الجمعة، 27 مارس 2020

وما كان ربك نسيا/2


الجمعة 27 مارس 2020م

خاطرة الجمعة /٢٣٢
(وما كان ربك نسيا)

قصةٌ حقيقيةٌ رائعةٌ ومؤثرةٌ جداً في فعل الخير وقعت أحداثها في الجزائر؛ يقول أحد الشيوخ:
في سنة 1994م، مَرضتْ ابنتي، وكان عمرها أربعة عشر عاماً، فوجهني الأطباء لنقلها إلى مستشفى عين النعجة بالجزائر العاصمة، توكلتُ على الله وسافرتُ إلى العاصمة، وصلتُ إلى المستشفى، سألتُ عن الجناح المقصود، فوجدته بعيداً، ولم أكن أعلم أن المستشفى كبيرٌ إلى هذه الدرجة، مدينةٌ طبيةٌ متكاملةٌ يسير فيها الراكب بسيارته، فكيف بشيخٍ مثلي!؟ مشيتُ قليلاً، ولم أجد من يساعدني؛ فتَعَبُ الشيخوخة، وتَعَبُ السفر، وتَعَبُ الحاجة، وتَعَبُ المرض الذي ألَمَّ بابنتي، جميعها ابتلاءاتٌ أرهقتني، جلستُ لأستريح في مكانٍ مخصصٍ لصف السيارات. وكُنت بين الفينة والأخرى أذرف الدمع، وأتوارى عن ابنتي وعن الناس كي لا يرونني باكياً. وبينما أنا كذلك، وإذا بسيارةٍ فاخرةٍ تصف بجواري، خرج منها شابٌ طويل القامة بهي المُحَيَّا، يرتدي مئزراً أبيضاً، بطاقته المهنية تتدلى على صدره، ثم توجه نحوي، وسألني عن حاجتي، فخنقتني العبرات ولم أقدر على الكلام، سألني: "يا عم هل معك رسالة طبية؟ أعطني بطاقة هويتك". يقول الشيخ: لمّا سَلَّمْتُ البطاقة للشاب، راح يتأملني من رأسي إلى أخمص قدمي، وقد بدت عليه علامات الدهشة والاستغراب!! ثم أرسل تنهيدةً من أعماق جوفه، وجلس بجانبي، وراح يتفرس في ملامحي تارةً، ويُقَبِّلُ جبيني تارةً أخرى، ولم يتمالك نفسه وذرفت عيناه بالدموع!!
سألتُه: "ما بك يا ولدي!؟ هل أصابك مكروه لا قدّر الله!؟"، قال: "لا، وإنما أشفقت لحالك"، ثم حَمَلَ ابنتي بين يديه، وقال: "تعال يا عم معي". دخل الشاب أروقة جناحٍ طبيٍ متخصصٍ، ووَضَعَ الطفلة على كرسيٍ متحركٍ، وأخذ يأمر وينهي، والكل يُحيّيه تحية تقديرٍ واحترامٍ ويتودد إليه؛ يبدو أنه صاحب مكانةٍ وشأنٍ في هذا المستشفى. وراح يطوف بالبنت بين قاعة الاستعجالات، ومخبر التحاليل، وجناح التصوير بالأشعة، وقسم التخدير والإنعاش، والجراحة العامة. وفي حدود الساعة الرابعة صباحاً كانت البنت قد أُجريت لها عمليةٌ جراحيةٌ ناجحةٌ واستعادت وعيها!! حمدتُ الله، وشكرتُ الشاب الذي كان لي ظهيراً وسنداً ومعيناً، وقلتُ له: "سيبقى خيرك يطوق عنقي ما حييت"؛ فقد كان كل مَن في المستشفى يخدمني خدمةً استغربتُ من مستواها الراقي جداً، ولم أسمع بها سوى في مستشفيات الدول المتقدمة في هذا المجال!! وبعد ثلاثة أيامٍ، أمرني الطبيب الذي أجرى العملية الجراحية لابنتي بمغادرة المستشفى؛ فطلب مني صاحبي الذي التقيته أول يومٍ أن تمكث الطفلة في بيته أسبوعاً آخر حتى تسترد عافيتها، وتستكمل نقاهتها، لأن السفر متعبٌ والمسافة بعيدة!! استحييتُ من كرمه وخيره، لكني استجبتُ له، ومكثتُ في ضيافته سَبع ليالٍ، وكانت زوجته تخدم ابنتي، وكان هو وأولاده يترفقون بي وبابنتي، ويعاملوننا بمنتهى الرقة واللطف والأدب. وفي الليلة السابعة، لمّا وضعوا الطعام على المائدة، وتحلقوا للعَشاء، امتنعتُ عن الطعام، وبقيتُ صامتاً لا أتكلم، قال لي الرجل: "كُلْ يا عم، كُلْ، ما ألمَّ بك!؟"، قلتُ وبصوتٍ مرتفعٍ ونبرةٍ حادةٍ: "واللهِ لن أذوق لكم طعاماً إلا إذا أخبرتموني مَن أنتم؟ ومَن تكونون؟ أنتَ تخدمني طوال أسبوعٍ كاملٍ، وأنا لا أعرفك. تخدمني وتُبالغ في إكرامي!! وأنا لم ألتقِ بك سوى مرةٍ واحدةٍ في المستشفى!! مَن أنت!؟"، قال: "يا عم كُلْ، هيا كُلْ وبعد العشاء أُخبرك"، قلتُ: "واللهِ لن تدخل فمي لقمةٌ واحدةٌ، ولن آكل طعامك إنْ لم تخبرني من أنت؟ ومن تكون؟"، حاول الرجل التهرب من الجواب لكنه -وأمام إصراري- أطرق برأسه قليلاً، ثم قال بنبرةٍ خافتةٍ: "يا عم إن كنتَ تَذْكُر؛ فأنا ذاك الطفل الذي أعطيتَه خمسة دنانير سنة 1964م عندما كنتُ أجلس خلفك في الحافلة. أنا ابن فلانٍ ابن فلان"، قلتُ: "آه تذكرتُ؛ أنت ابن فلانٍ من قريتنا!! نعم، نعم، لقد تذكرتُ؛ يومها كنتُ في الحافلة متجهاً من قريتنا الفلاحية إلى إحدى المدن القريبة، وكان يجلس خلفي صَبِّيان عمرهما لا يتجاوز، على ما يبدو، سبعة أعوامٍ، سمعتُ أحدهما يحدث الآخر قائلاً له: هذا العام شحت السماء، والخريف يوشك أن ينصرم، والأرض لا تُنبت شيئاً، وأبي فلاحٌ فقيرٌ ليس لديه ما ينفقه عليَّ، ولذلك فأنا مضطرٌ لترك مقاعد الدراسة هذا العام!! لمّا سمعتُ الطفلين يتحدثان عن الفقر والحرمان بهذا الوعي الذي لا يدركه إلا الكبار، تأثرتُ وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت!! وعلى الفور أخرجتُ من جيبي خمسة دنانير ونَاولتها للصبي، وقلتُ له: خذ هذه الدنانير -والمبلغ آنذاك يفي لشراء الأدوات المدرسية كلها- رَفَضَ الصبي أخذ الدنانير، فقلتُ له: ولماذا يا ولدي!؟ قال: ربما يظن أبي أني سرقتُها؟ قلتُ: قل له فلانٌ بن فلانٍ أعطاني إيّاها لشراء الأدوات المدرسية، فإن أباك يعرفني تمام المعرفة، تهللت أسارير الطفل وتناول الدنانير الخمسة، وابتسم ابتسامة الرضا والسرور ودسها في جيبه، ونسيتُ من يومها هذا الموقف مع ذاك الصبي"، قال الرجل: "فأنا يا عم ذاك الصبي، بفضل الله، ثم بفضل هذه الدنانير الزهيدة لما أصبحتُ اليوم بروفيسوراً في أكبر مستشفى بالجزائر، وها قد التقينا بعد أنْ منَّ الله علي بأعلى المراتب في أنبل وأشرف المهن، فقد افترقنا سنة 1964م وها نحن نلتقي سنة 1994م بعد ثلاثين عاماً بالتمام والكمال!! والحمد لله أنْ قدرني لأرد لك بعض الجميل؛ يا عم الدنانير الخمسة التي أعطيتَها لي صنعت مني بروفيسوراً في الطب، يا عم واللهِ لو أعطاني أحدٌ كنوز الدنيا ما فرحتُ بها الآن كفرحي يومها بتلك الدنانير الزهيدة. يا عم أفضالك عليَّ كبيرة، واللهِ مهما فعلتُ فلن أرد لك الجميل؛ فأسأل الله أن يجازيك خير الجزاء".

