الجمعة، 27 أكتوبر 2017

أدب الحوار

الجمعة 27 أكتوبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٦
(أدب الحوار)

علم صديقي أني أكاد أقاطع التلفزيون فلا أشاهد برامجه ولا أحرص على متابعة أيٍ من مقدمي ما يُسمى Talk Show وهي تلك البرامج التي تقوم أساساً على الحوار، تعجب، فقلت له: "لا عجب يا صديقي، فأنا لا أرتاح أبداً لطريقتهم في إدارة الحوار".

أحبائي في الله .. من عاش مستمتعاً بما تعلمه من (أدب الحوار) في الإسلام لا يستطيع أن يتقبل أو يتحمل أو يصبر على تلك الحوارات الرديئة التي أصبحت للأسف سمةً مميزةً لأغلب البرامج التي تستضيف ضيوفاً لتحاورهم؛ فترى التعالي، والعُجب بالنفس، وتسفيه الآخر، وتخوين المخالفين في الرأي، وإعلاء لوجهات نظر لا لصحتها وإنما لمكانة صاحبها، وتسمع عن خطوطٍ حمراء للحوار إذا أغضب أشخاصاً بعينهم أو اقترب من مؤسساتٍ معينةٍ وكأن هؤلاء معصومون فلا يجوز الحديث عنهم أو نقدهم أو توجيههم أو مساءلتهم. كما ترى أن ما يختارون من موضوعاتٍ ليست لتوعية وتثقيف الناس ولا لتعليمهم شيئاً مفيداً بقدر ما هي إلهاءٌ لهم وتضييعٌ لأوقاتهم فيما لا يفيد، فحواراتهم فيها حتى لو كان بعضها مقبولاً من حيث الشكل فهي هابطةٌ وساقطةٌ من حيث الموضوع والمضمون والمحتوى، إلا ما رحم ربي.. والأدهى والأمر عندما تبدأ وصلات السباب والبذاءة والفحش والتطاول في الكلام، فضلاً عن النفاق والمداهنة لطرفٍ يتواجد ممثلوه في جميع القنوات وفي كل البرامج بدون استثناء، والكذب والافتراء على طرفٍ غائبٍ لا يملك فرصةً لعرض رأيه أو الدفاع عن وجهة نظره.
يشعرني ذلك بالتقزز ويصيبني ما يشبه الغثيان عندما أشاهد صدفةً أو اضطراراً أحد هؤلاء المناط بهم إدارة الحوار بشكلٍ ذكي ومسئول. وأقول في نفسي كم يبعد هؤلاء عن (أدب الحوار) في بلدٍ دينه الإسلام؛ الدين الذي ضبط كل شيء في حياة الأمة لتكون ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، وكم هم قريبون من منهج الإسلام أولئك الذين يقدمون برامج مشابهةً في بلادٍ لا تدين بالإسلام!

لقد بَيَّن الله سبحانه وتعالى القواعد العامة والأسس الصحيحة ل(أدب الحوار)؛ قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وقال عز وجل: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، وغير ذلك من آياتٍ توجه المسلم إلى التزام الأدب وعفة اللسان والنزاهة والأمانة والحكمة واللين في حياته العامة وعند حواره مع الغير وجداله معهم.

أين نحن من ذلك الحوار الراقي الذي دار بين رسول الله ﷺ وعُتبة بن ربيعة من سادة قريش، يقول عتبة وهو يساوم رسول الله على ترك الإسلام: «يا ابن أخي، إنك منَّا حيث قد علمت من السِّطة {الشرف والمنزلة الرفيعة} في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك أتيت قومك بأمرٍ عظيمٍ فرَّقت به جماعتهم، وسفَّهت به أحلامهم، وعِبْتَ به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به مَن مضى مِن آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها». فقال له رسول الله ﷺ: «قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، أَسْمَعْ». قال: «يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا؛ حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سوَّدناك علينا {جعلناك سيدنا}؛ حتى لا نقطع أمراً دونك، وإنْ كنت تريد به مُلكاً ملَّكناك علينا، وإنْ كان هذا الذي يأتيك رِئياً تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبْرِئك منه؛ فإنَّه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُدَاوى منه».
حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله ﷺ يستمع منه قال: [أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟] قال: نعم. قال: [فَاسْمَعْ مِنِّي]. قال: أفعل. فقرأ ﷺ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿حم . تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ . وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾. ثم مضى رسول الله ﷺ فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله ﷺ إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: [قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ فَأَنْتَ وَذَاكَ]. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعضٍ: «نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به». فلما جلس إليهم قالوا: «ما وراءك يا أبا الوليد؟» قال: «ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشِّعْر ولا بالسِّحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني، واجعلوها بي، وخَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليَكُونَنَّ لقوله الذي سمعتُ منه نبأٌ عظيم، فإن تُصِبْهُ العرب فقد كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وإن يظهر على العرب فمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وعِزُّه عِزُّكُمْ، وكنتم أسعدَ الناس به». قالوا: «سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه!!». قال: «هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم».
وهذا الحوار في غاية الأهمية؛ فعلى الرغم أن عتبة بن ربيعة كان قد قدَّم كلامه بمجموعة من التُّهَم الموجَّهة لرسول الله ﷺ إلا أن رسول الله ظل على هدوء أعصابه، ولم ينفعل، إنما واصل الاستماع في أدبٍ واحترامٍ، مع أن عتبة عرض عليه التنازل عن دعوته مقابل ما يعرضه عليه من مغريات الدنيا، فقَبِلَ النبيُّ ﷺ أن يستمع إليه، بل قال له: [قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ]، فهو يُكَنِّيه بِكُنْيَتِهِ، أي يُناديه بأحب الأسماء إليه ويلاطفه ويرقِّق قلبه، ولما عرض عتبة بن ربيعة الأمور التي جاء بها لم يقاطعه النبي ﷺ مع سفاهة العروض وتفاهتها، بل إنه صبر حتى النهاية وأعطاه الفرصة كاملةً لكي يتكلم ويعرض وجهة نظره، وبعد انتهائه تماماً بدأ رسول الله في الكلام؛ ليضرب لنا بذلك أروع الأمثلة في (أدب الحوار) مع الآخرين، وإن كانوا مخالفين تماماً لنا في العقيدة والدين.

