الجمعة، 2 سبتمبر 2022

اللطيف الخبير

 

خاطرة الجمعة /359


الجمعة 2 سبتمبر 2022م

(اللطيف الخبير)

 

قصةٌ غريبةٌ تدل على عظمة الخالق سُبحانه؛ ففي أحراش غابات «أمريكا الجنوبية» يتجول الصيادون في مواسم الصيد حيث تمتلئ حياتهم بالمغامرات المُثيرة. وقد روى أحدهم القصة التالية:

بعد جولةٍ نهاريةٍ مُرهقةٍ بين الأحراش جلستُ على جذع شجرةٍ لأستريح، وفيما أنا جالسٌ شد انتباهي صرخات عُصفورٍ صغيرٍ كان يُرفرف على عُشه في جزعٍ شديدٍ، وقد بدا واضحاً أنه يواجه موقفاً عصيباً، اقتربتُ من مصدر الصوت في أعلى الشجرة المجاورة؛ فتبين لي سر انزعاج العُصفور، فقد كانت هناك حيةٌ كبيرةٌ تزحف صاعدةً فوق الشجرة وعيناها شاخصتان إلى العُش حيث يرقد أفراخ العصافير، وبينما كانت العُصفورة الأم تصرخ جزعاً وخوفاً على فراخها، رأيتُ العُصفور الأب يطير بعيداً ويجول في الهواء وكأنه يبحث عن شيءٍ ما، وبعد لحظاتٍ عاد وهو يحمل في منقاره غُصناً صغيراً مُغطىً بالورق، ثم اقترب من العُش حيث كانت العُصفورة الأُم تحتضن صغارها؛ فوضع الغُصن الصغير فوقهم، وغطاهم بأوراقه العريضة ثم وقف فوق غُصنٍ قريبٍ يُراقب الموقف وينتظر وصول العدو!

قلتُ لنفسي: "كم هو ساذجٌ هذا العُصفور؛ أيحسب أن الحية الماكرة سوف تُخدع بهذه الحيلة البسيطة؟!". مرت لحظاتٌ من التوتر قبل أن تصل الحية إلى الموقع، والتفتْ حول غُصنٍ قريبٍ، وعندما اقتربتْ من العُش رفعت رأسها الكبير استعداداً لاقتحامه. كان واضحاً أن كل شيءٍ قد انتهى تماماً، غير أن ما حدث بعد ذلك كان مُثيراً جداً؛ ففي اللحظة التي همّت فيها الحية باقتحام العُش توقفتْ واستدارتْ، ثم تحولت فجأةً، وأسرعتْ مُبتعدةً عن العُش وكأنها أصيبت برصاص بُندقيةٍ وهبطت عائدةً إلى حيث أتت، وقد بدا اضطرابها واضحاً! لم أفهم ما حدث، لكني رأيتُ العُصفور الأب يعود إلى العُش لترتفع صوصوات العائلة السعيدة فرحاً بالنجاة، ويُزيح الغُصن من فوق الأفراخ فيُسقطه إلى الأرض، فالتقطتُ الغُصن واحتفظتُ به حتى التقيتُ بأحد خبراء الحياة البيولوجية في الأحراش اللاتينية، فرويتُ له ما حدث وسألته عن هذا الغُصن؛ فقال لي إن هذه الأوراق تحتوي على مادةٍ شديدة السُمية، قاتلةٍ للحيات، حتى أنها تخاف رؤيتها وترتعب من رائحتها وتهرب خوفاً من مُلامستها! تعجبتُ من تلك القوانين المُنضبطة التي تحكم الحياة بدقائقها المُثيرة؛ فتُساند الضعيف، وتتصدى للقوي، وتمنح العُصفور الصغير عِلماً ومعرفةً وحكمةً وشجاعةً وحُباً وأُبوةً كهذه!

لقد وضع الله تخطيطاً مُحكماً لجميع مُفردات الحياة؛ صغيرها وكبيرها، فالذي علّم العُصفور أن هذه الأوراق فيها سمٌ قاتلٌ تخافه الحيات لن يُضيّعك وقت الشدائد، وسيُلهمك التصرف السليم لتخرج منها معافىً؛ فلا تقلق على حياتك ولا على رزقك، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك، رُفعتْ الأقلام وجفت الصحف. ما أعظمك ربنا، وأنت سُبحانك (اللطيف الخبير).

