الجمعة، 2 سبتمبر 2016

البغض في الله

الجمعة 2 سبتمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٤٧
(البغض في الله)

صديقان رغم ما بينهما من خلاف فكري إلا أنهما يحرصان على ألا تنقطع شعرة الصداقة التي لا تزال تربطهما. في جولة من جولات حوارهما الساخن دائماً، قال أحدهما: "أنا أحب فلاناً" وسَمَّى شخصاً يعرفه كلٌ منهما، فاجأه صديقه بقوله: "أما أنا فلا أحبه أبداً، أنا أبغضه في الله!"، اندهش الأول لما سمع التعبير الأخير وبدت علامات التعجب ظاهرةً على وجهه، فانتهز الثاني هذه الفرصة وأكمل حديثه: "لا تتعجب، فكما تقول لشخصٍ ما إني أحبك في الله، يجوز أن تقول لآخر إني أبغضك في الله، على أن يكون معيار المحبة في الله أو (البغض في الله) هو مدى اقتراب أو ابتعاد ذلك الشخص من منهج الله، بعيداً عن أية أهواء شخصية أو حسابات دنيوية"، سأله صديقه: "سمعت كثيراً عن الحب في الله، أما تعبير (البغض في الله) فلم أسمعه من قبل، هل لديك دليل شرعي عليه؟"، أخرج هاتفه الشخصي، دخل على شبكة الإنترنت، كتب في موقع البحث عدة كلمات، وقال له: "استمع عزيزي إلى هذه الأدلة: قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: [أوثق عُرَىَ الإيمان: الحب في الله والبغض في الله]، وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: [من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان].  وجاء عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً جاء إليه فقال: {يا عبد الله إني أحبك في الله}، قال: {أما أنا فأكرهك في الله، أو أبغضك في الله}، قال: {لِمَ؟}، قال: {لأنك تَلْحَن في أذانك وتأخذ عليه أجراً}".
بدأت علامات التعجب التي ظهرت على وجه الصديق تتلاشى مع كل دليل يستمع إليه، وعاد إلى الموضوع الأصلي فسأل: "ولِمَ تبغضه في الله؟ ألم تسمعه يقول في كل مناسبة أنه يريد الخير، ولا يريد غير الخير؟"، قال: "بلى سمعت ما قال، لكن أفعاله تخالف أقواله، فهل نصدق ما نسمع أم نصدق ما نرى؟ لقد ابتُلينا بكثيرٍ ممن يقولون ما لا يفعلون، كأني بهم لم يستمعوا لقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، أو كأنهم استمعوا ولم يعوا، أو أنهم استمعوا ووعوا ولم يعملوا بما سمعوا؛ فيكونون ممن يتعمدون أن يفعلوا ما هو ممقوت عند الله أشد المقت!"، ثم أخرج هاتفه المحمول وبحث في شبكة الإنترنت عن معنى هاتين الآيتين؛ فقرأ على صديقه ما يلي: {قال الإمام الطبري شيخ المفسرين: لم تقولون القول الذي لا تصدقونه بالعمل، فأعمالكم مخالفة لأقوالكم، "كبر مقتاً.." عَظُم مقتاً وكرهاً عند ربكم قولكم ما لا تفعلون. والمقت شدة الكراهة}. وقرأ أيضاً: {الآية وإن كانت نزلت في قوم قالوا إنهم لو علموا أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملوا بها، فلما علموا ذلك لم يعملوا فوبخهم الله تعالى بهذه الآية، فهي كذلك بعمومها تدل على كل من يَعِد ولم يفِ بوعده، أو يأمر بالمعروف ولا يأتيه، أو ينهى عن المنكر ويأتيه}. قال معلقاً على ما قرأ: "وهذا بالضبط ما أراه من ذلك الشخص موضوع حديثنا، يقول ما لا يفعل، أقسم على أيمانٍ وحنث بها، خان الأمانة، ظَلم، كذب وافترى، وفعل ما هو أسوأ من ذلك، أفتتعجب بعد كل ذلك أن أقول عنه أنني أبغضه في الله؟!". قال صديقه: "ولماذا تنظر إلى الجانب السلبي فقط؟ لماذا لا تنظر إلى الجانب الإيجابي؟ أليس لكلٍ منا سلبياته وإيجابياته؟ قد يكون حَسِن النية، نحن بشر يا صديقي ولسنا ملائكة"، قاطعه قائلاً: "معك حق، نحن بشر قد نخطئ بحسن نية، لكنك حين ترى هذا الشخص يفعل ما يفعل عامداً متعمداً قاصداً مبيتاً النية مكرراً ما يفعل مُصراً عليه لا يتراجع عنه ولا يعتذر ولا يعيد الحقوق لأصحابها فهو لا يعترف في الأساس بأن لهم حقوقاً، فإن نيته هنا تكون ظاهرة جلية لكل من له عقل؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾، أما من اختار لنفسه أن يرى ما يرى ويسمع ما يسمع ثم يُعطل عقله ويُغَلِّب هواه فكأنما ينطبق عليه قول الحق عز وجل: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وحاشى لله أن يكون من بيننا من يرضون لأنفسهم أن يكونوا كالأنعام بل أضل!، وتأمل يا صديقي قوله سبحانه: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾، اللهم لا تجعلنا ممن عميت قلوبهم". قال: "يبدو لي أنك تشددت وأعطيت الأمر أكثر مما يستحق!"، رد صديقه: "وهل نجامل في دين الله وشرعه الذي ارتضاه لنا؟"، رد بسرعة: "حاشانا"، عاد صديقه لإنهاء حديثه قائلاً: "عزيزي .. قال الرسول عليه الصلاة والسلام:[مَن رَأى مِنكُم مُنكَرَاً فَليُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَستَطعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَستَطعْ فَبِقَلبِه وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمَانِ]. و(البغض في الله) والتصريح بذلك فيه خير لمن ما تزال في قلبه حبة خردل من إيمان؛ فلعله عندما يحس بهذا البغض يفوق من غفلته ويتقي الله"، قال له صاحبه وهو يحاوره: "وهل تعتقد أنه يستمع لنصيحة أو رأي؟"، رد: "إنما أنا ناصح أمين، لسان حالي يقول ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾".

