الجمعة، 9 أغسطس 2019

إياك وما يُعتذر منه/2


الجمعة 9 أغسطس 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٩
(إياك وما يُعتذر منه)

يُحكى أنه كان هناك شابٌ عصبي المزاجِ سريعُ الغضبِ بشكلٍ لا يُصدق، وكان دائماً ما يغضب ويخرج عن صوابه ويجرح الناسَ بأقواله وأفعاله، وكان والد هذا الشاب رجلاً حكيماً له خبرةٌ كبيرةٌ بالحياةِ، وقد لاحظ هذه الصفة السيئة بابنه، فقرر أن يعلمه درساً ليصلحه ويقومه فأحضر له كيساً مملوءاً بالمسامير الصغيرة وقال له: "يا بني كلما شعرتَ بالغضب الشديد وفقدتَ أعصابك وبدأتَ تفعل أشياء لا تصح، عليك أن تقوم بدق مسمارٍ واحدٍ في السياج الخشبي لحديقة المنزل". نفذ الشاب نصيحة والده؛ وكان كلما شعر بالغضب الشديد دق مسماراً في السياج. لكن لم يكن دق المسامير في السور الخشبي سهلاً؛ فهو يحتاج جهداً كثيراً ووقتاً طويلاً. في اليوم الأول قام الشاب بدق أربعين مسماراً، وتعب كثيراً في دقها، فقرر في نفسه أن يحاول أن يملك نفسه عند الغضب حتى لا يتكبد عناء دق المسامير. مع مرور الأيام نجح الشاب فى إنقاص عدد المسامير التي يدقها، حتى تمكن من ضبط نفسه بشكلٍ نهائي، وتخلص من تلك الصفة السيئة إلى الأبد. مر يومان كاملان والشاب لا يدق أي مسمارٍ في السياج، فذهب إلى والده فرحاً، هنأه الوالد على هذا التحول الجيد، لكنه طلب منه شيئاً جديداً؛ وهو القيام بإخراج جميع المسامير التي سبق أن دقها من السياج! تعجب الشاب من طلب والده، لكنه قام بتنفيذ طلبه فوراً؛ فأخرج جميع المسامير، وعاد مرةً أخرى إلى والده وأخبره بإنجازه، فأخذه والده إلى الحديقة وأشار إلى السياج قائلاً: "أحسنتَ صُنعاً يا بني، ولكن انظر الآن إلى كل هذه الثقوب المحفورة في السياج. هذا السياج مستحيلٌ أن يعود يوماً كما كان، مهما فعلتَ، وهذه الثقوب هي الأفعال والأقوال التي كانت تصدر منك عند الغضب، يُمكنك أن تعتذر بعدها ألف مرةٍ لعلك تمحي آثارها، لكنها دوماً ستترك أثراً في نفوس الآخرين لا يمحيه الزمن".

