الجمعة، 14 أبريل 2023

التضحية والإيثار

 خاطرة الجمعة /391

الجمعة 14 إبريل 2023م

(التضحية والإيثار)

كان ذا أُسرةٍ كبيرة العدد ودخلٍ محدودٍ، أثقلته مُتطلبات الأسرة ونفقات المدارس؛ فأخذ يستدين حتى يفي بما يلزمه من مصاريف، فتراكمت عليه الديون وحاصرته من كل مكانٍ، وازدادت عليه الهموم؛ فقد بلغت ديونه مبلغاً كبيراً لا يُمكن لدخله المحدود أن يفي ولو بجزءٍ صغيرٍ منه، فوقف عاجزاً بين مُتطلبات أسرته الكبيرة وبين أصحاب الديون الذين أخذوا يطالبونه بحقوقهم. أغلقت له الدنيا أبوابها، فلجأ إلى باب الواحد الأحد الذي لا يرد سائلاً، ولا يُغلق بابه في وجه مَن قصده، تلجأ إليه جميع الخلائق لقضاء حوائجها ولا يحتاج هو لأحدٍ، سُبحانه وتعالى.

ظل يدعو بقلبٍ تملؤه الثقة بالله تعالى وبفرجه ورحمته؛ فأشرق له بصيصٌ من أملٍ في قضاء دَيْنه، حين تقدم لخطبة إحدى بناته واحدٌ من كبار التجار، وعرض مهراً كبيراً يُمكن به أن يقضي ما على الأب من ديون. فرح الأب بذلك وعرض على ابنته الكُبرى الأمر فرفضت بشدة؛ لأنه أكبر منها سناً؛ فهو في عُمر والدها. حاول الأب أن يُقنعها لعلها توافق عليه، وذكرّها بما عليه من ديونٍ أثقلت كاهله، وأحنت قامته ورأسه، لكنها لم تلن، ولم تقبل أن تُضحي من أجل والدها. لم يشأ والدها أن يُجبرها فيكون سبباً في تعاستها، لكنه تمنى منها أن تُقدّر ظروفه وتُوافق؛ فالمتقدم رجلٌ لا غبار عليه في خُلُقٍ أو دِين؛ لكنه كبيرٌ في السن نوعاً ما، وهذا شيءٌ لا يُقدح فيه؛ فكثيرٌ من الرجال يتزوج في كبره ويكون الزواج ناجحاً وسعيداً، لكنها أصرت على موقفها؛ فشعر الأب أن الباب الذي يُمكن أن يكون سبباً لإزاحة هذا الثقل عن كاهله قد أُغلق، فأسبل الدمع حُزناً وعجزاً عن دفع هذا الهم الذي يكاد يقتله، وسداد هذا الدين الذي أرهقه، وقال: "حسبي الله ونعم الوكيل"، فرأته ابنته الصُغرى ورأت دموع العجز والحُزن تنحدر على خديه، فقالت له: "كفكف دموعك يا أبي؛ لن أرضى أن تخرج هذه الدموع الغالية وأنا أستطيع أن أكفكفها عنك، ادفعني إليه يا أبي فإني أرضى أن أكون زوجةً له بشرط أن يُسدد جميع ديونك"، لم يُصدِّق الأب ما سمع؛ فكررت ابنته عليه ما قالت، فسُرّ بذلك وحمد الله وأثنى على ابنته خيراً ودعا لها. تم العقد عليها لذلك الرجل، ودفع لهم مبلغاً كبيراً مهراً لعروسه؛ فأعطته لوالدها وقضى به ما عليه من دَيْنٍ، وأزاحت بذلك عن والدها الهم الذي أثقله سنواتٍ عديدة. لقد كانت تتمنى -مثل كثيرٍ من الفتيات- الشاب الذي يُقاربها في السن، ويكون ذا علمٍ ودِينٍ وخُلُق، الشاب الذي تكون هي أول زوجةٍ تدخل في حياته؛ لتُحيلها إلى سعادةٍ وحُبور، والشاب الذي ترضاه لنفسها بدون ضغوطٍ أو اضطرارٍ، الذي تقبله لشخصه وليس لماله حتى لا يمتن عليها بماله، ويظن أنه اشتراها به. ثارت في نفسها مشاعرُ مُختلطةٌ ما بين خوفٍ وقلقٍ وحُزنٍ؛ لكنها لجأت إلى الله تعالى أن يمدها بعونٍ منه ورحمةٍ وأن يُعوضها خيراً وأن يُصبِّرها ويرزقها طاعة زوجها وإكمال حقوقه. وحددوا موعد الزواج، وقبل الموعد المُحدد بأيامٍ اضُطر زوجها للسفر فجأةً لعملٍ مُهمٍ فتأجل الزواج إلى حين عودته، لكنه لم يعد؛ فقد وافته منيته في تلك السفرة، ولم يتم الزواج، وورثت زوجته التي لم يدخل بها الملايين، وأصبحت -ما بين عشيةٍ وضُحاها- من الأغنياء، وهي التي ضحّت بنفسها من أجل المال حتى تقضي به ما على والدها من ديون، وهي التي لم تستطع أن تتحمل رؤية دموع العجز والانكسار في عينيّ والدها، فآثرت أن تُضحي بسعادتها من أجل أن تمسح الشعور بالذُل الذي يُلازم والدها، وتُرجع إليه الابتسامة التي افتقدتها فيه منذ مدة. لقد عوّضها ربها خيراً عن صبرها وتضحيتها من أجل والدها؛ فكفاها الأمر، ورزقها من حيث لا تحتسب، فسُبحان من لا يرد سائلاً، ولا يُخيّب راجياً، وسُبحان من يُجيب من دعاه، ويكفي من توكل عليه.

