الجمعة، 28 يناير 2022

سواسية كأسنان المشط

 

خاطرة الجمعة /328


الجمعة 28 يناير 2022م

(سواسية كأسنان المشط)

 

يروي أحد المعلمين عن موقفٍ مؤثرٍ مرّ به؛ فيقول إنه كان يقود سيارته فأوقفته دورية المرور، وبادر ضابط المرور بطلب الرخصة وأوراق السيارة، وهو يتفحص وجهي من وراء عدساته الشمسية المعتمة؛ فسلمتُه كل ما طلب من وثائق ليبادرني بلهجةٍ هادئةٍ وحازمةٍ: "أنت لم تربط حزام الأمان يا أستاذ!"، قلتُ: "نعم، للأسف"، قال: "هذه مخالفة"، قلتُ: "نعم أعترف أني أخطأتُ وأستحق المخالفة، بدأ الضابط بتدوين قسيمة المخالفة، ثم سألني: "هل أنت أستاذٌ ومعلمٌ تربوي؟"، قلتُ: "نعم"، قال: "إذا غش طالبٌ في الامتحان هل تسامحه؟"، قلتُ: "لا"، قال: "إذن ماذا تفعل؟"، قلتُ: "أُطبق عليه القانون"، فناولني ورقة المخالفة، وقال: "هل يمكن أن تنزل من السيارة؟"، بترددٍ واستغرابٍ نزلتُ. قام فجأةً باحتضاني وقبَّل رأسي! كنتُ مندهشاً مما يحصل. قال لي: "أستاذ؛ أنا الطالب فلان، درستُ عندك. أتذكر حين غششتُ من ابنك فلان في الامتحان فعاقبتنا حينها وسحبت ورقتي وورقته ومنحتنا صفراً وطبقت عليّ وعلى ابنك القانون؟ منذ ذلك اليوم عرفتُ أن القانون وُضع ليُطبق على الجميع ولا يُستثنَى منه أحدٌ، ولو كان ابنك. يومها بكيتُ احتراماً لك وحزناً على أنك طبقتَ القانون على ابنك دون أن تُجامل؛ فجعلتك مثالاً لي. واليوم أستاذي أنا أطبق عليك القانون ولا أستثني أحداً ولو كان ابني". لم أستطع أن أتحكم بدموعي فرحاً بأن هذا الضابط كان أحد طلابي، وعرف ماذا يعني تطبيق القانون، وهو بالمقابل كان يناضل من أجل ألا تسيل دموعه حفاظاً على هيبة الزي العسكري الذي يرتديه؛ فأخرج مبلغاً من المال من جيبه الخلفي وقال: "أقسمتُ عليك يا أستاذي أن تقبل هديتي"، فامتنعتُ، فألح عليّ وقال: "القانون طبقته عليك لكن قيمة المخالفة عليّ؛ فأنت معلمي وأبي وقدوتي، أدامك الله تاجاً فوق رؤوسنا"، حاولتُ الامتناع فألح بشدة، وسانده زميله الذي شهد الموقف بتأثر.

غادرتُ المكان وقد سَرتْ بين أضلعي سَكينةٌ عجيبةٌ وسعادةٌ غامرةٌ ودموع فخرٍ أنه تخرج من تحت يديّ جيلٌ لا يخون وظيفته ولا وطنه.

 

