الجمعة، 27 أغسطس 2021

يرزق من يشاء

 

خاطرة الجمعة /306


الجمعة 27 أغسطس 2021م

(يرزق من يشاء)

قضى أكثر من عشرين عاماً إماماً لمسجدٍ بإحدى دول الخليج، قرر بعدها العودة إلى قريته المصرية البسيطة، اشترى قطعة أرضٍ ليبني عليها مسجداً لأهل القرية بما أفاض الله عليه من مال. بدأ العمال في بناء المسجد، وبينما كان هو يشاركهم في الإشراف على البناء أحس بالتعب؛ فجلس على الرصيف المقابل للمسجد، بجلبابه الملطخ بالغبار والصبغ، واضعاً رأسه بين يديه ليستريح قليلاً. مرت به امرأةٌ عجوزٌ وضعت في يده جنيهاً معدنياً، رفع رأسه مذهولاً فرآها سيدةً سبعينيةً باليةَ الثوب، رسمت سنوات الفقر على ملامحها علاماتٍ واضحةً وعميقةً، ناداها بسرعةٍ: "ما هذا يا حاجة؟!"؛ أراد أن يخبرها إنه لا يتسول، وأنه .... لكن المرأة العجوز بادرته معتذرةً: "واللهِ يا ابني هذا الجنيه هو كل ما معي! كنتُ سأركب به للوصول إلى البيت، سامحني يا ابني!!"، يا الله؛ ظنتْ أنه يستقل الجنيه، وتعتذر له لأنها لم تُعطه أكثر! لم يستطع الكلام فنادى على سائقه وأمره أن يصطحب هذه السيدة العجوز إلى بيتها ويأتيه بتفاصيل حياتها كاملةً. رجع السائق إليه بما رآه؛ هي أرملةٌ لديها أربع بناتٍ، تزوجت إحداهن وماتت هي وزوجها في حادثٍ وتركت لها أربعة أطفالٍ فصارت الأسرة سبعة أفراد، تخرج هي للعمل من أجل النفقة عليهن!

وبينما كان الشيخ يفكر في كيفية مساعدة هذه المرأة مالياً إذا باتصالٍ هاتفيٍ من أحد الأمراء كان يصلي خلفه في الدولة الخليجية، قال الشيخ: "مرحباً سمو الأمير"، قال الأمير للشيخ: "حان وقت إخراجنا زكاة المال، أنا وإخوتي، فهل لديك في بلدك فقراء تعرفهم؟!"، دارت رأس الشيخ من هول المفاجأة، وعلى الفور قصَّ على الأمير قصة صاحبة الجنيه! قال له الأمير: "اشترِ قطعة أرضٍ كبيرةً، وابنِ لها ولبناتها وحفيداتها بيتاً كبيراً، وضع لها رصيداً في البنك تُنفق منه طول عمرها، وتُزوج أولادها وأحفادها!".

سبحان الله.... دفعتْ كل ما تملك لله؛ فأراد الله أن يجعل ثمرة نيتها الطيبة بيتاً كبيراً لها، وستراً منه سبحانه لها ولذريتها من بعدها، وصدق النبي عليه الصلاة والسلام إذ قال: [سَبَقَ دِرْهَمٌ مائةَ ألْفٍ]. هي صدقت وأخلصت في صدقتها، والله كريمٌ فأكرمها.

 

أحبتي في الله .. هذا رزق الله للمؤمنين المتوكلين عليه الذين يُحسنون الظن به سبحانه؛ فيوقنون أنه رازقهم لا رازق إلا هو، وأنه هو ﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾، وأنه ﴿هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾، وأنه هو وحده (يرزق من يشاء) ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

 