 

أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة بأخرى، مُختلفةٍ معها في التفاصيل، مُشتركةٍ معها في العبرة. تقول القصة:

أبحرت سفينةٌ على متنها بعض الرجال، وفي عرض البحر هبت عاصفةٌ شديدةٌ، أخذت السفينة تتمايل، وتمايل معها مَن كان فيها حتى غرقت ووقع مَن فيها بالماء. تعلق رجلٌ من ركابها بعرقٍ من خشب السفينة، وظل يُقاوم الموج والغرق، وبفضل الله ألقته الأمواج على جزيرة. خرج الرجل مُتعباً على شاطئ الجزيرة، واستلقى على الرمال. مرَّ الوقت واستراح من تعبه وأخذ يتفقد الجزيرة؛ فوجدها خاليةً من السُكان، بها بعض الأشجار المُثمرة، وبعض الطُيور والأرانب، وبها عين ماءٍ جاريةٌ. حمد الله على فضله ونعمته عليه، واستقر على الجزيرة، يأكل من ثمارها، ويصطاد من الأرانب ويطهي، ويشرب من ماء العين. بني لنفسه كوخاً من خشب الأشجار لينام فيه، ويحتمي من حرارة الشمس بظله، ويُعد طعامه به، وفي أحد الأيام تمكن من اصطياد أرنبٍ سمينٍ، فذبحه ووضعه على النار داخل الكوخ لينضج، وخرج يتفقد الجزيرة لعله يجد مخرجاً أو يعثر على مَن يتواصل معه إلى أن يطيب الطعام، مرّ الوقت ولم يشعر ورجع إلى كوخه لتناول طعامه. وكانت المفاجأة؛ امتد لهب النار للكوخ فالتهمه، واتسع اللهب ليتناول كل ما في الكوخ، رأى الرجل الأمر فاشتد حزنه وأخذ في البكاء، ورفع يديه إلى السماء يشكو أمره لله، وكأنه يعترض على ما أصابه من بلاءٍ، ثم انتبه واستغفر الله وأوي إلى شجرةٍ ونام تحتها حتى الصباح. أشرقت الشمس وقام الرجل من نومه، واتجه قُرب الشاطئ ينعي حاله لماء البحر. وحدثت المفاجأة؛ رأى سفينةً تقترب من الشاطئ؛ فدعا الله أن يراه من فيها، وبالفعل رأوه وأنزلوا قارباً صغيراً لإنقاذه. ركب القارب وصعد إلى سطح السفينة وهو يبكي من شدة الفرح. استقبله رجال السفينة وهم يقولون له: "حمداً لله على السلامة"؛ فبكى الرجل وسألهم: "من دلكم على مكاني؟!"، فقالوا له: "بالأمس شاهدنا دخاناً يتصاعد من الجزيرة؛ فعلمنا أن هناك من يطلب العون ويستجير، فأبحرنا نحوك"، رفع الرجل يديه إلى السماء شاكراً الله، ثم قال: “رُبَّ ضارةٍ نافعة".

 

إنه تدبير المولى سُبحانه لجميع مخلوقاته، وصف نفسه بصفتي (اللطيف الخبير)؛ يقول تعالى: ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾.

ووصف نفسه سبحانه بذات الصفتين ولكن بحذف أداة التعريف؛ يقول تعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾، ويقول أيضاً: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ۗ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾، ويقول كذلك: ﴿يَـبُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة مِّنْ خَرْدَل فَتَكُن فِي صَخْرَة أَوْ فِى السَّمَـوَتِ أَو فِى الاَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾.

 

قال العُلماء إن اسم "اللطيف" من اللُطف؛ فهو سُبحانه يعلم دقائق الأمور وغوامضها وما لطف منها، ثم يسلك في إيصال ما يُصلحها سبيل الرفق دون العنف. وهو العالِم بخبايا الأمور، والمُدبر لها برفقٍ وحكمةٍ ويُسر؛ فهو الذي يلطف بعبده، فيسوق إليه البِر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر، من حيث لا يحتسب، ويرقيه إلى أعلى المراتب، بأسبابٍ لا تكون من العبد على بالٍ، حتى إنه يُذيقه المكاره، ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة، والمقامات النبيلة.

 

وعن اسم الله "اللطيف" قال الشاعر:

وهوَ اللَّطِيفُ بِعَبْدِهِ وَلِعَبْدِهِ

واللطفُ في أوصافِهِ نَوْعَانِ

إدراكُ أسرارِ الأمورِ بِخِبْرَةٍ

واللطفُ عندَ مَوَاقِعِ الإحسانِ

فَيُرِيكَ عِزَّتَهُ وَيُبْدِي لُطْفَهُ

والعبدُ في الغَفَلاتِ عنْ ذا الشَّانِ

وقال آخر:

وكم لله مِن لُطفٍ خَفيٍّ

يَدِقُّ خَفاهُ عن فَهمِ الذَكيِّ

وكَم يُسرٍ أتى مِن بَعدِ عُسْرٍ

ففرَّج كُربةَ القلبِ الشجيِّ

وكَم أمرٍ تُساءُ به صَباحًا

وتأتيك المَسرَّةُ بالعشيِّ

إذا ضاقت بكَ الأحْوالُ يومًا

فثِقْ بالواحدِ الفَردِ العَليِّ

 