 

أحبتي في الله.. قدمت الابنة الصُغرى نموذجاً حياً لخُلُقٍ نبيلٍ من الأخلاق الإسلامية؛ وهو خُلُق (التضحية والإيثار)؛ فقد ضحت بنفسها وآمالها وحياتها الشخصية، وبكل ما تتمناه كل بنتٍ في سنها، ضحت وآثرت سعادة أبيها على سعادتها الشخصية، وكأنها كانت تتمثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: [أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا...]، إن كان هذا مع كل الناس فما أجمل أن يكون مع أقرب الناس وأحب الناس؛ إذ كانت تضحيتها لأبيها وإيثارها له سبباً في سرورٍ أدخلته عليه، وكربةٍ كشفتها عنه، ودَيْنٍ قضته عنه. ولم يُضيع الله تضحيتها وإيثارها؛ فأنعم عليها بما لم تكن تحلم به، ولا خطر على بالها.

 

يقول أهل العلم إن الإسلام جاء حاملًا معهُ الخير العظيم، فجاء يدعو إلى الأخلاق الحميدة، وخاصةً إلى البذل والعطاء، ومن ذلك (التضحية والإيثار).

والتضحية هي بذل النَّفس أو الوقت أو المال؛ لغايةٍ أعظم، ولأجل هدفٍ أسمى، مع النية في احتساب الثواب من الله -عزَّ وجلَّ-. أما الإيثار فهو تقديم الغيرِ على النفس، وتقديم مصلحته على المصلحة الذاتية، وهو أعلى درجات السخاء، وأكمل أنواع الجود والكرم، ومنزلةٌ عظيمةٌ من منازل العطاء.

وقد ضرب صحابة النبي-عليه الصلاة والسلام- أروع الأمثلة في ذلك؛ فقدَّم الأنصار مثالاً رائعاً في (التضحية والإيثار) حين قدِمَ إليهم المُهاجرون من مكّة، فأحسنوا استقبالهم، وقاسموهم كل ما يملكون، من مالٍ وعملٍ، وحتى زوجاتهم، فكانوا خير مثالٍ في (التضحية والإيثار)، ونزل فيهم قوله تعالى مادحاً لهم: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. قال المفسرون إنّ هذا وصفٌ للأنصار الذين أعطوا إخوانهم المهاجرين أموالهم، إيثَاراً لهم بِها على أنفسهم، رغم ما كان بهم من حاجةٍ وفاقةٍ، قدِّموهم على حاجة أنفسهم؛ فكانوا مثالاً فريداً للتضحية بكل غالٍ وللإيثَار مع الخصاصة.

 

ومن أمثلة (التضحية والإيثار) تقول أمُّ المؤمنين السيدة عائشة -رضي الله عنها-: "جاءتني مسكينةٌ تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمراتٍ، فأعطت كلَّ واحدةٍ منهما تمرةً. ورفعت إلى فيها تمرةً لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقَّت التَّمرة، التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرتُ الذي صنعتْ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: [إنَّ الله قد أوجب لها بها الجنَّة، أو أعتقها بها مِن النَّار] فهذا الإيثَار دافعه حبُّ الأم لابنتيها ورحمتها بهما.

وفي غزوة اليرموك أصيب عددٌ من المسلمين بجروحٍ شديدةٍ فاستسقوا ماءً، فجيء إليهم بشربة ماءٍ، فلمَّا قُرِّبت إلى أحدهم نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه. فلما دُفِعَت إليه نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه. فتدافعوها كلُّهم -مِن واحدٍ إلى واحدٍ- حتى ماتوا جميعاً ولم يشربها أحدٌ منهم -رضي الله عنهم- أجمعين.

 

يقول العُلماء إنّ خُلُق (التضحية والإيثار) له العديد من الفوائد؛ من ذلك: تحقيق التكافل والتراحم بين أفراد المجتمع، وتنمية الإحساس بالمسئولية الاجتماعية وعلو الهمة تجاه الآخرين، وتعزيز سلوك الرحمة ومحبة الغير، والابتعاد عن الأثرة المذمومة، والبُعد عن داء الشُح والأنانية، وكل ذلك يعمل على تقوية الأمة وتماسك أفرادها.

 

وعن الإيثار قال الشاعر:

المالُ للرَّجلِ الكريمِ ذرائعٌ

يبغي بهنَّ جلائلَ الأخطارِ

والنَّاسُ شتى في الخِلَالِ وخيرُهم

مَن كان ذا فضلٍ وذا إيثارِ

 

أحبتي.. كلما عمّ خُلُق (التضحية والإيثار) وانتشر بين الناس بعضهم وبعض، كلما قوي المجتمع وتماسك، وسادت فيه روح التكافل والتضامن والتآزر، فصار كالبيت الواحد ينعم فيه جميع سكانه بالأمن والأمان والسلام، ويتمتعون بالمحبة والسكينة والوئام. فمن كان منا هذا خُلُقه فليستمر ويحمد الله على هذه النعمة ويجتهد في الإكثار منها، أما من كان هذا الخُلُق صعباً عليه فلا يتركه، بل عليه أن يُجاهد نفسه حتى يتغلب على شُحها، ويكتسب هذا الخُلُق النبيل، يُساعده في ذلك أن يتذكر الأحاديث النبوية الشريفة التي تحث على مساعدة الآخرين ومعاونتهم؛ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: [لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ]، وقوله: [إنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا]، وقوله: [وَاللهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ]، وغيرها كثير.

اللهم اجعلنا مُسلمين صالحين، نافعين لغيرنا، مُضّحين من أجلهم مؤْثرين مصالحهم على مصالحنا فيما لا إثم فيه ولا معصية، واجعلنا اللهم من المُفلحين الذين وصفتهم بقولك سُبحانك: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

https://bit.ly/41afK75