلامٌ بدخول وقت الصلاة، ودعوةٌ إلى صلاة الجماعة التي فيها خيرٌ كثيرٌ".
- "الأذان تنبيهٌ للغافلين، وتذكيرٌ للناسيين لأداء الصلاة التي هي من أجَّل النعم، والتي تُقرب العبد إلى ربه، والأذان دعوةٌ للمسلم حتى لا تفوته هذه النعمة".
- "الأذان والإقامة فرض كفايةٍ على الرجال دون النساء حضراً وسفراً".
- "دلَّ على مشروعية الأذان القرآن الكريم؛ يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة:9]".
- "شُرع الأذان في السنة الأولى من الهجرة".
- "كان النبي صلى الله عليه وسلم مهتماً بالنداء للصلاة؛ ويفكر مع الصحابة كيف يجمع الناس للصلاة؟ فقيل له: انصب رايةً عند حضور الصلاة فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك. فذُكر له القنع {هو الشبور أو البوق}، فلم يعجبه ذلك، وقال: [هو من أمر اليهود]، فذُكر له الناقوس، فقال: [هو من أمر النصارى]، فانصرف الصحابي الجليل عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتمٌ لهمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُريَ الأذان في منامه؛ قال: رأيت رجلاً عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوساً، فقلت له: يا عبد الله تبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: أنادي به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خيرٍ من ذلك؟ قلت: وما هو؟ قال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. قال: فلما أصبحت أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال: [إنها لرؤيا حقٍ إن شاء الله، فَقُم مع بلالٍ فألْقِ عليه ما رأيتَ فإنه أندى صوتاً منك]، قال: فقمتُ مع بلالٍ فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته فخرج يجرّ رداءه يقول: والذي بعثك بالحق لقد رأيتُ مثل الذي أُرِي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فلله الحمد]".
- "قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا].
- "يقول صلى الله عليه وسلم: [عَجِبَ ربُّكَ من راعي غنمٍ في رأس شظية الجبل، يؤذِّن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عزَّ وجلَّ: انظروا إلى عبدي هذا، يؤذِّن ويقيم الصلاة، يخاف منِّي؛ قد غفرتُ لعبدي وأدخلته الجنة]".
- "صفة أذان بلال رضي الله عنه الذي كان يؤذن به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، هو خمس عشرة جملة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
   يزيد المؤذن في أذان الفجر بعد حي على الفلاح {الصلاة خيرٌ من النوم، الصلاة خيرٌ من النوم}".
- "زيادة {الصلاة خيرٌ من النوم} قالها بلالٌ رضي الله عنه، وأقره عليها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن بلالٍ أنه أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم يؤذنه بالصبح فوجده راقداً، فقال: الصلاة خيرٌ من النوم مرتين، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ما أحسن هذا يا بلال، اجعله في أذانك]".
- "الإقامة هي التعبد لله بالإعلام بالقيام إلى الصلاة بذكرٍ مخصوصٍ".
- "صفة الإقامة الواردة والثابتة في السُنة إحدى عشرة جملةً، وهي إقامة بلال رضي الله عنه التي كان يقيم بها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهي:
الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا
الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي
على الصلاة، حي على الفلاح، قد
قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله
أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله".
- "يُستحب في الأذان الترسُّل والتمهُّل، ويستحب في الإقامةِ الإسراعُ؛ لأن الأذان للغائبين، فكان الترسُّل فيه أنسب، والإقامةُ للحاضرين، فكان الإسراع فيها أنسب".
- "يُستحب الدعاء بين الأذان والإقامة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الدعاء لا يُرَدُّ بين الأذان والإقامة]".
