الجمعة، 1 مايو 2020

البراعة والإحسان

الجمعة 1 مايو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٧

(البراعة والإحسان)

 

تحت عنوان «كلمة راس في طائرة» كتب يحكي عن موقفٍ أدهشه:

بعد أن استويتُ على مِقعدي بدرجة رجال الأعمال في الطائرة، وفي انتظار الإقلاع من جدة إلى الدمام، هزَّ كتفي أحد المسافرين، وقال لي بصوتٍ خفيضٍ: "أريدك في كلمة راس"، أي: أريد أن أتحدث معك على انفراد، توقعتُ لأول وهلةٍ أنه يريد نقوداً؛ كَوْن "كلمة راس" ارتبطت في مخيلتي بالسَلَف والدَّيْن. فقلتُ لنفسي: "يا الله، وصل المتسولون إلى الطائرات! ألم تكفهم الأموال الطائلة التي يمتصونها منا ونحن نقف في إشارات المرور؟"، قاطع أفكاري وأنا أمخر عُباب خيالي قائلاً: "عذراً أزعجتك، ولكن لا أريد أن تسمع أمي ما أريد أن أقوله لك الآن؛ لذلك أخذتك جانباً". قلتُ له: "مَن أمك؟ وما علاقتي بها؟". أجابني: "هي مَن تجلس بجوارك، لا تجيد اللغة الإنجليزية، والمضيفات لا يُجدن العربية؛ فهي تحتاج إلى مساعدتك في الترجمة لها إذا تقاطعت معهن. لا أود أن تعرف أمي أنني طلبتُ منك هذا الشيء، فتشعر بأنها ناقصةٌ؛ أنا أريدها أن تشعر بأنها الأفضل، أفضل منا جميعاً"، قلتُ له: "أبشر؛ لم تطلب شيئاً، أنت وأمك فوق رأسي، لكن لِمَ لَمْ تجلس بجوارها، ألم تجد مقعداً معها في نفس الدرجة؟"، رد عليّ: "لا، إمكاناتي محدودةٌ؛ فلا أستطيع أن أشتري تذكرتين في درجة رجال الأعمال، بوسعي بمشقةٍ أن أشتري واحدةً وهي لأمي. لا يمكن أن أسمح لأمي أن تركب الدرجة السياحية". عرضتُ عليه مِقعدي ليجلس فيه، فرَّد وابتسامةٌ كبيرةٌ تملأ وجهه: "أنا أكثر سعادةً عندما تكون أمي في درجة رجال الأعمال وأنا في الدرجة السياحية؛ أشعر أنها أعلى وأرقى مني". ودَّعني وعاد إلى مقعده، وتوقعتُ أن ألتقيه مع نهاية الرحلة، بَيْدَ أنه فاجأني بزياراتٍ مباغتةٍ كل عشر دقائق، يُقَبِّل رأس أمه ويقول لها: "توصين علىّ شيء؟ تأمريني بشيء؟"، وأحياناً ينادي المضيفة ويسألها أن تجلب شاياً أو ماءً إلى أمه. لم يَغب طويلاً عن أمه وعني، كان حاضراً بجوارنا طوال الرحلة! بعد أن هبطت الطائرة في مطار الملك فهد الدولي بالدمام عانقني بحرارةٍ كأنه يعرفني منذ عشرين سنة، وشكرني بشدةٍ، وقبل أن يودعني قلتُ له: "أنا مَن يستحق أن أشكرك؛ تعلمتُ منك درساً جديداً في البر بالوالدين، دُمتَ عالياً".

شعرتُ أمام هذا الشاب بأني ضئيلٌ جداً ومقصرٌ جداً؛ إنه مثالٌ لشبابٍ كثيرين حولنا يبرعون في البر بوالديهما، يتفننون في التعبير عن حبهم لهما، ويتقنون هذا التعبير. جعلنا الله مثلهم.

 

أحبتي في الله .. شدني إلى هذه القصة مدى بِر هذا الشاب بأمه. واستوقفني هذا التعبير الجميل «يبرعون في البِر بوالديهما»؛ فاستخدام كلمة «يبرعون» جاء مدهشاً؛ فهو في محله تماماً!

