الجمعة، 15 يوليو 2022

حُسن التصرف

 

خاطرة الجمعة /352


الجمعة 15 يوليو 2022م

(حُسن التصرف)

 

كتب مُحمدٌ عن بعض ذكرياته في «الولايات المتحدة الأمريكية» يقول:

حدث هذا الموقف في صلاة عيد الأضحى قبل حوالي خمسةٍ وثلاثين عاماً، في شهر أغسطس عام 1986م، بالمسجد الكبير بمدينة «نيو چرسي»، مساحة المسجد محدودةٌ، إلا أنه يتوسط حديقةً كبيرةً تستوعب عادةً جميع المصلين، وفي صباح يوم العيد فوجئ إمام المسجد بأنه قد تم ليلة العيد إغراق الحديقة المُحيطة بالمسجد بالمياه بحُجة ريها! فأصبح من المُستحيل أن يُصلي المُسلمون صلاة العيد في الحديقة كما تعودوا، ولم يكن من مكانٍ للصلاة إلا داخل المسجد، وهو صغير المساحة قليل الاستيعاب، فكان من (حُسن التصرف) أن صلى الإمام -وهو لبناني الأصل اسمه الشيخ/ حمد شبلي- صلاة العيد عدة مراتٍ مُتتابعة، ولاحظتُ أنه اختصر خطبته وجعلها قصيرةً، وكان يطلب في نهاية كل صلاةٍ من المصلين سرعة مُغادرة المسجد ليُفسحوا المكان لغيرهم للصلاة.

بعد عدة سنواتٍ من هذا الموقف، وفي مدينة «نيو أورلينز» بولاية «لويزيانا»، مررتُ بتجربةٍ أُخرى، إذ وصلنا إلى هذه المدينة الجميلة، أنا وزميلٌ لي اسمه چورچ، يدرس معي في نفس الجامعة، بعد قيادة السيارة لمدة ثلاث عشرة ساعةً قادمين من مدينة «ساراسوتا» بولاية «فلوريدا» لزيارة والدته وقضاء أربعة أيام معها -كانت أيام عطلةٍ قوميةٍ بمناسبة ذكرى الرابع من يوليو- قبل العودة للجامعة مرةً أخرى لاستكمال ما تبقى من مُقرر الدراسة الصيفية المُكثف. وصلنا قُبيل فجر يوم جُمعةٍ مُجهدين؛ فنمتُ فوراً في غرفةٍ كانت قد أعدتها والدته لي. أيقظني چورچ بعد عدة ساعاتٍ لتناول طعام الإفطار مع والدته، وكانت امرأةً بدينةً، كبيرةً في السن تجاوز عُمرها الثمانين عاماً، لكن تبدو بصحةٍ جيدةٍ، ودودةٌ بشوشةٌ، كانت تعمل مديرةً لإحدى المدارس. بعد حوارٍ قصيرٍ بيننا أبدت فيه ترحيبها بي، سألتُها عن أقرب مسجدٍ لأداء صلاة الجُمعة، فلم تعرف لا هي ولا چورچ مكان المسجد، فألهمني ربي (حُسن التصرف) فطلبتُ منه أن يأتيني بدليل الهاتف، بحثتُ في الدليل عن أي شخصٍ يحمل اسماً إسلامياً مثل مُحمد أو محمود أو عُمر، وجدتُ كثيرين؛ فاخترتُ واحداً منهم بشكلٍ عشوائيٍ واتصلتُ به، وعرفته بنفسي وبأني مُسلمٌ أزور هذه المدينة لأول مرةٍ وأريد أن أعرف مكان المسجد لأُصلي الجُمعة، فاجأني