أحبتي في الله .. كثيرون هم البعيدون عن منهج الله، علينا أن ننصحهم بالحسنى ونحبب إليهم سبيل الحق ونأخذ بأيديهم ونشجعهم، علينا أن نصبر عليهم .. لكن فئةً منهم لا يقبلون النصيحة، ولا يتقبلون كلمة حقٍ تُقال لهم، مستكبرين، أخذتهم العزة بالإثم، أفعالهم واضحة الهدف، إنهم يحاربون الدين .. فكيف نتعامل مع هؤلاء؟ أمامنا خياران لا ثالث لهما: إما أن نؤيدهم وندافع عن خطاياهم ونزين لهم ما يفعلون، وإما أن نستنكر عليهم أفعالهم ونصارحهم وننصحهم دون مجاملة في دين الله أو محاباة. الخيار الأول نتيجته معلومة .. فراعين جدد ممن يقولون: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾، هؤلاء وأتباعهم تُبين لنا الآية الكريمة أن أعمالهم خاسرة حتى لو كانوا يظنون أنهم يفعلون الصواب: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾. وأما الخيار الثاني فينبت لنا الصالحين من أمثال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين كان بينه وبين رجل كلامٌ في شيء، فقال له الرجل: اتق الله يا أمير المؤمنين، فقال له رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله، فقال له عمر: {دعه فليقلها لي نِعْمَ ما قال}. ثم قال قولته الخالدة: {لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم}.

أحبتي .. لا أتحدث عن المقصرين؛ فكلنا مقصرون .. ولا أعني ذوي النوايا الطيبة الغافلين؛ فكم غفلنا ثم انتبهنا من غفوتنا برحمة الله .. وإنما أقصد كل من يتعمد البعد عن منهج الله، سادراً في غيه، لا يقبل نصيحة ولا يأبه لتوجيه ﴿إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ .. هؤلاء يكون إبداء (البغض في الله) لهم واجباً على كل مسلم يبرأ لدينه؛ يقول الإمام أحمد بن حنبل: {من أفضل خصال الإيمان الحب في الله والبغض في الله}. إنها قضية الولاء والبراء، الولاء لكل من اتبع منهج الله سبحانه وتعالى، والبراء من كل من خالف هذا المنهج عامداً متعمداً. ولنا، كما يقول المولى عز وجل، في سيدنا إبراهيم ومن آمنوا معه القدوة والأسوة الحسنة؛ قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾.
‏اللهم أنر بصائرنا .. واهدنا أجمعين .. واجعلنا من القوم الذين قلت فيهم سبحانك أنك تحبهم وأنهم يحبونك: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ فذلك فضلك تؤتيه من تشاء، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.


تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/Kmyuvh