الجمعة، 17 يونيو 2016

الوزر الجاري!


17 يونيو‏، 2016م
خاطرة الجمعة/ ٣٦

(الوزر الجاري!)

كلنا يعرف معنى الصدقة الجارية، وهي الصدقة التي يستمر ثوابها طوال حياة الإنسان وبعد موته. ولا أظن أن أحداً منا لا يعرف أهميتها ويحرص عليها ويجتهد في زيادتها، فهي رصيده المتجدد في الحياة الحقيقية التي إليها معادنا، حياة الخلود؛ قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾، وَعَنْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: [إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ]، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ]. ومن أنواع الصدقات الجارية: بناء المساجد، وغرس الأشجار، وحفر آبار المياه، وطباعة المصحف وتوزيعه، ونشر العلم النافع بطباعة الكتب والأشرطة وتوزيعها، والوقف الخيري، وغير ذلك. كل هذا معلوم ومفهوم وواضح.
تعالوا نفكر معاً في الحالة العكسية؛ هل هناك يا ترى ما يُسمى (الوزر الجاري)؟
نعم! إنه الوزر الذي يستمر إثمه وجزاؤه طوال حياة الإنسان وبعد موته. ولما كان الإنسان يستفيد من ثواب الصدقة الجارية، فإنه يتضرر من آثام (الوزر الجاري). إنه العدل بعينه. والجزاء من جنس العمل. في حالة الصدقة الجارية أنت تستفيد منها في حياتك، وبعد وفاتك إلى يوم الدين كلما استفاد منها غيرك، تتسع الدائرة، وتتزايد، وتكبر؛ فيثقل ميزان حسناتك، ويستمر هذا الأمر إلى ما شاء الله، ويصل ثواب ذلك لك حتى بعد وفاتك. أما في حالة (الوزر الجاري) فيتحمل صاحب الوزر إثم وذنب كل من يأتي من بعده ويسير على دربه، عرفه أو لم يعرفه، وكلما قلده أحدهم، يستمر عداد الذنوب في العمل؛ فصاحب الوزر يتحمل إلى جانب وزره أوزار كل من قلدوه كاملة حتى بعد موته، إذا مات على هذا الوزر ولم يتب عنه.
أحبتي في الله .. نعلم جميعاً تأثير الشخص القدوة على سلوك الآخرين ممن يقتدون به، من هنا كان من أخطر الأمور أن يكون الآباء قدوةً سيِّئة لأولادهم، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾؛ فإذا كان الأب يدخن، أو يتعاطى المسكرات، أو يرتكب الفواحش، أو لا يتورَّع عن كسْب المال الحرام، أو يكذب، أو يغش، أو يغتاب، فكيف يكون حال أولاده الذين يقتدون به ويتربون على ذلك ويألفون تلك الأوزار والمفاسد؟، سيكونون في الغالب كما قال الشاعر:
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الفِتْيَانِ مِنَّا            عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ
كيف نتصور حال أبناء ألِفُوا من آبائهم ترك الصلاة، وعدم ارتياد المساجد، وهجر القرآن؟ وبنات عشن مع أمهات لا تصلين، متبرجات بزينة أمام الأغراب، كاسيات عاريات؟ لا نتصور حالهم إلا كما تصفه الآية الكريمة: ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ﴾.
والأمر ليس قاصراً على الآباء والأمهات فحسب، بل يمتد ليشمل كل من هو قدوة لغيره كالمعلم والصديق. ويزداد تأثير الشخص القدوة بارتفاع مكانته (رجل دين، أستاذ جامعة، إعلامي مشهور، كاتب معروف، رياضي محبوب، ...). الأمر جد خطير فهو يشملنا جميعاً دون استثناء؛ فكلٌ منا في الواقع هو قدوة لغيره دون أن يدري، فعلينا جميعاً أن نضبط سلوكنا وتعاملاتنا وأقوالنا وأفعالنا ولبسنا ومظهرنا وأكلنا وشربنا واغتسالنا وكل أمور حياتنا بما يتمشى مع شرع الله، وعلينا جميعاً أن نحذر من (الوزر الجاري).
أحبتي .. يقول المولى عز وجل: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ  وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ  أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ  وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾. ويقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: [مَنْ سَنَّ سُنَّةَ ضَلَالٍ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا، كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ ...]، كما قال: [ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً]؛ فلنبتعد عن (الوزر الجاري) ونفر منه فرارنا من قَسْوَرة، ولنشرع فوراً في توبة صادقة من كل وزر، لننال المغفرة؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾.
اعلم أخي العزيز أنك مسئول ومحاسب عن أفعالك وأقوالك، كما أنك مسئول ومحاسب عن كل من انتهج نهجك وتأسى بعملك وسار على خطاك، خيراً كان أو شراً. راجع نفسك، اعرض أفعالك وأقوالك على ميزان الشرع، استمر فيما تجده صحيحاً، أما ما تجده لا يتوافق وأحكام الإسلام فامتنع عنه فوراً وبادر بالاتصال بكل من تستطيع أن تبين له الصواب وتدله على طريق الرشد وتبعده عن طريق الغي الذي كنت تسلكه، ابذل ما في وسعك لإزالة كل أثر لوزرك حتى لا يستمر جارياً، وجهدك في هذا المجال مقيد بالممكن. واعلم أن التوبة تجُّب ما قبلها، فإن التائب من الذنب، كمن لا ذنب له.
تقبل الله توبتنا وتوبتكم من كل وزر، ونفعنا من كل عمل خير نقوم به أو يقوم به آخرون تأسياً بنا.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/MBZMIU