بسؤالٍ عما إذا كنتُ أريد مسجداً للسُنة أم للشيعة، فأجبته بأني أريد مسجداً للسُنة، فسألني عن موقعي الحالي بالمدينة، فأعطيتُ سماعة الهاتف لچورچ كي يُخبره بذلك، وواضحٌ مما سمعتُ أنه عرف منه مكان المسجد، ورأيته يُدوّن على قصاصة ورقٍ رقم هاتفٍ، ثم شكره وأنهى المكالمة، وقال لي إنه حصل على رقم هاتف المسجد! تعجبتُ لذلك، لكن زال تعجبي عندما اتصل چورچ بالمسجد ليسأل عن موعد بدء الصلاة وموعد انتهائها، أدركتُ وقتها أن هذا الأمر من المُهم أن يعرفه كل مُصلٍ؛ إذ أن يوم الجُمعة ليس يوم إجازةٍ أسبوعيةٍ -كما في بلادنا- بل هو يوم عملٍ يحتاج المُسلم فيه للاستئذان من عمله لمدةٍ مُحددةٍ تكفي لذهابه للمسجد وأداء صلاة الجُمعة ثم العودة إلى مقر العمل. اغتسلتُ وتوضأتُ وأوصلني چورچ إلى المسجد على أن يعود لي في الوقت المُحدد لانتهاء الصلاة. افتتح الإمام -وهو أمريكيٌ من ذوي البشرة السوداء- خطبة الجُمعة بكلماتٍ يحفظها بلغةٍ عربيةٍ ركيكةٍ، انطلق بعدها يتحدث بلغةٍ إنجليزيةٍ بليغةٍ، ثم مد يده إلى عدة كُتيبات كان يضعها على يمينه؛ فتناول واحداً منها فتحه على صفحةٍ يضع فيها ورقةً كعلامةٍ للمكان الذي سيبدأ منه القراءة، وقرأ صفحةً من الكُتيب، ثم وضعه جانباً على يساره، وتناول كُتيباً آخر، وفعل نفس الشيء معه، وكرر ذلك مرتين أُخريين، واتضح لي مما قرأ من نصوصٍ أنّ أحد تلك الكُتيبات هو للعقيدة، والآخر للعبادات، والثالث للتفسير، أما الرابع فهو للسيرة، وبدا لي ذلك أنه نوعٌ من (حُسن التصرف) من الإمام الذي ختم بعد ذلك بدعاءٍ يحفظه بلغةٍ عربيةٍ ممزوجةٍ بلكنةٍ أجنبية، ثم أقام أحد الحاضرين الصلاة؛ فصلى بنا الإمام بقصار السور، وانتهت الصلاة في الوقت المحدد تماماً! سارع المصلون للخروج من المسجد للحاق بجهات عملهم، في الوقت الذي عاد فيه چورچ فأقلني بسيارته، وعُدنا إلى البيت. وجدنا والدته تستقبلنا بترحابٍ، وجلسنا نتبادل أطراف الحديث؛ عبّرت عن سعادتها لحرصي على الصلاة، وطلبت مني أن أحث ابنها على الصلاة في الكنيسة، فقلتُ لها: "اعذريني سيدتي، لا أستطيع، لو طلبتِ مني أن أحثه على الصلاة في المسجد لفعلت"، فقالت: "المهم أن يُصلي؛ فنحن نعبد رباً واحداً"، وجدتُ نفسي وقد أُلهمتُ بأنه من (حُسن التصرف) ألا أستمر في هذا الحوار الشائك فأنهيتُ الحديث بقولي: "هدانا الله جميعاً"، فردت -وهي تبتسم- بكلمةٍ واحدةٍ؛ قالت: "آمين".