تأملتُ في هذه الكلمة، وسألتُ نفسي هل وردت كلمة «بَرَع» أو مشتقاتها في القرآن الكريم؟ بحثتُ فلم أجد لها أي استخدام على أي وجهٍ من الوجوه، لكني انتبهتُ إلى أن هناك كلمةً أخرى تفيد نفس المعنى وتزيد؛ هي كلمة الإحسان؛ يقول الله سبحانه وتعالى آمراً المسلمين: ﴿وَأَحسِنوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحسِنينَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى﴾، ويقول تعالى واعداً المحسنين: ﴿هَل جَزاءُ الإِحسانِ إِلَّا الإِحسانُ﴾، ويقول مُبشراً المحسنين بالهداية وبمعيته: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ وهل أحسن من معية الله جزاءً؟ ويَعِد المحسنين بنعيم الدنيا والآخرة؛ يقول تعالى: ﴿لِلَّذينَ أَحسَنوا في هذِهِ الدُّنيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الآخِرَةِ خَيرٌ وَلَنِعمَ دارُ المُتَّقينَ﴾، ويوضح أن جزاء المحسنين الحسنى؛ يقول تعالى: ﴿وَيَجزِيَ الَّذينَ أَحسَنوا بِالحُسنَى﴾، ويبشرهم بأكثر من ذلك؛ يقول تعالى: ﴿لِلَّذينَ أَحسَنُوا الحُسنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرهَقُ وُجوهَهُم قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصحابُ الجَنَّةِ هُم فيها خالِدونَ﴾. كما ورد الحث على الإحسان في مواضعَ أخرى كثيرةٍ من القرآن الكريم؛ من ذلك قوله تعالى: ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا﴾.

 

وأمرنا رسولنا الكريم بالإحسان في كل شيءٍ؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: [إنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسانَ على كلِّ شَيءٍ، فإذا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، ولْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ولْيُرحْ ذَبيحَتَهُ]، ومُعرفاً الإحسان؛ قال -عليه الصلاة والسلام-:[الإحْسَانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ]، يقول العلماء إن هذا الحديث يُبين أن مرتبة الإحسان ومنزلة المُحسن على درجتين؛ الأولى عبادة رجاء، وهي الأعلى والأفضل، والثانية عبادة خوف. كما أن في الحديث إشارةً إلى أن مَن شقَّ عليه أن يعبد الله كأنه يراه، فليعبد الله على أن الله يراه ويطلع عليه، فيستحي من نظره إليه.

ويقولون إن الإحسان أعلى مراتب الدين، وهو لغةً: ضد الإساءة؛ فهو إجادة العمل وإتقانه والإخلاص فيه. تقول أحسنتُ العمل إذا أتقنته، وأحسنتُ إلى فلانٍ إذا أوصلتَ إليه نفعاً، وهذا هو الإحسان إلى عباد الله؛ ويكون واجباً، مثل بر الوالدين، وصلة الأرحام. أو مستحباً، مثل الإحسان إلى الفقراء والمساكين والمحتاجين. وأهل الإحسان هم الصفوة الخُلَص من عباد الله المؤمنين، ولهذا ورد الثناء عليهم كثيراً في القرآن الكريم وفي السُنة النبوية الشريفة.

 

ومن أعظم أبواب (البراعة والإحسان) في عمل الخير وأكثرها ثواباً؛ الصدقات الجارية كبناء المساجد، ووقف الأموال لمساعدة طلبة العلم، وإنشاء مكتباتٍ إسلاميةٍ لخدمة العلم والعلماء، وبناء المستشفيات، وبناء دور إيواءٍ للعجزة والأرامل والمساكين، وبناء المدارس، وتشييد دورٍ لتحفيظ القرآن الكريم، وبناء عماراتٍ تُؤَجَّر ويخرج ريعها ‏للفقراء والمساكين، وغرس الأشجار المعمرة، وحفر آبار المياه، وغيرها، فهي صدقاتٌ جاريةٌ يعود ثوابها على كل مَن قام بها -منفرداً أو شارك وساهم فيها- في حياته، وتستمر فيما تجلبه لصاحبها من ثوابٍ بعد مماته، إلى أجلٍ لا يعلمه إلا الله.

