الجمعة، 29 يوليو 2022

نور القلوب

 

خاطرة الجمعة /354


الجمعة 29 يوليو 2022م

(نور القلوب)

 

بملامحه التي ظهرت عليها أمارات اليأس والإحباط، توجه الشاب الضرير «أمجد» إلى قطار الدرجة الثانية بصُحبة أخيه، الذي أجلسه في مقعدٍ خالٍ مُستعيناً بمصباح هاتفه؛ حيث ساد القطارَ المتهالك ظلامٌ دامسٌ، ثم ودّعه وانصرف. وحتماً لم يدر في خلد الشاب أنه يجلس بجانب رجلٍ يبدو من هيئته أنه قد تجاوز عقده الخامس، يجلس في مقعده وابتسامةٌ عذبةٌ قد ارتسمت على محياه، حال الظلام والعمى بين «أمجد» وبين رؤيتها.

جرس الهاتف يرن؛ فيُخرج الشاب هاتفه من جيب معطفه، وظهر أن المتصل هو والده الذي حادثه قليلاً، ثم رد عليه «أمجد»: "لا تقلق يا والدي؛ فابن عمي سينتظرني كما تعرف في المحطة. لا تخف" وضحك ضحكةً مُتهالكةً ساخرةً قائلاً: "حتى إن حدث لي مكروهٌ فلن يضر العالم وجودي من عدمه؛ أنا أعيش كالحيوانات أتناول طعامي وأُخرجه، وأنام لا أختلف عن السرير الذي أنام عليه. كيف لا أقول ذلك الكلام يا أبي؟ أليست هذه هي الحقيقة؟ إنني أتمنى الموت في كل دقيقةٍ. حسناً يا أبي، سأتصل بك بمجرد وصولي".

انتهت المكالمة الهاتفية، فإذا بيدٍ حانيةٍ تأخذ طريقها إلى كتف الشاب، تبعتها كلمات ذلك الشيخ الذي يجلس بجواره: "لماذا كل هذا القدر من التشاؤم يا ولدي؟ الحياة جميلةٌ، أجمل مما تعتقد". «أمجد» وهو يكبت ضيقه: "جميلة؟ وما الجميل فيها يا سيدي؟"، الشيخ: "أنك موجودٌ فيها"، أثارت الكلمة انتباه «أمجد» فرد باهتمامٍ: "كيف؟"، الشيخ: "لأنها من أجلك! هكذا خُلقت من أجلك الشمس والنجوم والشجر والبحار والأنهار، لأنك خليفة الله في الأرض"، «أمجد»: "قُل هذا الكلام لمن يرون الحياة، ويُشاهدون ما تتحدث عنه؛ الذين يُشاهدون جمال الطبيعة كما تُشاهدها أنت تماماً، و…"، قاطعه الشيخ: "لكن تلك المشاهد حيةٌ في كيانك، في حِسك، فقط دعْ عنك اليأس والإحباط سترى جمال الحياة كما أراها، سترى مشهد الغُروب عندما تُعانق الشمس صفحة المياه وتغيب في أحضانها"، بدا «أمجد» مشدوهاً من تلك العبارات التي بدت وكأن صاحبها يرسم بها لوحةً شعريةً، لكنه تابع الإنصات والشيخ يستطرد: "سترى مع تفتح الزهور أملاً جديداً في الحياة، سترى سريان ماء النيل ينتقل بك بين القُرون السابقة واللاحقة في نهر الزمن.. "، قاطعه «أمجد» باهتمامٍ: "سيدي هل أنت شاعر؟"، ابتسم الشيخ ابتسامةً عريضةً مُجيباً: "لا يا ولدي. ولكني أرى جمال الحياة، وحطّم جمالُها كل ذرةِ يأسٍ قد يدب إلى نفسي"، «أمجد»: "ليتني كُنتُ مُتفائلاً مثلك، لكن كما يُقال: يدك في المياه، ويدي في النار، ولن تشعر بمرارتي"، الشيخ: "يا ولدي إن كان الله قد أخذ بصرك، فإنه -برحمته- لم يحرمك من البصيرة، وإن كان قد سلب منك نعمةً، فقد أنعم عليك بما لا تُحصيه عدداً من نعمٍ أخرى. لماذا تنظر إلى ما أُخذ منك ولا تنظر إلى ما أُعطيت؟ لا تستصغر نفسك وتحتقرها على حالها، وانظر إلى ما ذخر به العالم ممن سُلبوا نعمة البصر وصاروا فخراً يذكرهم التاريخ. لماذا ترى نفسك أقل من هؤلاء؟"، «أمجد»: "أتعرف سيدي أنه لم يسبق لي أن حدثني أحدهم بهذا الشكل؟ أجد لكلامك أثراً عميقاً في نفسي"، الشيخ: "إذاً فلتطوِ صفحات الماضي، واعتبر هذه اللحظات بداية حياتك وولادتك الجديدة، وعاهدني على أن تستثمر كل موهبةٍ وطاقةٍ لديك في أن تسير إلى الأمام"، تهلل وجه الشاب وهو يقول: "لقد فجرتَ في نفسي مشاعر كنتُ أظن أنها قد ماتت؛ إنني أشعر الآن بقوةٍ لم أعهدها من قبل، أرجوك كُن على صلةٍ دائمةٍ بي، وتفقد أحوالي؛ أنا أحتاج لمثل هذه الروح التي بعثت فيَّ الأمل من جديد"، ربت الشيخ على كتف الشاب في حنانٍ وهو يقول: "إنك لستَ بحاجة إليّ؛ فأنا على يقينٍ من أنه قد وُلد فيك العزم من جديدٍ. سأنزل في المحطة القادمة. في رعاية الله يا ولدي"، وفي سُرعةٍ سأله «أمجد»: "هل كنت في عمل؟"، أجاب مُبتسماً: "نعم. عملٌ يوميٌ؛ أستقل القطار يومياً من المنطقة التي أُقيم فيها إلى منطقةٍ أخرى، وأعود في أول قطار". تعجب الشاب، وقال: "لماذا؟"، اتسعت ابتسامة الشيخ وهو يقول: "أزرع الأمل في قلوبٍ مات فيها الأمل". قالها وهو ينهض حيث توقف القطار في المحطة، وودعه: "في رعاية الله يا ولدي، في رعاية الله"، فأجاب الشاب مُمتناً: "في أمان الله يا زارع الأمل"، لكن سرعان ما اتسعت حدقتا عينيه دهشةً؛ إذ سمع صوتاً مألوفاً لديه يأتي من قِبل الشيخ؛ صوت عصا طويلةٍ رفيعةٍ يملك «أمجد» أختها يتحسس بها الأعمى الطريق!