أحبتي في الله .. يصف الملائكة الكرام المولى عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم بقولهم: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾. يقول أهل العلم إن الإنسان من طبيعته النسيان؛ لأنه لو تذكَّر ما ألمَّ به من آلامٍ وأحزانٍ، وما أحاطه من مكايد وشدائد، لكَرِهَ العيش، وسَئِم الحياة، إنما رحمه الله فجعَلَه يتذكَّر القريب، فإذا ضربه الزمن بأيامه ولياليه، فإن الأيام تنتهي، والساعات تنقضي، والجروح تندمِلُ، والأحزان تنمحي، ويُشغَلُ الإنسان بحاضره، لكن ما ينساه الإنسان لا ينساه الملِك الديَّان. والإنسان مراقَبٌ على مدار اللحظة، الكتاب الإلهي ينسخ ما يفعل، ويسجِّلُ ما يترك حتى يوم العرض الأكبر؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾، هناك كتابٌ ينطق بالحق ويخبر بكل ما يعمل الإنسان؛ يقول تعالى:﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، عملُك يُنسَخُ ويُحفَظُ في مكان مأمون لا يتلف ولا يسرق، ولا يصادر، ولا يتغير؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، فهو تعالى عالمٌ بكل شيءٍ، بيده كل شيءٍ، بكل شيءٍ بصير، وعلى كل شيءٍ قدير، يخلق ما يشاء ويختار، وكل شيءٍ عنده بمقدار؛ يقول تعالى على لسان سيدنا موسى عليه السلام: ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾؛ أي أن أعمالنا تُحصَى علينا، يستوي في ذلك كبيرُها وصغيرها، جليلُها ودقيقُها، سرُّها وجهرها، إحصاءٌ دقيقٌ، وحفظٌ وثيق؛ يقول تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾، ويقول: ﴿وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾. وفي يوم القيامة وبين يدي الله تعالى سيُفاجَأُ الخلق بهذه الأعمال مكتوبةً يقرؤونها، ومسطورةً يشهدونها، وبارزةً يُحسونها، فيُسقَط في أيديهم، وتعلو الحسرة وجوههم، ويقولون كما قال القرآن: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.
وتؤكد آيات القرآن الكريم على أن جميع المخلوقات تقع تحت سمع الله وبصره، وإحاطته وعلمه، صغرت هذه المخلوقات أم كبرت، رأتها العيون أو اختفت عنها ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾. والله تعالى يحصي للإنسان حتى آثاره ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾.
 ثم يكون الحساب: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.

