خاطرة الجمعة /455
الجمعة 12 يوليو 2024م
(فقد النِعمة)
أعلنت إحدى دُور السينما أن فيلماً مُدته ثماني دقائق فاز بلقب أحسن فيلمٍ
قصيرٍ في العالم، وأنها سوف تقوم بعرض هذا الفيلم؛ فاحتشد جمعٌ كبيرٌ من الناس
لمشاهدته؛ فالدعاية كانت له جاذبة! بدأ الفيلم بلقطةٍ لسقف غرفةٍ خاليةٍ من أي
ديكور، وخاليةٍ من أية تفاصيل؛ مجرد سقفٍ أبيض! مضت ثلاث دقائق دون أن تتحرك الكاميرا!
ولم تنتقل إلى أي مشهدٍ آخر، أو أي جزءٍ آخر من السقف بالغرفة نفسها! مرت ثلاث
دقائق أخرى دون أن تتحرك الكاميرا، ودون أن يتغير المشهد! بعد ست دقائق مُملةٍ بدأ
المشاهدون بالتذمر؛ منهم من كان على وشك مُغادرة قاعة العرض، ومنهم من اعترض على
مسؤولي السينما؛ لأنه ضيَّع وقته في مشاهدة سقف!
وفجأةً -وقبل أن يهم أغلب المشاهدين بالانصراف- تحركت عدسة الكاميرا رويداً
رويداً على حائطٍ خالٍ من أية تفاصيل أيضاً حتى وصلت للأسفل، نحو الأرض، هناك ظهر
طفلٌ مُلقىً على سرير، يبدو أن الطفل مُعاقٌ كُلياً بسبب انقطاع الحبل الشوكي في
جسده الصغير. انتقلت الكاميرا شيئاً فشيئاً إلى جانب سرير المُعاق، ليظهر مقعدٌ
متحركٌ بدون ظهر، ثم انتقلت الكاميرا إلى موقع الملل والضجر؛ إلى السقف، مرةً
أخرى، لتظهر جُملةٌ: «لقد عرضنا عليكم ثماني دقائق فقط من النشاط اليومي لهذا
الطفل.. فقط ثماني دقائق من المنظر الذي يُشاهده هذا الطفل المُعاق في جميع ساعات
حياته، وأنتم تذمرتم ولم تصبروا لست دقائق! ولم تتحملوا مشاهدته!!».
أحبتي في الله.. أحس المُشاهدون جميعهم وقتئذٍ -بلا شك- بنعمة الصحة، وهي
واحدةٌ من نِعم الله عزَّ وجلَّ الكثيرة التي لا تُعد ولا تُحصى، وهي -مثلها مثل
جميع النِعم- لا نُحس بها إلا إذا فقدناها.
ذكرتني قصة هذا الفيلم القصير عن (فقد النِعمة) بما كتبه أحدهم؛ يقول
الكاتب:
أذكر أنني زرتُ إحدى المستشفيات في «جدة» وكان معي أحد الأصدقاء وكان هذا
المستشفى أغلبه للعناية بالمُعاقين وأصحاب الحوادث -نسأل الله أن يُشفي مرضانا
وجميع مرضى المسلمين- فمررنا بغرفةٍ كان فيها أحد الشباب المُعاقين من أثر حادث
سيارة، قلتُ له بعد السلام عليه والتعرف به والاطمئنان عن صحته: "كم صار لك
في المستشفى؟"، نظر إليّ وقال: "تريدها بالأيام أم بالسنين؟"
تعجبتُ مما سمعتُ منه، وقلتُ له: "إن كانت قليلةً قُلها بالأيام، وإن كانت
كثيرةً فقلها بالسنين"، سألني: "كم تاريخ اليوم؟"، قلتُ له:
"1430.10.15هـ"، قال: "إن كنتَ تريدها بالأيام صار لي 2310 يوماً،
وإن كنتَ تريدها بالسنين صار لي سبع سنواتٍ وخمسة شهورٍ تقريباً"، ثم قال:
"وقت أن كنتُ صحيحاً وأمشي كنتُ لا أهتم بالأيام والسنين، أما الآن والله أني
أعدها وأتمنى الخروج من المستشفى اليوم قبل غداً؛ لكي أذهب للمسجد وأواظب على
الصلاة، وأُكثر من أعمال الخير التي كنتُ مُقصراً فيها".