 

أحبتي في الله.. صدق الشيخ حينما قال: "إن كان الله قد أخذ بصرك، فإنه -برحمته- لم يحرمك من البصيرة"؛ يقول تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾. ويقول المفسرون في معنى هذه الآية: إن العمى ليس عمى البصر، وإنما العمى المُهْلِك هو عمى البصيرة عن إدراك الحق والاعتبار؛ فكثيرٌ مِمَّن لهم قلوبٌ لا يعقلون ولا يفهمون ولا يعتبرون، وكثيرٌ مِمَّن لهم عيونٌ لا يرَوْن إلا شخوصَ الأشياء، وقد عمِيَت قلوبُهم التي في صدورهم فلا بصيرةَ لهم. ويقول العُلماء إنه لا يُعتَبر بعمى الأبصار، وإنما يُعتَبَر بعمى القلوب؛ فليس الأعمى من لا يرى، وإنما الأعمى هو الذي لا يشعر بالحق الذي يراه، ولا يتدبر الموعظة التي أمامه، فكم من بصيرٍ يرى بعينيه ولكن قلبه لا يرى شيئاً، وكم من أعمى البصر ولكن قلبه يرى الحق، كل أصحاب العقول وكل ذوي الأبصار يرون الحق فيتبعونه، أما الذين طمس الله علي قلوبهم، فهُم يسيرون بلا وعيٍ أو إدراك.