- "يُسن للمؤذن أن يرفع صوته بالأذان، قال عليه الصلاة والسلام: [لا يسمع صوته شجرٌ ولا مَدَرٌ ولا حَجَرٌ، ولا جِنٌّ ولا إنسٌ إلا شهد له]. وقال أيضاً: [المؤذن يُغفَر له مدَّ صوته، ويشهد له كل رَطْبٍ ويابسٍ]، وفي روايةٍ: [وله أجرُ مَنْ صلَّى معه]". وقال كذلك: [المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة]".
- "من دخل المسجد والمؤذن يؤذن يُستحب له أن يتابع المؤذن، ثم يدعو بعد الفراغ من الأذان، ولا يجلس حتى يصلي تحية المسجد ركعتين".
- "إذا أذن المؤذن فلا يجوز لأحدٍ الخروج من المسجد إلا لعذرٍ من مرضٍ، أو تجديد وضوءٍ، ونحوهما".
- "يُسن لمن سمع المؤذن من الرجال أو النساء أن يقول مثله لينال مثل أجره إلا في الحيعلتين، فيقول السامع: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا سمعتم النداءَ، فقولوا مثل ما يقول المؤذن]. ولا يُسَنُّ ذلك عند الإقامة".
- "إذا قال المؤذن في صلاة الصبح: الصلاة خيرٌ من النوم، فإن المستمع يقول مثله".
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلَّت له شفاعتي يوم القيامة]". كما قال: [من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً وبمحمدٍ رسولاً وبالإسلام ديناً، غُفر له ذنبه]".
- "بعد انتهاء الأذان يُسن أن يصلي المؤذن والسامع على النبي صلى الله عليه وسلم سراً".
- "الأذان والإقامة يُشرعان للصلوات الخمس المفروضة، أما غيرها مما تسنُّ فيه الجماعة كالعيدين، والكسوف، والجنازة، والاستسقاء، وقيام الليل، والتهجد وما في حكمها فلا يُسن فيها الأذان ولا الإقامة، وإنما يقال فيها: الصلاة جامعة".
- "مؤذنو النبي صلى الله عليه وسلم أربعةٌ: بلال بن رباح، وعمرو بن أم مكتوم في مسجده صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وسعد بن عائذ القَرَظ في مسجد قِباء، وأبو محذورة في المسجد الحرام بمكة".

أحبتي .. نقلت إليكم هذه التجربة المفيدة، وأنا أعلم أن بعض ما نقله الشباب من نصوصٍ معروفٌ ومعلومٌ لكم ولكثيرٍ من المسلمين، لكنها بالنسبة لهؤلاء في بلاد الغربة، خاصةً تلك التي لها دينٌ غير ديننا وثقافةٌ غير ثقافتنا، قد تكون جديدةً، مع الوضع في الاعتبار ضعف هؤلاء الشباب باللغة العربية التي هي وعاء علوم الدين. على كل حالٍ، هؤلاء المغتربون في تلك البلاد هم (القابضون على الجمر)، ندعو لهم بالثبات والتوفيق في تنشئة جيلٍ جديدٍ من المسلمين لديهم القدرة على التعايش مع الحياة العصرية دون التفريط في دينهم وعقيدتهم الإسلامية السمحاء. إنهم أقليةٌ مسلمةٌ، على ثغرٍ من ثغور الإسلام يحرص كلٌ منهم على ألا يُؤتى الإسلام من قِبَلِه؛ فتراهم يعلمون أبناءهم كل شيء عن الإسلام، ويربونهم على إجابة النداء والصلاة مع الجماعة في المسجد، وفي بلادنا ذات الأغلبية المسلمة كم من مسلمٍ يسمع الأذان خمس مراتٍ في اليوم من مسجدٍ يبعد عن بيته خطوات قليلة ولا يفكر في الصلاة مع جماعة المسلمين، ولا يهتم بأن يواظب أبناؤه على الصلاة في المسجد؟!

هدانا الله وإياكم وجميع المسلمين إلى ما فيه الخير، لنا ولأبنائنا، في الدنيا والآخرة، ولما فيه عز الإسلام، ورفعة شأن المسلمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/8jh4Wu