 

أحبتي في الله.. تشتد الحاجة إلى (حُسن التصرف) في المواقف الطارئة، والمواقف المُحرجة، وبعض المواقف الاستثنائية والخاصة التي تحتاج إلى التفكير خارج الصندوق كما يُقال، وهي مواقف يمر بها الجميع، وسعيد الحظ الذي يمر منها بنوعٍ من الذكاء والفِطنة وسُرعة البديهة.

ويقول العلماء إنّ من المبادئ المُفيدة في ذلك: التنبؤ بالمواقف المُحرجة والاستعداد لها مُسبقاً قدر الإمكان، هدوء الأعصاب وعدم الانفعال وتجنب الغضب، اللباقة وضبط النفس، سُرعة التصرف، حزم الأمر وعدم التردد.

وللمواقف المُحرجة فوائد جمّةٌ من أهمّها: تنمية الفِطنة والذكاء وسُرعة البديهة، بالإضافة إلى توسيع المدارك وزيادة الخبرات والتجارب.

 

ذكّرني الموقفان اللذان مرّ بهما مُحمد بقصةٍ حدثت قديماً في إحدى قُرى «الهند»، حيث اقترض مُزارعٌ مبلغاً كبيراً من المال من أحد المُرابين بالقرية ولم يستطع سداد القرض في الموعد المُحدد. أُعجب المُرابي العجوز القبيح ببنت المُزارع الفاتنة، فقدّم عرضاً بمقايضةٍ؛ قال بأنه سيعفي المُزارع من القرض إذا زوجه ابنته، فزع المُزارع وابنته من هذا العرض؛ فاقترح المُرابي الماكر أن يدع المُزارع وابنته للقدر يُقرر هذا الأمر؛ أخبرهم بأنه سيضع حصاتين: واحدةً سوداء والأخرى بيضاء في كيس النُقود، وعلى الفتاة التقاط إحدى الحصاتين؛ إذا التقطت الحصاة السوداء، تُصبح زوجةً له ويتنازل عن قرض أبيها، وإذا التقطت الحصاة البيضاء، لا تتزوجه ويتنازل عن قرض أبيها، أما إذا رفضت التقاط أي حصاةٍ فسيسجن أباها. كان الجميع يقفون على ممرٍ مفروشٍ بالحصى في أرض المُزارع، وحينما كان النقاش جارياً، انحنى المُرابي ليلتقط حصاتين، وانتبهت الفتاة إلى أنه التقط حصاتين سوداوين، ووضعهما في الكيس، ثم طلب منها التقاط حصاةٍ من الكيس. فكّرت الفتاة بسُرعةٍ، كيف تتصرف في هذا الموقف؟ لم يُنقذها من تلك الورطة إلا (حُسن التصرف) وسُرعة البديهة؛ إذ أدخلت يدها في كيس النُقود وسحبت منه حصاةً، أطبقت عليها بيدها كي لا يرى أحدٌ لونها ثم تعمدت أن تتعثر وتُسقط الحصاة من يدها في الممر المملوء بالحصى، وبذلك لا يمكن الجزم أبداً بلون الحصاة التي التقطتها، ثم قالت بصوتٍ عالٍ ومسموعٍ للجميع: "يا لي من فتاةٍ حمقاء؛ لقد وقعت الحصاة مني، لكننا نستطيع النظر في الكيس للحصاة الباقية وعندئذٍ نعرف لون الحصاة التي التقطتها". هكذا قالت الفتاة، وبما أن الحصاة المتبقية في الكيس سوداء، فإنه من المنطقي أن تكون الحصاة التي التقتطها وأوقعتها على الأرض هي الحصاة البيضاء. و بما أن المُرابي لن يجرؤ على فضح نفسه وإظهار عدم أمانته، فإن الفتاة تكون -نتيجة (حُسن التصرف)- قد غيّرت ما ظهر أنه موقفٌ مُستحيلٌ التصرف فيه أو الخروج منه إلى موقفٍ نافعٍ لها ولأبيها إلى أبعد حد.

 

إنّ (حُسن التصرف) عملٌ من أعمال العقل، وفي حثٍ لنا كمُسلمين لاستخدام عقولنا الاستخدام الرشيد؛ فقد وردت الإشارة إلى العقل في القرآن الكريم بعدة صورٍ، قام أحد الأفاضل بحصرها فوجد أنّ منها ما ورد بصورةٍ مُباشرةٍ وأسلوبٍ صريحٍ باللفظ والمعني؛ كما هو الحال في الآيات التي تحتوي على: مُشتقات لفظ "عقل" مثل: يعقلون، تعقلون، نعقل، يعقلها، وغيرها، وقد وردت هذه الألفاظ في القرآن الكريم تسعاً وأربعين مرةً. ومنها ما ورد ككلماتٍ مُرادفةٍ للفظة "عقل" كالقلب واللُب والفؤاد والحلم وغيرها، وقد وردت في القرآن الكريم حوالي مائةٍ وثمانين مرةً. ومنها ما ورد كألفاظٍ تُشير إلى وظيفةٍ من وظائف العقل: مثل التذكر والتفكر والتفقه والتدبر وغيرها، وقد وردت هذه الألفاظ حوالي ثلاثمائة مرةً. وهذا يعني أن مُشتقات لفظ "عقل" ومُرادفاته قد ترددت أكثر من خمسمائة مرةً في القرآن الكريم، مما يؤكد أهمية العقل ودوره في حياة الإنسان، كما يُوضح المنزلة السامية للعقل في القرآن الكريم.

 

أحبتي.. جاء في الأثر "المؤمن كَيّسٌ فَطِنٌ". والذكاء رغم أنه نعمةٌ إلهيةٌ من المولى عزَّ وجلَّ يختص بها بعض عباده فتظهر في (حُسن التصرف) وسُرعة البديهة؛ وتأتي في صورة إلهامٍ أو حدسٍ أو استبصارٍ أو كشفٍ أو فتحٍ أو ما شابه، إلا أن كل مُسلمٍ، وبتوفيقٍ من الله سُبحانه وتعالى، يُمكنه بالتدريب والتركيز والرغبة الأكيدة والعزيمة الصادقة والمُمارسة الواعية وتراكم الخبرات، أن يكتسب الكياسة والفِطنة، ويُنميهما، ويُطوعهما لخدمة دينه وخدمة وطنه وخدمة نفسه وغيره من الناس، بغير ضررٍ يقع على أحد؛ فليجتهد كلٌ منا أن يكون كَيّساً وأن يكون فطناً، وألا يترك الكياسة والفِطنة لغيره، فالحكمة ضالة المؤمن؛ حيث وجدها فهو أحق بها.

اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين الذين تُنعم عليهم بالذكاء والفِطنة فيحسنوا التصرف فيما يمر بهم من مواقف.

https://bit.ly/3yPtEP8