أما اسم "الخبير" فهو الذي لا يعزب عن علمه الأمور الباطنة، فلا تتحرك في المُلك والملكوت ذرةٌ، ولا تسكن أو تضطرب نفسٌ، إلا وعنده خبرها. العالِم بخلقه وسرهم وجهرهم وجميع أعمالهم، المُطّلع على ما في قلوبهم ونفوسهم من الخير والشر. العليم بما في الكون كله، وبما في أرجاء الأرض وأقطارها. يعلم كل شيءٍ ولا يغيب عن عِلمه صغيرةٌ ولا كبيرةٌ، وهو العالِم بكُنه كل شيءٍ، ومُطّلعٌ على كل حقيقةٍ، مهما دقت، أو خفيت، العليم بدقائق الأمور لا تخفى عليه خافيةٌ، العليم بظاهر الأشياء وبواطنها، بشكلها وحقيقتها، وبجلائلها، وبدقائقها، بما تراه العيون وبما يخفى عنها، العليم بكل الأمور وبواعثها وأهدافها البعيدة، وبما يُخامر فاعلها من مشاعر. هو العالِم بما كان، وما هو كائنٌ، وما سيكون، وما لو كان كيف يكون، وليس ذلك إلا لله عزَّ وجلَّ، يعلم مستقر كل شيءٍ ومستودعه؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾.

 

وعن اسم الله "الخبير" قال الشاعر:

عْمَ الخَبِيـرُ بِحَالِ كُـلِّ عِبَادِهِ

يَهَبُ العُلُومَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُخْبِرُ

 

وقد ورد الاسمان -من أسماء الله الحُسنى- متتابعين (اللطيف الخبير) في الحديث الذي روته السيدة عائشة -رضي الله عنها- والذي حكت فيه عن ليلةٍ كان النبي صلى الله عليه وسلم عندها، وجاءه جبريل عليه السلام يُبلغه أن ربه يأمره أن يأتي أهل البقيع فيستغفر لهم، وخرج الرسول لأمر ربه وقد ظن أن السيدة عائشة نائمةً فلم يُرد أن يوقظها، ولكنها انطلقت على إثره حتَّى جَاءَ البَقِيعَ. قالت: فَقَامَ، فأطَالَ القِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ، فأسْرَعَ فأسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فأحْضَرَ فأحْضَرْتُ، فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ، فليسَ إلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ، فَقالَ: [ما لَكِ يا عَائِشُ؟ حَشْيَا رَابِيَةً؟] قالَتْ: قُلتُ: لا شَيءَ، قالَ: [لَتُخْبِرِينِي، أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الخَبِيرُ]، فأخبرته ما كان منها. {"فأحْضَرَ فأحْضَرْتُ" الإحضارُ: العدْوُ. "عائشُ" بحذْفِ التَّاءِ تلطُّفًا وتَودُّدًا. "حَشْيَا" هو التَّهيُّجُ الَّذي يَعرِضُ للمُسرعِ في مَشيِه والمُحتَدِّ في كَلامِه مِن ارتفاعِ النَّفَسِ وتَواترِه، "رابِيَةً" أي: مُرتفِعةَ البطْنِ! ومعنى السؤال: فلأيِّ سَببٍ اضطَرَبَ جِسمُكِ وانقَطَع نفَسُكِ يا عائشة؟}.

 

قال الشاعر:

لَيسَ يَدري إِلّا اللَطيفُ الخَبيرُ

أَيُّ شَيءٍ تُطوى عَلَيهِ الصُدورُ

 

أحبتي.. "اللَّطيفُ" إذاً هو الرَّفيقُ بعِبادِه، و"الخبيرُ" هو العليمُ بأحوالِهِم ظاهرِها وباطنِها. يقول العارفون إنه إذا أيقن العبد بهذين الاسمين من أسماء الله الحُسنى: (اللطيف الخبير) هان عليه ما يمر به من شدائد، وأيقن أن الله سُبحانه وتعالى لا يقضي لعباده الصالحين إلا ما فيه العاقبة الحميدة لهم. والمؤمن يعلم أنه لا تخفى على الله منه خافيةٌ، ما يجعله يستقيم على طاعته، ويعتمد على اختيار ربه في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ من أمره، ويُسلّم له في جميع شؤونه ثقةً في كمال تدبيره؛ فيوقن بالفرج حال الشدة، واليُسر حال العُسر، ولا يقطع أملاً في رحمة الله.

اللهم اجعلنا ممن تشملهم بلُطفك وخبرتك، فتُدّبر لنا ما يُصلحنا، ولا تتركنا لأنفسنا طرفة عينٍ فنحن لا نُحسن التدبير.

https://bit.ly/3cBRtms