الجمعة، 7 يوليو 2023

صناعة الكذب

 خاطرة الجمعة /403

الجمعة 7 يوليو 2023م

(صناعة الكذب)

 

كتب هذه القصة كاتبٌ مصري راحل له العديد من القصص القصيرة والروايات المنشورة، كتب يقول: يجلس الرجل جواري في سيارة الأُجرة، والتي تقطع أحد شوارع «القاهرة» المُزدحمة.. يُمسك بشطيرةٍ مليئةٍ باللحم، والدُهن يوشك على أن يسيل منها ليُغرقنا جميعاً حتى الأعناق. يقضم منها في كفاءةٍ يُحسد عليها. هنا يدق جرس الهاتف المحمول فيمد يده المُلوثة بحذرٍ ليلتقطه.. ثم تسمع المُحادثة: "نعم.. نعم.. أنا في الطريق.. منذ قلتِ لي هذه الكلمات القاسية وأنا لا أنام ولا آكل.. أُقسم أنني لم أذق طعم الزاد مُنذ ثلاثة أيام". ويمسح قطرات الدهن على شفته السُفلى، وينظر لي بعينٍ ناريةٍ مُهدِدةٍ.. الويل لمن يعترض. لكني فعلاً مُعجبٌ بشهية هذا الذي لا يذوق طعم الزاد! إنه يواصل الكلام: "أنا في «الإسكندرية».. أُقسم أنني في شارع «صفية زغلول».. سوف أكون عندكِ خلال ثلاث دقائق.. لا تقلقي أبداً". أنظر إلى شوارع «القاهرة» المُحيطة بنا وأتنهد.. هو رجلٌ دقيقٌ كذلك.. في «الإسكندرية» وفي شارع «صفية زغلول»! تُرى هل هي زوجةٌ غاضبةٌ أم شريكةُ عملٍ تُطالب بمُستحقاتها المالية؟ وماذا ستقول عندما تكتشف أنه لن يكون عندها بعد ثلاث دقائق ما لم يطر في الهواء طبعاً؟ يُنهي الرجل المكالمة وبلا أدنى ذرةٍ من التردد يواصل التهام الشطيرة الدسمة. خطر لي أنه يتمتع بضميرٍ صافٍ فعلاً.. كل هذا الكذب وأمام شهودٍ يعرفون كم هو كاذبٌ، وهو يملك صفاقةً تسمح له بأن يغرس أصابعه في عيوننا لو اعترضنا.

يقول الكاتب: لقد رأيتُ موقف الكذب على الهاتف هذا كثيراً، وفي آخر مرةٍ كان الفتى يُكلم حبيبته على الهاتف وهو يُمسك بيد حبيبته الأخرى! أعتقد أن الهاتف الذي ينقل صورة المُتكلم سوف يجلب متاعب عديدةً على أمثال مُحترفي الكذب هؤلاء، لكني لن أندهش لو ظهرت تقنياتُ كذبٍ جديدةٌ تُناسب الموقف.. سوف تُباع خلفياتٌ جداريةٌ تُمثل شوارع «الإسكندرية» ليلصقها وراءه أثناء الكلام، وسوف يكون هناك مُمثلون يقومون بدور باعة الكورنيش في «الإسكندرية»، ولربما تدّخل المُخرجون ليستعملوا حيل الكروما بحيث تبدو أمواج البحر حيةً يقظةً وراء ظهره.. وسيكون هناك فنانو ماكياجٍ يُضيفون على ملامحه لمساتٍ تجعله يبدو مُرهقاً مُسهداً ناحلاً. إن الكذب يتطور مع الزمن ليتحول إلى فنٍ من الفنون الراقية، وعلينا أن نفهم هذا قبل فوات الأوان!

 

أحبتي في الله.. كانت هذه قصةً قصيرةً لكاتبٍ مصريٍ رسمت صورةً لشكلٍ من أشكال الكذب الذي صار يتطور بتنوع أساليبه وأشكاله ومجالاته حتى أصبح صناعةً كاملة يُطلق عليها (صناعة الكذب)!

 

وقد ذمّ الله سبحانه وتعالى الكذب ونهى عنه في مواضع كثيرةٍ من القرآن الكريم؛ منها: يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ . ويقول سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾. ويقول جلَّ وعلا: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ﴾. ووصف عزَّ وجلَّ المنافقين بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾. ونهى عن الكذب بقوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾.

 

كما ورد ذمّ الكذب والنهي عنه في السُنة النبوية في العديد من الأحاديث الشريفة؛ منها: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: [آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وعَدَ أخْلَفَ، وإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [كَفَى بالمَرْءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [دعْ ما يُريبُكَ إلى ما لا يُريبُكَ فإنَّ الصدقَ طُمأنينةٌ وإنَّ الكذبَ رِيبَةٌ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حتَّى يَكونَ صِدِّيقًا. وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ويلٌ للذي يحدِّثُ بالحديثِ ليُضحكَ به القومَ فيكذبُ، ويلٌ له، ويلٌ له]. وفي حديثٍ وإن كان ضعيفاً: قيل يا رسولَ اللهِ أيكون المؤمنُ جبانًا؟ قال: [نعم]، قيل له: أيكونُ المؤمنُ بخيلًا؟ قال: [نعم]، قيل له: أيكونُ المؤمنُ كذَّابًا؟ قال: [لا].