 

وعن البصيرة والبصائر وردت عدة آياتٍ في القرآن الكريم؛ منها قوله تعالى: ﴿قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ أي على يقينٍ؛ فالبصيرة هي المعرفة التي نُميز بها بين الحق والباطل. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾ يعني الحُجج البينة الظاهرة التي تُبصرون بها الهُدى من الضلالة والحق من الباطل. ويقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي ۚ هَـٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ﴾ أي أن هذا القرآن بمنزلة البصائر للقلوب، به تُبصر الحق وتُدرك الصواب. ويقول سبحانه: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـٰؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ﴾ أي حُججاً وأدلةً على صدق ما جئتك به. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَىٰ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ﴾ أي أنواراً لقلوبهم يُبصرون بها الحقائق، كما يُبصرون بأعينهم المرئيات. ويقول: ﴿هَـٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ والبصائر جمع بصيرةٍ، والمُراد بها البُرهان القاطع الذي لا يترك في الحق لبساً، إنها حقاً (نور القلوب).

 

يقول أهل العلم إن المُسلم هذه الأيام بحاجةٍ ماسةٍ للبصيرة في دين الله أشد من أي وقتٍ مضى؛ فقد طغت الحياة المادية واستحوذت على مُعظم أوقاتنا وغالب تفكيرنا، في ظل غزارة العقائد الفاسدة والمناهج المُنحرفة والسلوكيات المُشينة والأخلاقيات السيئة، وكثرة الفتن والمآسي والويلات، وتكالب الأعداء من كل حدبٍ وصوبٍ، وعليه فنحن جميعاً بحاجةٍ لتذكير النفس بحقيقة الأشياء وما يصلح منها وما لا يصلح، ولا يكون كل هذا إلا بعلمٍ وفهمٍ وبصيرةٍ.

يقول علماؤنا: هناك بصرٌ وهناك بصيرةٌ؛ البصر يُرينا ظاهر الأشياء، أما البصيرة فتُرينا حقائق الأشياء، إنها (نور القلوب). وأي إنسان يملكُ بصراً، أما البصيرة فلا يملكها إلا المؤمن. إن البصيرة نورٌ يقذفه الله في القلب، يرى به حقيقة ما أخبرت به الرُسل، كأنه يُشاهده رأي العين؛ فيتحقق من ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرُسل، وتضرره بمخالفتهم. من هنا تتضح أهمية الدراية والفهم والبصيرة في دين الله سبحانه وتعالى، والتي لابد من السعي الحثيث لتحصيلها وبذل كل شيءٍ من أجلها.

ويقولون إن من أسباب تحصيل البصيرة: صِدقُ الإيمان بالله ورسوله، تحصيل العِلم النافع بما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، العمل بالعِلم، صِدقُ اتباع السنة ظاهراً وباطناً، المُداومة على ذِكر الله -عزَّ وجلَّ-، كثرة العبادة، والبُعد عن المعاصي بغضّ البصر وحفظ الفرج وتجنب الاختلاط المُحرم.

إن نور البصيرة عبقٌ من الجنة، يأنس به الموحدون الذين نزَّهوا الخالق عن أي شائبةٍ من شوائب الشرك، فانقادوا له، لا يُقدمون قولاً على قوله، ولا أمراً على أمره، ولا نهياً على نهيه، أولئك هم المفلحون. في المقابل فإن للمعاصي ظُلماتٌ تُطفئ (نور القلوب)، وتُعمي البصائر، وتسد طُرق العِلم، وتحجب شمس الهداية؛ يقول تعالى: ﴿وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ الـمَرءِ وَقَلبِهِ وَأَنَّهُ إلَيهِ تُحشَرُونَ﴾، إنها صورةٌ تستوجب اليقظة الدائمة والحذر المستمر من الوقوع في المعاصي؛ حتى لا تقوى تلك الظلمات وتفيض من القلب إلى الجوارح، فيغشى الوجهَ منها سوادٌ مما تُشير إليه الآية الكريمة: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وَجُوهٌ﴾.

 

أحبتي.. ليعمل كلٌ منا من أجل أن تكون في قلبه بصيرةٌ، فيعيش حياةً سعيدةً، واثقاً بالله، وبرحمته وعدالته وتوفيقه ونصره، همه أن يُطّبق أوامر الله، وأن يعيش حياته على منهج الله المُستقيم، وصراطه القويم، ليكون من المُفلحين في الدنيا، الفائزين في الآخرة.

نسأل الله العليم البصير أن يرزقنا (نور القلوب) ويُبصّرنا في ديننا ويُسدد فهمنا ويُحسّن عملنا ويهدينا سواء السبيل.

 

https://bit.ly/3Q5GAHm