أحبتي في الله .. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ناصحاً وموجهاً أحد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين: [صَلِّ صَلاةَ مُوَدِّعٍ كَأَنَّكَ تَرَاهُ؛ فَإِنْ كُنْتَ لا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، وَآيَسْ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ تَعِشْ غَنِيًّا، وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ]. عن عبارة (إياك وما يُعتذر منه) يقول أهل العلم أن النبي عليه الصلاة والسلام حذَّر من الوقوع فيما يحمل على الاعتذار، فالعاقل هو الذي يفكر في القول قبل أن يقوله، والفعل قبل أن يفعله، فإن رأى في الكلمة خيراً قالها وإلا حبسها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ]، وهو تفسيرٌ لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾، ولقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا من الوقوع فيما يغضب الله، وفيما يغضب الناس، فيكون الاعتذار.
أما الاعتذار لله فلابد منه لأنه توبةٌ؛ فيكون التحذير من الذنوب كبيرها وصغيرها، والمعنى: إياك والمعاصي؛ فإنك قد تتمادى فيها فتموت عليها فتدخل النار، وقد تعتذر منها فلا ينفعك الاعتذار، فالأولى ألا تُقدِم عليها، ولا تقرب ما يؤدي إليها.
وأما الاعتذار للناس فهو إرضاءٌ لهم وتطييبٌ لنفوسهم، وبعفوهم يعفو الله عزَّ وجلَّ عنك. والاعتذار إليهم سبيلٌ إلى التسامح والصفح، وهو دليلٌ على مكارم الأخلاق؛ فهو خُلقٌ نبيلٌ، وسجيَّةٌ محمودةٌ لا يتمتَّع بها إلا مَن كان ذا فطرةٍ سويَّةٍ لم تُفسِدْها التَّقاليد الباليَة، والعادات المُتعجرفة، بحيث يأنَفُ المُتكبِّرون من الاعتذار عن أخطائهم التي يرتكِبونها في حقِّ غيرهم من الناس؛ فإن اعتذر المخطئ فهو إنسانٌ متواضعٌ، وإن عفا المعتذر إليه فهو حليمٌ كريم.
وعن الاعتذار من المخطئ وعفو المعتذر إليه يقول العلماء أن التوبة إلى الله سبحانه وتعالى هي المظهر الأسمى للاعتذار من المخطئ، حين يرفع العبد كف ضراعته إلى ربه نادماً باكياً معتذراً، يقول كما قال أبواه آدم وحواء بعد أول ذنبٍ ارتُكب من البشر: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، وأما العفو من المعتذر إليه فكان مثله الأعلى عفو الله سبحانه وتعالى عنهما بقبول اعتذار آدم عليه السلام وتوبته؛ قال تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في قبول اعتذار المعتذر والعفو عنه، فكان لا يرد معتذراً لما كان في نبينا الكريم من كرم نفسٍ وحُسن خلقٍ؛ وفي موقفه مع حادثة قتل ابنته زينب رضي الله عنها خير دليلٍ على سعة عفوه وعظم نفسه، فعند هجرتها رضي الله عنها دفعها رجلٌ كان مشركاً وقتها وهو هبار بن الأسود، دفعها وهي حبلى فسقطت من فوق بعيرها فأسقطت جنينها ولا زالت مريضةً في المدينة بعدها حتى لقيت ربها، وبعد الفتح يأتي هبارٌ إلى رسول الله ويعتذر إليه فيقول: "السلام عليك يا نبي الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ولقد هربتُ منك في البلاد وأردت اللحاق بالأعاجم ثم ذكرتُ عائدتك وصلتك وصفحك عمن جهل عليك، وكنا يا نبي الله أهل شركٍ فهدانا الله بك وأنقذنا من الهلكة؛ فاصفح عن جهلي وعما كان يبلغك عني، فإني مقرٌ بسوء فعلي، معترفٌ بذنبي"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ، فَقَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ حَيْثُ هَدَاكَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ].
وهاهُم الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وقد استوعبوا كتاب الله سبحانه وتعالى، وتأسوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، يطبقون مبدأ اعتذار المخطئ وعفو المعتذر إليه تطبيقاً عملياً؛ حين وقعت بين أبي ذرٍ وبلالٍ، رضي الله عنهما، خصومةٌ، فغضب أبو ذرٍ وفلت لسانه بكلمةٍ قال فيها لبلال: "يا ابن السوداء"، فتأثر بلال وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو أبا ذر؛ استدعى النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر، وقال له: [أَعَيَرْتَهُ بِأُمِهِ؟ إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ]، فتأثر أبو ذرٍ وتحسَّر وندم، وقال: "وددتُ واللهِ لو ضُرب عنقي بالسيف، وما سمعتُ ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ووضع أبو ذرٍ خده على التراب معتذراً وقال: "يا بلال؛ ضع قدمك على خدي، لا أرفعه حتى تضعها"، فذرفت عينا بلالٍ بالدموع، وقال: "يغفر الله لك يا أبا ذر، يغفر الله لك يا أبا ذر، واللهِ ما كنتُ لأضع قدمي على جبهةٍ سجدت لله رب العالمين"، وتعانقا وبكيا وقد ذهب ما في القلوب من حنقٍ وبغضاء. هذه هي حياتهم يوم تعاملوا بالإسلام كمنهجٍ للحياة، رضي الله عنهم أجمعين.
وكما يحثنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم على عدم الخطأ الذي يستوجب الاعتذار بقوله: (إياك وما يُعتذر منه)، فإنه يحثنا كذلك على المبادرة إلى الاعتذار الفعلي حين يكون السلام وسيلةً للاعتذار فيقول: [لَا يحلُّ لمسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَياَلٍ يَلْتْقَيِاَنِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بالسَّلَامِ].
قال الكُتَّاب عن الاعتذار:
"إذا كان الاعتذار ثقيلاً على نفسك، فالإساءة ثقيلةٌ على نفوس الآخرين أيضاً". "لا بأس في الاعتذار، ولكن قول آسف لا يعني الاستمرار في ارتكاب نفس الخطأ مرةً أخرى". "أستطيع مسامحتك على عشرة أخطاء مختلفة، ولكن لن أسامحك على نفس الخطأ مرتين". "بمجرد أن نؤجل تقديم الاعتذار يصبح الأمر أكثر صعوبةً إلى أن يصير في النهاية مستحيلاً". "لا يمكنك قضاء كامل حياتك تعتذر من الآخرين، أصلح من نفسك". وأقول: "الاعتذار فن لا يجيده إلا المخلصون ذوو النفوس المطمئنة والقلوب الصافية النقية".
وقال الشاعر: 
إذا اعتذرَ الجاني محا العُذرُ ذنبَه
وكلُّ امرئٍ لا يَقبَلُ العذرَ مُذنِبُ
وقال الآخرُ:
إذا ما امْرُؤٌ مِن ذنبِه جاءَ تائبًا
إليكَ فلم تَغفِر له فلكَ الذَّنبُ!
وقال ثالثٌ:
خُذْ مِنْ أَخيكَ العَفوَ واغْفِر ذَنْبَه
وَلا تَكُ فِي كُلِ الأُمورِ تُعاتُبُه
فَإنَّكَ لَنْ تَلْقَى أَخاكَ مُهَذَباً
وأَيُ امرئٍ يَنْجو مِنَ العَيْبِ صَاحِبُه؟

أحبتي .. علينا أن نتجنب الخطأ في حق الله سبحانه وتعالى بالحرص على ألا يرانا حيث نهانا ولا يفتقدنا حيث أمرنا، فإذا وقع منا الخطأ بغير قصدٍ في حقه علينا أن نسارع بالاعتذار منه بطلب العفو والمغفرة والتوبة عما ارتكبنا من خطأ. كما أن علينا أن نتجنب الخطأ في حق الناس بكل شكلٍ من الأشكال؛ بالقول أو العمل، بالتصريح أو التلميح، سواءً كانوا حاضرين أم غائبين، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، التزاماً منا بالتوجيه النبوي العظيم (إياك وما يُعتذر منه)، فإذا وقع الخطأ بالفعل فلنبادر، دون إبطاءٍ وبغير كبرٍ، إلى الاعتذار إليهم وطلب الصفح والعفو والسماح منهم؛ فالعمر أقصر من أن نضيعه في تأجيل الاعتذار، أو في انتظار اعتذار الآخرين لنا!
جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2KyEuzI