الجمعة، 8 يونيو 2018

مهلاً رمضان!


الجمعة 8 يونيو 2018م

خاطرة الجمعة /١٣٨
(مهلاً رمضان!)

كم كنت أدعو أن يبلغنا الله رمضان، وكم وضعت لنفسي من خطط وبرامج  لهذا الشهر، ومع ذلك أعترف الآن بأني قد فاتني الكثير فيما مضى من أيام  رمضان .. فتمهل أيها الشهر الفضيل عسى أن أتدارك في آخر أيامك ما فاتني!
صدق الله العظيم حين قال عن أيامك: ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾، لكن لم نكن، أنا وكثيرون غيري، نتصور أن تمر أيامك المعدودة بهذه السرعة .. فهلَّا تمهلت قليلاً؟

أحبتي في الله .. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ]؛ فليسأل كلٌ منا نفسه: هل نحن من الذين رغمت أنوفهم؟ أم من الذين غفر الله لهم؟ هل استفدنا مما انقضى من أيام الشهر الفضيل ولياليه؟ أم كنا من المقصرين الذين غرّهم الأمل فقضينا ما فات من رمضان لاعبين لاهين؟

اقتربت نهاية شهر الخير فماذا نحن فاعلون فيما تبقى من لياليه؟
قال ابن الجوزي: "عباد الله، إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومنْ فَرط فليختمه بالحسنى والعمل بالختام، فاستغنموا منه ما بقي من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملاً صالحاً يشهد لكم به عند الملك العلاّم، وودعوه عند فراقه بأزكى تحيةٍ وسلام". وقال: "الليالي والأيام الفاضلة لا يصلح أن يُغفل عنهنّ؛ لأنه إذا غفل التاجر عن موسم الربح، فمتى يربح؟". وقال كذلك: "إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قُصارى جهدها لتفوز بالسباق، فلا تكن الخيل أفطن منك! فإنما الأعمال بالخواتيم. فإنك إذا لم تُحسن الاستقبال لعلك تحسن الوداع".
وقال ابن تيمية: "العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات".
وقال قتادة: "من لم يُغفر له في رمضان فمتى يُغفر له؟ ومن رُد في ليلة القدر متى يُقبل؟".
وقال الحسن البصري: "أحسِن فيما بقي يُغفر لك ما مضى، فاغتنم ما بقي فلا تدري متى تُدرَك رحمة الله"!
وقال الشاعر:
فيا شهرَ الصيامِ فدتكَ نفسي
تمهلْ بالرحيلِ والانتقالِ
فما أدري إذا ما العامُ وَلَّىَ
وعُدَتَ بقابلٍ في خيرِ حالِ
أتلقاني مع الأحياءِ حياً
أم أنكَ تلقني في اللحدِ بالي

ما أسرع مرور الأيام، وانقضاء الأعوام؛ وإن في مرورها وسرعتها لعبرةً للمعتبرين، وعظةً للمتعظين؛ قال عز وجل: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ﴾، بالأمس القريب كنا نتلقى التهاني بقدوم شهر رمضان، ونسأل الله بلوغه، وعندما استقبلناه كان لسان حالنا يقول: أهلاً رمضان، واليوم اقتربنا من وداعه بكل أسىً، ونقول له: (مهلاً رمضان!).
يقول الشاعر:
يا خير من نزلَ النفوسَ أراحلُ
بالأمسِ جئتَ فكيفَ كيفَ سترحلُ
بكتِ القلوبُ على وداعك حرقةً
كيف العيونُ إذا رحلتَ ستفعلُ
ما بال شهرِ الصومِ يمضي مسرعاً
وشهورُ باقي العامِ كم تتمهّلُ
عشنا انتظارك في الشهورِ بلوعةٍ
فنزلتَ فينا زائراً يتعجّلُ
فعساكَ ربي قد قبلتَ صيامَنا
وعساكَ كُلَّ قيامِنا تتقبَّلُ
إنْ كانَ هذا العامُ أَعطى مهلةً
هل يا تُرى في كُلِّ عامٍ يُمهِلُ؟
رمضانُ لا أدري أعمري ينقضي
في قادمِ الأيامِ أم نتقابلُ؟!

يقول أهل العلم أن العمر فرصةٌ لا تُمنح للإنسان إلا مرةً واحدةً، فإذا ما ذهبت هذه الفرصة وولت، فهيهات أن تعود مرةً أخرى؛ فاغتنم أيام عمرك قبل فواتِ الأوان ما دمتَ في زمن المهلة؛ قال عمر بن عبدالعزيز: "إنَّ الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل أنت فيهما"، وقال ابن مسعود: "ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غَرَبت شمسُه، نَقَصَ فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي".