 

يقول أهل الاختصاص إن الكذب قد انتشر في أيامنا هذه بشكلٍ كبيرٍ حتى صار صناعةً كاملةً، وأصبحت (صناعة الكذب) حرفةً لها أهلها الذين يتنافسون في إتقانها والإجادة فيها بل وتطويرها! ولعل هؤلاء هُم مَن خاطبهم المولى سُبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾. وتحولت بعض الأدوات والوسائل الإعلامية من هدف بيان الحقائق إلى غرض نشر وتوزيع الأكاذيب والافتراءات على أفرادٍ وجماعاتٍ ودُولٍ، واستخدموا في ذلك كل ما استطاعوا من أدواتٍ ووسائل: التلفاز والمذياع والصُحف والمجلات والكُتب والإعلانات والأفلام والمُسلسلات ومقاطع الڤيديو والأناشيد والأغاني ومواقع شبكة الإنترنت وبرامج التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف المحمولة والمناهج الدراسية، بل والرُسوم المُتحركة الخاصة بالأطفال وألعابهم الإلكترونية، وغير ذلك من أدواتٍ إن تحرر الإنسان من سطوة بعضها لم يَسلم من سطوة البعض الآخر.

وتزداد دائرة (صناعة الكذب) لتشمل الكثير من الأفراد العاديين، الذين يقومون بنشر الأكاذيب بحُسن نية؛ فمما زاد الطين بِلةً، سهولة النشر بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ يُمكن لأي شخصٍ أن ينشر أية مادةٍ -صحيحةً كانت أو مكذوبةً باطلةً- بالنسخ واللصق ثم إعادة النشر، بل ويتسابق الناس في ذلك بشكلٍ غريبٍ وكأنهم حريصون على أن يكونوا أول وأسرع من ينشر ويُعمم، ولا يدري الواحد منهم -في حالة نشره الأكاذيب- كم يتحمل من الوِزر والإثم. ولا حُجة لمن يقول: "نشرتها كما وصلتني"؛ فقد توفرت العديد من وسائل التحقق من صحة الأحاديث النبوية، إذا لم يكن البعض يُجيد استخدامها فإن بمقدوره أن يتريث قبل النشر والتعميم ويسأل غيره ممن يعلمون كيف يُفرِّقون بين الصحيح والباطل؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.

 

كتب أحد العارفين يقول: خطورة الكذب أنه يُخفي الحقيقة، ويقلب الأوضاع، ويطمِس الحق؛ فهو يُخبر عن الشيءِ بخلاف ما هو عليه. لقد أضحت (صناعة الكذب) -للأسف- مُزدهرةً في العالم كله، يُديرها المُنتفعون والمُنافقون، ويُنفذها الذين يبغونَها عِوجاً. وكم وُجد في عصرنا هذا مَن باع دِينه وضميره، وأهدر مروءته، وكذب وشهد زوراً، وافترى بُهتاناً، طمعاً في انتقامٍ، أو رغبةً في تشَفٍّ، أو حبّاً في تشويهٍ، أو كسباً لمالٍ أو جاهٍ، أو نفاقاً ومُراءاةً وحرصاً على التقرب زلفى، أو مُجاملةً للغير! إن الكذب رأسُ كل خطيئةٍ، وقلب كل بليَّةٍ؛ فكم من شخصٍ تضرر بخبرٍ كاذب؟ وكم من أسرةٍ شُرّدت بخبرٍ كاذب؟ بل كم من حربٍ نشبت بخبرٍ كاذب؟

 

وفي المقابل فقد مدح الله سُبحانه وتعالى الصدق حين جعله من صفات المُتقين الذين وعدهم بدخول الجنة؛ يقول تعالى: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾، ووجّهنا سُبحانه لأن نكون مع الصادقين؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، ووعد مَن حرص منا على الصدق بخير الجزاء؛ يقول تعالى: ﴿لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾، أما يوم الحساب فسيكون يوم حصول الصادقين على الجائزة؛ وهل من جائزةٍ أعظم من الخُلود في الجنة ورضا الله عنهم؟ يقول تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.

أحبتي.. الكلام عن الكذب يطول، فهو من أسوأ صفات البشر. ورغم نتائجه الكارثية فلا يسلم منه كثيرٌ منا ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾؛ إذ يُغري على مُمارسة الكذب أنه سهلٌ متاحٌ لكل شخصٍ في كل وقتٍ، وفي جميع المجالات، سريع النتائج، غير مُكلِّفٍ غالباً؛ فاتسعت حدود تلك الصناعة لتشمل الملايين من البشر الذين لا يكاد ينقضي يومٌ من حياتهم إلا وقد كذبوا على أنفسهم أو أهليهم أو زملائهم أو جيرانهم، في البيوت وفي مقرات العمل وفي الأسواق، حتى أن الكذب أصبح هوايةً للبعض!

اللهم أعِنّا على جهاد النفس للبُعد عن الكذب [إلَّا في ثلاثٍ: الإصلاحِ بينَ النَّاسِ، وحديثِ الرَّجُلِ امرأتَهُ، وحديثِ المرأةِ زَوْجَها] كما رخّص في ذلك نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم. واجعلنا ربنا من الصادقين الفائزين في دُنيانا وآخرتنا بصدق نياتنا وأقوالنا وأفعالنا.

https://bit.ly/3PRwUDL