 

يقول أهل العلم إن من أنبل المقاصد وأسمى الغايات التي يسعى الإنسان إليها هي فعل الخير، والمسارعة إليه، وبهذا تسمو إنسانيته ويتشبّه بالملائكة، ويتحلّى بأخلاق الأنبياء والصادقين، ولذلك فقد أوصى الإسلام المسلمين بأن يفعلوا الخير مع الآخرين بغض النظر عن معتقداتهم وأجناسهم، فقال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾. فما بالنا بمن يبرع في عمل الخير ويُحسنه ويتفنن في أدائه؟

 

ويقول الشاعر:

ﺍﻟﻨـﺎﺱُ ﻟﻠﻨـﺎﺱِ ﻣﺎ ﺩﺍﻡَ ﺍﻟﻓـﺎﺀُ ﺑـﻬ

ﻭﺍﻟﻌﺴرُ ﻭﺍﻟﻴﺴرُ ﺃﻭﻗــﺎﺕٌ ﻭﺳـﺎﻋـﺎﺕُ

ﻭﺃﻛﻡُ ﺍﻟﻨـﺎﺱِ ﻣـﺎ ﺑﻴ ﺍﻟﺭﻯ ﺭﺟـﻞٌ

ﺗُﻘﻀﻰٰ ﻋﻠﻰ ﻳـدهِ ﻟﻠﻨـﺎﺱِ ﺣﺎﺟـﺎﺕُ

ﻻ ﺗﻘﻌنَ ﻳـدَ ﺍﻟﻤﻌـﻭﻑِ ﻋ ﺃﺣـدٍ

ﻣـﺎ ﺩُﻣـتَ ﺗـﻘـﺭُ ﻭﺍﻷﻳـــﺎﻡُ ﺗــﺎﺭﺍﺕُ

ﻭﺍﺫﻛر ﻓﻀﻴﻠﺔَ ﺻـﻨﻊِ ﺍﻟﻠﻪِ ﺇﺫ ﺟﻌﻠ

ﺇﻟﻴـكَ ﻻ ﻟكَ ﻋﻨدَ ﺍﻟﻨـﺎﺱِ ﺣﺎﺟــﺎﺕُ

ﻣﺎﺕَ ﻗﻡٌ ﻭﻣﺎ ﻣﺎﺗ ﻓﻀـﺎﺋﻠُﻬ

ﻭﻋﺎﺵَ ﻗﻡٌ ﻭﻫُ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺎﺱِ ﺃﻣﺍﺕُ

 

أحبتي .. نرى مِن الناس مَن يبرع في مجالٍ ما من مجالات الدنيا؛ كالرياضة، أو الكتابة، أو الهندسة، أو التدريس، أو الطب، وفي غيرها من المجالات فنقول سبحان الله، هذه موهبةٌ ونعمةٌ اختص بها المولى عزَّ وجلَّ بعض عباده. أما (البراعة والإحسان) في أعمال الخير والبر فهي متاحةٌ -بفضل الله ونعمته- لجميع خلقه؛ يقول تعالى: ﴿وَفي ذلِكَ فَليَتَنافَسِ المُتَنافِسونَ﴾.

فلنكُن بارعين ومحسنين فيما يُرضي الله -سبحانه وتعالى- ليس فقط في أعمال الخير والبر، ولكن في ممارسة العبادات كذلك: لنكُن بارعين ومحسنين في صلاتنا؛ حضوراً واطمئناناً وخشوعاً والتزاماً بالجماعة ومحافظةً على السنن الرواتب وغير الرواتب وقيام الليل. ولنكُن بارعين ومحسنين في صومنا؛ إيماناً واحتساباً وحفظاً للجوارح من الحرام نُطقاً ومشاهدةً وسمعاً. ولنكُن بارعين ومحسنين في تعاملنا مع أقرب الناس إلينا؛ والدينا وأزواجنا وأبنائنا وإخواننا وأخواتنا وذوي أرحامنا وجيراننا، صلةً ورحمةً ومودةً ومحبةً واحتراماً. ولنكُن بارعين ومحسنين في معاملاتنا مع جميع الناس؛ إعانةً وإيثاراً وأمانةً ونُصحاً وصدقاً. وكلما برعنا وأحسنا في ذلك كله كلما زادنا الله من نعيمه، ورضيَ عنا.

وفقنا الله إلى (البراعة والإحسان) في كل عملٍ نقوم به قاصدين به وجهه الكريم سبحانه، راجين رضاه.

 

https://bit.ly/2StFaLE