وكما يرزق الله سبحانه وتعالى المؤمنين يرزق الكفار والمشركين، والذين يفترون على الله الكذب، ويرزق المغضوب عليهم، ويرزق الضالين؛ فهذه واقعةٌ حدثت منذ عدة سنواتٍ في الفلبين، جميع أطرافها من غير المسلمين؛ إذ كان هناك سائقٌ يعمل لدى سيده الملياردير لأكثر من عشرين عاماً، يعيش السائق وحيداً في غرفةٍ صغيرةٍ مخصصةٍ له بجوار بوابة القصر العظيم الفخم الذي يملكه الملياردير ويعيش فيه هو وزوجته وسط أراضٍ شاسعةٍ ورثها عن أبيه. يموت الملياردير فجأةً، فتتزوج أرملته من السائق الذي يتحول بين ليلةٍ وضحاها من أجيرٍ إلى سيد! وصار السائق سيد القصر، يعيش فيه ويتنعم، كما آلت الثروة الضخمة إلى أرملة الملياردير، وأصبح السائق بعد زواجه منها هو المتصرف في جميع هذه الأموال!

سبحان الله (يرزق من يشاء) من حيث لم يكن يعلم أو يتوقع؛ يقول السائق: "عشتُ عمري كله أعمل في خدمة سيدي، ولم أكن أعلم أبداً أن سيدي هو الذي كان يعمل لأجلي!".

 

سبحانه (يرزق من يشاء)، يقول أهل العلم إن الله جعل في تقسيم الأرزاق على البشر حكمةً لا يعلمها إلا هو سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾، فهو سبحانه قدَّر الأرزاق كما قَدَّر الآجال، فلا تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقها كما تستوفي أجلها؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ]. وقد جعل الله تعالى للرزق أسباباً حسيةً ماديةً، وأسباباً شرعيةً. فالأسباب المادية كالعمل والتجارة والاجتهاد في ذلك وإتقان العمل، ونحو هذا. وهذه الأسباب يستوي فيها جميع الناس، المؤمن والكافر، فكل من عمل واجتهد رزقه الله، إلا أن يمنعه الله عقوبةً على معصيةٍ أو اختباراً، أو لسببٍ آخر تقتضيه حكمة أحكم الحاكمين. وأما الأسباب الشرعية، كالإيمان والتقوى وبر الوالدين وصلة الرحم والدعاء، فيدعو العبد ربه أن يرزقه، وأن يزيده في رزقه، ويبارك له فيه، فيستجيب الله له، فينمو رزقه، ويزداد، ويبارك الله له فيه. وقد يرزق الله بعض الناس، مؤمناً كان أو كافراً، بدون سببٍ فعله العبد، بل بمحض مشيئته سبحانه وتعالى؛ فكل مخلوقٍ لابد أن يصل إليه رزقه المقدَّر له، بسببٍ أو بغير سببٍ، يقول الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.

ولما دعا إبراهيم عليه السلام ربه أن يرزق المؤمنين من أهل مكة من الثمرات، أخبره الله تعالى أنه لن يجعل رزقه خاصاً بالمؤمنين، بل سيرزق المؤمنين والكافرين؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ قال المفسرون: دعا إبراهيم لهذا البيت، أن يجعله الله بلداً آمناً، ويرزق أهله من أنواع الثمرات، ثم قيد عليه السلام هذا الدعاء للمؤمنين، فلما دعا لهم بالرزق، وقيده بالمؤمن، وكان رزق الله شاملاً للمؤمن والكافر، والعاصي والطائع، قال تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ أي: أرزقهم كلهم، مسلمهم وكافرهم، أما المسلم فيستعين بالرزق على عبادة الله، ثم ينتقل منه إلى نعيم الجنة، وأما الكافر، فيتمتع فيها قليلاً ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ أي: ألجئه وأخرجه مُكرهاً ﴿إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾.