يقول العلماء أن التركيز يكون عادةً على جزاء المؤمنين الصالحين في الآخرة، بأنهم سيدخلون جناتٍ تجري من تحتها الأنهار، وينعمون بالعيش فيها، ولكن يغفل الكثيرون عن جزاء الدنيا الذي ورد بالقرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ومن ذلك:
أن الله تعالى يخرجه مما يقع فيه من أزماتٍ أو مكائد أو مشاكل، ويرزقه من حيث لا يحتسب؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.
ومنها زيادة المال ومضاعفته لمن ينفقه في سبيل الله على الفقراء والمساكين والمحتاجين؛ يقول تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
ومنها أن الله تعالى يهب الحكمة والعلم للمحسنين من البشر؛ يقول تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.
ومنها تيسير سبل الهداية والعلم والمعرفة لمن يسعى لذلك مخلصا لله؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

واللهِ إنه لثوابٌ من الله عظيمٌ في الحياة الدنيا لمن يعمل الخير والإحسان، وهو مع عظمته قليلٌ إذا قُورن بثواب الآخرة؛ مصداقاً لقوله تعالى: ﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.

أحبتي .. ليفعل كلٌ منا ما يشاء، لكن علينا أن نتذكر دائماً أن كل شيءٍ موثقٌ في كتابٍ عند ربنا سبحانه وتعالى (وما كان ربك نسيا)، وكل ما نفعل وكل ما نقول يكتبه رقيبٌ عتيدٌ، بل وكل ما يخطر في بالنا يعلمه علام الغيوب، ويحاسب عليه؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. فلنحسن أعمالنا وأقوالنا وظننا بالغير، ولنكثر من أعمال الخير، ومن الصدقات، ومساعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين، فذلك كله -وإنْ قل- لا يضيع أبداً، يأتينا ثوابه في الحياة الدنيا، ويضاعف لنا أجره في الآخرة أضعافاً كثيرة (وما كان ربك نسيا).
اللهم حببنا في الخير، وحبب الخير إلى نفوسنا، اللهم أعِنّا على فعل الخير واجعلنا ممن يتسابقون على فعله، اللهم استعملنا لطاعتك وسخرنا لفعل كل ما يقربنا إليك.

https://bit.ly/39iEQVu