الجمعة، 9 سبتمبر 2016

القضاء والقدر

الجمعة 9 سبتمبر 2016م
                                        
خاطرة الجمعة /٤٨
(القضاء والقدر)

قال لي وهو يكاد يبكي: "أعلم أن حظي سيء، ليس لي بخت، مكتوبٌ عليّ التعب والشقاء"، قلت محاولاً تخفيف ما يشعر به من مرارة: "اصبر وما صبرك إلا بالله"، رد قائلاً: "صبرت حتى ضقت ومللت من الصبر"، قلت له: "هذا قول الضعيف، أما القوي فيقول: سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري، سأصبر حتى ينظر الرحمن في أمري، سأصبر حتى يعلم الصبر أني صبرت على شيء أَمَر من الصبر .. هكذا قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه"، اكتفى بالقول: "لا فائدة؛ إنه قدري"، قلت فاتحاً له باب الأمل: "ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرجت، وكنت أظنها لا تفرج".
تركني وانصرف، بعد أن خفف قليلاً من همومه بالتنفيس عنها، وزاد كثيراً في همومي أنا؛ فعبارته الأخيرة "لا فائدة؛ إنه قدري" ظلت تدق مسامعي وتؤرقني؛ ليلح علي سؤالٌ مهم: هل نستطيع أن نغير من أقدارنا؟
ما برح هذا السؤال يدور في رأسي باحثاً عن إجابة إلى أن تذكرت أنه سبق لي أن قرأت شيئاً حول موضوع (القضاء والقدر) وهل يمكن للدعاء أن يغير ما قدره الله سبحانه وتعالى لنا وكتبه علينا؟ .. رجعت إلى دفترٍ أكتب فيه بعض ما أقرأ فوجدت ضالتي في فقرةٍ للإمام الغزالي قال فيها رحمه الله: {فإن قيل: ما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له؟ فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فإن الدعاء سببُ رد البلاء ووجود الرحمة، كما أن البذر سببٌ لخروج النبات من الأرض، وكما أن الترس يدفع السهم، كذلك الدعاء يرد البلاء}، هكذا إذن صار الأمر واضحاً جلياً، بالدعاء يتغير (القضاء والقدر)، وبحياء وكرم الله سبحانه وتعالى تتم الاستجابة للدعاء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً]، والدعاء يغير بإذن الله أموراً في الحاضر وأموراً في المستقبل؛ قال عليه الصلاة والسلام: [ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجَّل له دعوته، وإما أن يدّخرها له في الآخرة، وإما يصرف عنه من السوء مثلها].
علينا إذن بالدعاء لنغير (القضاء والقدر)؛ يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: [الله عز وجل يمحو بالدعاء ما شاء من القدر]، ويقول صلى الله عليه وسلم: [الدعاء ينفع ممَّا نزل وممَّا لم ينزل، وإن البلاءَ لينزل فيتلقَّاهُ الدُّعاء فيعْتَلِجَانِ إلى يوم القيامة]، <ومعنى يعتلجان: يصطرعان>؛ فالدعاء يرد القضاء لأنه من قضاء الله وقدره. ورد في الأثر {أن طالباً سأل شيخَهُ فقال: هل تتغيّر الأقدار يا شيخي؟ فردَّ الشيخ: أوَ ما بَلغَك أن الدُّعاء يُصارع الأقدار، وأنّ ثَمّة دعاءً من قوته وكثرة إلحاح صاحِبه وشدّة توسله يغلب أقداراً تنزَّلت وشارفت على الوقوع؟ وأنّ ثمّة من يُتقنون الدّعاء بكثافة حتى تتنادى لدموعِهم ملائكة السماء؟ يا بُنيّ .. إنّ الدعاء بعضٌ من إرادة الله، فتعلّم كيف تفر من قدرٍ يُرهقك إلى قدرٍ خيرٍ منه، وذلك فقط إذا علَّمت رُكبتيك كيف تجثو في الأسحار. يا بُنيّ .. إن كلماتك في السُّجود تشتدّ كل ليلة كَسِياجٍ حتى يتطاول لك البُنيان، وفي لحظة اكتمال، سيبدو لك جليّاً أين كانت تذهب تلك الأنّات وتلك الدعوات. يا ولدي .. ثق أنَّ الدُّعاء يعيدُ ترتيب المشهد}.ولنا عبرة في قول الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾، إذ يتبين لنا أن الاستجابة تمت بعد الاستغاثة بالدعاء، فقد أمرنا المولى عز وجل بالدعاء: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي﴾، ووعدنا بالإجابة ﴿أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، إنه وعدٌ ممن لا يخلف وعده ﴿وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾.

أحبتي في الله ..  نحن عندما ندعو الله إنما نفر من قدر الله إلى قدر الله، فلو لم يُعنَّا الله تبارك وتعالى ويوفقنا للدعاء ما كنا دعونا، وإذا شاء الله وأراد أن يغير قدرنا بالدعاء أعاننا عليه، فبالدعاء يتغير(القضاء والقدر) عندما ندعو ونحن موقنون بالإجابة؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ].

أحبتي .. القدر هو ما قدّره الله وقضاه من المقادير، فلا يقع شيء في الكون إلا وقد علمه الله في علمه الأزلي، وقضى أن يكون؛ قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾، وقال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ﴾، وقال عز وجل: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾. كما قال سبحانه وتعالى: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾؛ فلنطمع في رحمة الله في محو ما يشاء من أقدارنا؛ فقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال وهو يطوف بالبيت: {اللهمّ إن كنت كتبت عليّ شقوة أو ذنباً فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أمّ الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة}.
فلنغير (القضاء والقدر) بإذن الله تعالى بالإخلاص في الدعاء والإلحاح فيه والأخذ بشروط الاستجابة له خاصةً منها طيب المطعم؛ كما قال الحبيب المصطفى لسعد بن أبي وقاص: [أَطِبْ مَطْعَمَكَ؛ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَة].
السؤال الآن، هل يوجد في غير الدعاء ما تتغير به أقدارنا؟ الإجابة، نعم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: [مَنْ أحبَّ أن يُبسطَ له في رِزقه، ويُنسأ له في أَثَرِه فلْيَصِلْ رحِمه]، ويقول: [لا يزيد في العمر إلا البر]؛ كما يقول: [الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار]، ورُوي عنه قوله: [إن صدقة السر تطفئ غضب الله وتدفع ميتة السوء]، إنه الدعاء عندما يقترن بالعمل؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.
إذن (القضاء والقدر) يتغيران بالدعاء وصلة الرحم وأعمال البر والصدقات، وبتغيير ما بأنفسنا ليكون كلٌ منا قرآناً يمشي على الأرض على منهج الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.


تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/wjxwrO