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ نِدًّا وَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَيُعْطِيهِمْ]. وقد يبذل العبد الأسباب، الحسية أو الشرعية، التي من شأنها أن توصل إلى المطلوب المعين؛ ثم لا يُقدِّر الله تعالى له مثل ذلك المطلوب؛ يقول تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا . وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا . كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا . انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾، أي كلاًّ نعطي من الدنيا: البرّ والفاجر؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللهَ تعالى قَسَم بينكم أخلاقَكم، كما قَسَم بينَكم أرزاقَكم، وإنَّ اللهَ يُعْطِي الدنيا مَن يُحِبُّ ومَن لا يُحِبُّ، ولا يُعْطِي الدِّينَ إلا مَن أَحَبَّ، ...] فيحصل الكافر على رزقه في الدنيا كما يحصل المؤمن على رزقه، ولكن المؤمن يطلب رزقه من الحلال الطيب، ويؤدي شكره، ويستعين به على طاعة الله. وأما الكافر فيطلب رزقه من أي وجهٍ كان، ولا يؤدي شكره، ولا يستعين به على طاعة الله، بل قد يستعين به على معصية الله. والأمر كله بيد الله (يرزق من يشاء).

 

قد يتساءل المسلم: "لماذا يرزق الله الكفار بسخاءٍ، ويحرم المؤمن في الدنيا؟ ولماذا يُعطي العاصي وهو مقيمٌ على معصيته، ويحرم الطائع وهو مقيمٌ على طاعته؟"، للإجابة عن هذين السؤالين كتب أحد العلماء يقول إنّ في ذلك دلالةً على هوان الدنيا على الله؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ]. والحق سبحانه وتعالى بيّن في العديد من الآيات أنه (يرزق من يشاء)، يرزق المؤمن والكافر، والصالح والطالح؛ لأن متاع الدنيا قليل، فليس معنى العطاء الرضا، وليس معنى الحرمان السخط؛ يقول جلَّ شأنه: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ . مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾، ويقول تبارك وتعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ﴾، ويقول الحق سبحانه: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾.

 

أحبتي .. ما لنا نرى تكالب الناس على الدنيا، ﴿وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾؟ أيخافون ألا يدركوا أرزاقهم؟ ألم يعلموا أنها مقدرةٌ لهم وستدركهم أينما كانوا؟ وأن ليس عليهم إلا التوكل على الله ثم السعي؟ ما لهم يقدمون أوامر رؤسائهم في العمل على أوامر الله عزَّ وجلَّ، كما لو كان رؤساؤهم هم الذين يرزقونهم؟ ألا يستحيون من أنفسهم وهم لا يُقيمون وزناً لأوامره سبحانه وهو القائل: ﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾؟ أي خُسرانٍ هم فيه ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾؟

أما آن الأوان لنا جميعاً أن نضع الأمور في نصابها الصحيح، ونُعيد النظر في أولوياتنا؟ ففي قضية الرزق؛ علينا أن نوقن بأنه لا رازق إلا الله؛ يقول تعالى: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ﴾ نعبده بصدقٍ وإخلاصٍ كما أمرنا، فيُدهشنا بعطاءٍ كريمٍ متجددٍ، وبرزقٍ مباركٍ كافٍ ووافٍ غير منقوص. إن اتقينا الله حق تُقاته حقق لنا وعده؛ فهو القائل: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾؛ فليحافظ كلٌ منا على الصلاة -وخاصةً صلاة الفجر- على وقتها وفي مكانها، كما يُحافظ على الحضور في الوقت المحدد إلى مقر العمل، فالله الذي تُصلي من أجله هو الكافل والضامن لك، يُثيبك على التزامك ووفائك بعهده في الدنيا والآخرة، وتأكد أن الله الذي (يرزق من يشاء) والذي ضمن للكافر رزقه، هو الضامن لرزقك، ولن يُعجزه أن يزيده ويُبارك لك فيه كلما زدت اقتراباً منه، ولا يعني ذلك أبداً إهمال العمل والتفرغ للعبادة، إنما علينا الوفاء بعباداتنا التي أمرنا الله بها، في أوقاتها وبشروطها، مع إجادة العمل والارتقاء بمستوى أدائه والتميز والإبداع فيه. أقولها صراحةً بقلب المحب لمن يُقدم عمله على صلاته: "أنت في خطرٍ عظيم، راجع نفسك، أعد ترتيب أولوياتك، هدانا وهداك الله".

اللهم حَبِّب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا اللهم من الراشدين.

https://bit.ly/3DqSlm6