هذا كان دأبه ﷺ في حواراته مع الكبار، أما مع الشباب فالموقف التالي يبين ويوضح كيف كان الرسول يحاور الشباب؛ فهذا فتىً شابٌّ أتى النبيَّ ﷺ فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ. مَهْ. فَقَالَ: [ادْنُهْ]، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيباً. قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: [أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟] قَالَ: لَا. وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: [وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ]. قَالَ: [أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟] قَالَ: لَا. وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ: [وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ]. قَالَ: [أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟] قَالَ: لَا. وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: [وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ]. قَالَ: [أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟] قَالَ: لَا. وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: [وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ]. قَالَ: [أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟] قَالَ: لَا. وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: [وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ]. قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: [اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ] فلم يكن بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ. إنه حوارٌ هادئٌ يستند إلى المنطق، وينتهي بدعاءٍ طيبٍ استجاب له المولى عز وجل، حوارٌ لا يكون إلا من حليمٍ رؤوفٍ رحيم.

وحواراته ﷺ مع النساء كثيرةٌ، خاصةً مع زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، ومن ذلك ما كان من لطفه ﷺ مع عائشة رضي الله عنها بالكلام ومداعبته لها، حيث قال مرةً: [إني لأعلم إذا كنت عنّي راضيةً، وإذا كنت عليّ غَضبى]. قالت: ومن أين تعرف ذلك؟ قال: [أما إذا كنتِ عني راضيةً فإنك تقولين: لا وربِّ محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا وربِّ إبراهيم]. قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك..
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى بعضاً من أحاديث الرسول ﷺ وحواراته مع النساء ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ عندما كان يتحاور مع الصحابية خولة بنت ثعلبة.

أما (أدب الحوار) مع الأطفال فيظهر جلياً من خلال ما يرويه سهل بن سعد، رضي الله عنه، قال: "أُتي النبي ﷺ بقدح فشَرِب منه، وعن يمينه غلامٌ أصغر القوم، والأشياخ عن يساره، فقال: [يا غلام، أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟]، قال: ما كنتُ لأوثر بفضلي منك أحدًا يا رسول الله، فأعطاه إياه". فالغلام جالسٌ عن يمين النبي، والشيوخ عن يساره، ومن السُّنة البدء باليمين، وأيضاً من المتعارف عليه احترام الكبار، وتقديمهم في كل شيءٍ، فاستأذن النبيُّ الغلامَ أن يبدأ بتقديم الماء للكبار؛ ولكن الغلام رفض أن يتنازل عن حقه، يريد أن يفوز بشرف الشرب من يد الرسول، فأعطاه النبي ﷺ الماء بادئاً به.
أي احترامٍ للحقوق هذا الذي وجهنا إليه ﷺ؛ فلا تجاوز لها إلا بإذن صاحبها وتنازلٍ منه برضىً وقناعة؟ وأيُّ أدبٍ في الحوار هذا الذي علمنا إياه نبينا الكريم؟ نعم إنه (أدب الحوار) في الإسلام.

أحبتي .. لسنا كبشر نعيش في جزرٍ منفصلةٍ متباعدين بعضنا عن بعضٍ، وإنما نعيش مجتمعين معاً جنباً إلى جنبٍ، تربط بيننا علاقات ومعاملات ومصالح يمثل الحوار جوهرها؛ فهو أداة التواصل بيننا، وهو ناقل الأفكار، وهو وسيلةٌ لا غنى عنها للتفاعل والتفاهم فلا تستقيم الحياة بدون حوار. ولقد حدد لنا ديننا الذي ارتضاه الله لنا (آداب الحوار) التي ينبغي أن نلتزم بها لنسعد في دنيانا، ولنكون أصحاب دعوةٍ لأعظم دينٍ لا تقوم على الكلام بقدر ما يكون سلوكنا هو الأساس فيها. دعونا ننشر قيم ديننا، فيعرف الناس الإسلام من أخلاقنا ومن آدابنا في كل مجال خاصةً فيما يتعلق بالحوار.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، واجعلنا اللهم من الراشدين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/o43P51