يقول أهل العلم إنّ الله سبحانه وتعالى أنعم على الإنسان بنِعمه ظاهرةً
وباطنةً، وهي نِعمٌ كثيرةٌ لا تُعدّ ولا تُحصى، وإنَّ أكبر نِعمةٍ أنعمها الله
عليه هي خَلْقُه في أحسن تقويمٍ وأجمل صورةٍ، وميّزه عن جميع المخلوقات بالعقل،
وسخّر له جميع مخلوقاته من حيواناتٍ ونباتاتٍ وجماداتٍ ليستفيد منها ويستخدمها
لمصلحته، ووفّر له جميع سُبل الحياة الكريمة، كما أرسل إليه الأنبياء والرسل
ليدلّوه على عبادة الله تعالى والتخلص من ظُلمة الكُفر والعُبودية لغيره سبحانه،
ويُرشدوه إلى الخير وطريقة استغلال النِعم بالشكل الأمثل. ومن نِعم الله على
الإنسان أيضاً أنّه هيَّأ له جميع ظروف الحياة، وجعله حُراً في تصرفه، بشرط أن
يكون تصرفه ضمن ضوابط الشريعة. ومن واجب الإنسان أن يشكر الله على النِعم التي
أنعمها عليه، وكلما كان تقدير الإنسان لهذه النِعم أكبر، كلما غمرت السعادة قلبه
بشكلٍ أكبر، وكلّما كان شعوره بالرضى أكبر، خصوصاً أنَّ النِعم التي يراها الإنسان
في الدنيا ما هي إلا جزءٌ بسيطٌ جداً من النِعم الكثيرة التي سيراها المؤمنون في
الآخرة. وكلما زاد الشكر زادت هذه النِعم؛ فالله تعالى يقول في مُحكم التنزيل:
﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾. يجهل بعض الناس أهمية النِعم التي لديهم،
ولا يُحسنون استغلالها، ولا يشكرون الله عليها، كما أنهم لا يعرفون قيمتها إلا إذا
فقدوها. ومن بين هذه النِعم: البصر والسمع والصحة التامة والجسد القوي، ولو أصاب
الإنسان مرضٌ يكون سبباً في (فقد النِعمة) يعرف وقتها أهمية تلك النِعمة التي
فقدها. إنّ توفر النِعم يجعل البعض يرى أنّ وجودها أمرٌ مسلّمٌ به فيغفل عن شكر
المُنعم سُبحانه وتعالى عليها. وعند (فقد النِعمة) يتذكر مَن فقدها بأن هناك
نِعماً يجب أن يشكر المُنعم عليها، وأن يُحافظ عليها، ويُرشّد استخدامها؛ فلا يعلم
قدر الصحة مثل المريض، ولا يعرف قيمة المال مثل الفقير، ولا يُقدّر نِعمة الطعام
مثل الجائع، ولا يتمنى نِعمة الولد مثل العقيم، ولا يشعر بقيمة الأمن مثل الذي
يعيش في خوفٍ ورُعب.
يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا
مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾ فما نزل بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولا
رُفع إلا بتوبةٍ؛ ففقد نِعمة الأمن سببه انتشار المعاصي والذنوب بين الناس، ولم
تجد مَن يُنكرها ويمنعها فعمَّهم الله عزَّ وجلَّ بعذابٍ، وكلما كانت المُنكرات
أكبر والسكوت عنها أكبر كان العذاب أكبر وأشد وأعظم وأشمل.
والله من تمام عدله لا يُغيِّر نِعمةً أنعمها على أحدٍ إلاَّ بسبب ذنبٍ
ارتكبه؛ يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً
أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾، ويقول سُبحانه:
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ
لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، أي أن النقص في
الأموال والأنفس والزروع والثمرات بسبب المعاصي ابتلاءٌ من الله واختبارٌ ومجازاةٌ
على ما أحدث الناس من المُنكرات لعلهم يتعظون؛ فمن أعرض عن ذِكر الله وعصاه وخالف
أوامره وشرعه سلَّط الله عليه من مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها وشدتها جزاءً
وِفاقاً بما كسبت يداه، ولا يظلم ربك أحداً.
وللوقاية من (فقد النِعمة) كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:
[اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ
عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ].
ولأنّ للمؤمن عند الله مكانةً فأمْرُهُ كله خير؛ يقول المُصطفى صلى الله
عليه وسلم: [عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ،
وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ
فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ].
إنّ النِعم تُقيّد بالشكر، وتزول بالكُفر، والله عزّ وجلَّ غنيٌ عن عباده،
غير أنّ الإنسان في حاجةٍ دائمةٍ للتقرّب إلى الله حتى ينال سعادة الدنيا والآخرة.
أحبتي.. يتوجب على كلٍ منا أن يشكر المُنعم في كل الأحوال وفي جميع الظروف،
ولا نكون مثل مَن لا يشعرون بالنِعمة إلا حين يفقدونها. إنَّ الشكر على النِعم
سببٌ لدوامها؛ فلا نغفل عن شكر الله تعالى والثناء عليه في كل وقتٍ، ونستغل
أوقاتنا بكثرة الأعمال الصالحة. علينا مراجعة أنفسنا، فيبادر كل مُقصرٍ بالتوبة
والرجوع إلى الله. وعلينا جميعاً أنْ نُقدِّر قيمة كل ثانيةٍ من حياتنا -نقضيها
ونحن في صحةٍ وعافية- لنحمد الله سُبحانه وتعالى ونشكره على كل نِعمةٍ أنعم بها
علينا؛ فلا ننتظر (فقد النِعمة) حتى نشعر بوجودها ونقدِّر قيمتها؛ فالنِعم إذا
ذهبت قد لا تعود.
اللهم لا تجعلنا من الغافلين عن شكرك على نِعمك الكثيرة التي لا تُحصى،
واحفظها علينا، وبارك لنا فيها.