لقد أكرمنا الله بشهر رمضان بأن ضاعف فيه الأجور، وأعطانا فرصةً لتدارك ما فاتنا من الأعمال الصالحة، فهل كنا على قدر عطاء الله، وهل كنا على قدر كرم الله؟! فطوبى للتائبين في رمضان، وطوبى للعابدين في رمضان، وهنيئاً لمن أقبل على الله في رمضان، والخسارة كل الخسارة، والثبور كل الثبور لمن لم يستثمر هذا الشهر؛ فقد لا يدركه مرةً أخرى. فمن لم يتب في رمضان متى يتوب؟ ومن لم يرجع إلى ربه في رمضان متى يؤوب؟ ومن لم يأخذ بحظٍ وافرٍ من هذه الليالي متى يحصل على المطلوب؟!
قال الشاعر:
غداً تُوفى النفوسُ ما كسبت
ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسِهم
وإن أساءوا فبئسَ ما صنعوا

كتبت إحداهن تقول: منا من يشعر بالحزن لأنه لم ينجز في رمضان ما كان يتمنى من الطاعات وفضائل الأعمال، ولكن هيهات هيهات أن تعود عجلة الزمن إلى الخلف لنحقق لأنفسنا ما كنا نتمنى، وها نحن قبل الحسرة والحزن على فوات فرصة رمضان يظل الأمل وتظل الفرصة أمامنا سانحةً؛ فها هو رمضان ما زال بيننا حياً ومستمراً، ومنحةً ما زالت بين أيدينا. فإن كنت ممن لم يحقق ما يرضي طموحه في الطاعة واغتنام فرص رمضان الكثيرة، فشمر الآن ودون تسويف؛ ما تزال لديك أيامٌ لا تُضَيِّعها، وربك كريمٌ يقبل التوبة، والسباق ما زال قائماً فلا تتأخر، إن ربك ينتظر عودتك إليه؛ فهو يحبك ويريد أن يأخذ بيديك إليه ليرحمك ويغفر لك ويعتقك من النيران، ويمنحك الجنة، فأقْبِل على ربك بقلب المحب المشتاق إلى رحمة ربه وغفرانه والعتق من نيرانه.

أقول لك يا رمضانُ، كما يقول غيري: ترفق، دمع الفراق تدفق، وفؤاد المحبين تمزق، عسى بركب المقبولين نلحق، وعسى من النيران نُعتق، فلا تفارقنا إلا ورضى الرحمن علينا تحقق.
وأقول لنفسي ولكل من غفل عن الأيام والليالي التي انقضت من هذا الشهر الفضيل: أَفِقْ من غفلتك، وبادر إلى خير العمل في خير الشهور لتكون من الفائزين برضوان الله، لا تقنط، لا تؤجل، لا تُسَوِّف، وتأمل قول رب العزة يخاطبك: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾.

وأختمُ بالقول ‏أن الخسران المبين هو أن يمضي شهر رمضان، خاصةً العشر الأواخر منه، وأنت مفلسٌ من صيام الجوارح، ومن تلاوة القرآن، ومن صلاة الجماعة على وقتها في المسجد، ومن القيام، ومن التهجد، ومن الصدقات، ومن صلة الأرحام، ومن أعمال الخير والبر التي تقربك إلى الله، فاغتنم ما بقي من العشر.

أحبتي .. ما تزال أمامنا أغلى ساعاتٍ في العام كله، لو أضعناها نكون قد أضعنا فرصةً لن تعود إلا بعد قرابة عامٍ، وعندما تعود لا نعلم إن كنا سنكون على قيد الحياة وقتها أم لا .. إنها الساعات القليلة المتبقية من العشر الأواخر من أيام رمضان ولياليه، وقد يكون فيها ليلة القدر، وهي ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر؛ فلنقل لرمضان (مهلاً رمضان!)، ولنقتصد في راحتنا، ونقلّل من نومنا، ونتعب أنفسنا في الطاعة، ونتزوّد لآخرتنا.
قال الشاعر:
يا غَافِلاً وَليالِي الصَّومِ قَد ذَهَبَتْ
زادَتْ خَطَايَاكَ قِفْ بِالبَابِ وَابْكِيهَا
وَاغْنَمْ بقيـةَ هذا الشَّهْرِ تَحْظَ
غرستَـهُ مِنْ ثِمَارِ الخيـرِ تَجْنِيـهَا

اللهم اجعل قلوبنا خاشعةً لذكرك، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وتقبل اللهم منا صيامنا وقيامنا وسجودنا وركوعنا وسائر أعمالنا .. واجعل اللهم الصيام والقرآن يشفعان لنا يوم القيامة، كما أخبرنا بذلك رسولك الكريم عليه الصلاة والسلام.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


https://goo.gl/ckqkBG