أحبتي في الله .. تزخر هذه القصة بالكثير من المعاني العظيمة والقيم الرائعة؛ كإخلاص المعلم في عمله، ووفاء التلميذ لأستاذه، وغير ذلك من معانٍ وقيمٍ، إلا أن ما استوقفني وشدّ انتباهي هو سلوكٌ إيجابيٌ قَلّ أن يلتزم به الناس في أيامنا هذه -إلا من رحم ربي- ذاك السلوك هو إيقاع المعلم العقاب بابنه حين أخطأ، بغير محاباةٍ أو مجاملةٍ أو تمييزٍ، ولعل مرجع المسلمين في مثل هذه المواقف هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: [لو أنَّ فاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَها]؛ ولهذا الحديث قصةٌ ملخصها أنّ امرأةً من بني مخزوم كانت تستعير المتاع فتجحده {أي: تأتي للناس تقول: أعرني قدرًا، أعرني إناءً، أعرني كذا، فإذا أعاروها جحدت وقالت: لم آخذ منكم شيئاً}، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تُقطع يدها؛ لأن هذا نوعٌ من السرقة. وكانت هذه المرأة من بني مخزوم، من قبيلةٍ من أشرف قبائل العرب ذات الأهمية والشأن، فأهم قريشاً شأنُها، وقالوا: كيف تُقطع يد مخزوميةٍ، ثم طلبوا شفيعاً إلى رسول الله فقالوا: أسامة بن زيد حِب رسول الله {حِبّه يعني: محبوبه، أي: أنه يحبه}؛ فتقدم أسامة بن زيد -رضي الله عنه- إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ليشفع، فأنكر عليه وقال: [أتشفعَ في حدٍّ من حدودِ الله؟]، ثم قام رسولُ اللَّهِ خطيباً، فأثْنَى علَى اللَّهِ بما هو أهْلُهُ، ثُمَّ قالَ: [أمَّا بَعْدُ؛ فإنَّما أهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ: أنَّهُمْ كانُوا إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقامُوا عليه الحَدَّ، والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لو أنَّ فاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَها]، وفي روايةٍ [لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَها]. ثُمَّ أمَرَ النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بتِلْكَ المَرْأَةِ، فَقُطِعَتْ يَدُها، فَحَسُنَتْ تَوْبَتُها بَعْدَ ذلكَ.

 

يقول أهل العلم إن رسالة الإسلام جاءت حاملةً كل معاني الخير للبشرية جمعاء؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾، فدعوة الإسلام جاءت مستهدفةً الناس جميعاً على اختلاف أنواعهم وأعراقهم وألوانهم، مقرةً لهم بجميع الحقوق على حدٍ سواء فلا يتم التعامل مع أيٍ من الناس باعتبار شكله أو لونه أو عرقه أو حسبه ونسبه، بل إن معيار التفاضل الوحيد الذي أقره الإسلام بين الناس هو التقوى؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾. إضافةً إلى ما احتوت عليه سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- من أحداثٍ ومواقف تؤصل وتؤكد على أن الناس (سواسية كأسنان المشط)، وتُرسخ مبدأ المساواة الذي يتم على أساسه التعامل مع كل الناس في الإسلام، بحيث لا يمكن لأحدٍ مهما كانت مكانته أن يكون فوق القانون، وأن تتم معاملته بأسلوبٍ مخالفٍ لما يُعامَل به عامة الناس. ولقد كانت حياة الصحابة خير مثالٍ للتعايش والمساواة بين مختلف الأعراق والأجناس؛ فلا نرى بين الصحابة تمييزاً بين أبي بكر العربي وبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، جمَّعهم الإسلام جميعاً تحت عباءته إخواناً متحابين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: [لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلَّا بالتَّقوَى، النَّاسُ من آدمُ، وآدمُ من ترابٍ]. ولعلنا نرى حقيقة المساواة واضحةً جليةً في قصة أبي ذرٍ الغفاري يرويها بنفسه فيقول: إنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بأُمِّهِ، فَقالَ لي النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: [يا أبَا ذَرٍّ أعَيَّرْتَهُ بأُمِّهِ؟ إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ].

ولقد تعدى مبدأ المساواة في الإسلام التعامل بين المسلمين إلى تعامل المسلم مع غيره من غير المسلمين؛ يقول تعالى: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، فقد أمرنا الله بالبر والقسط في التعامل معهم، والبر والقسط من أرقى مبادئ التعامل الإنساني، فحتى لو لم يكونوا مسلمين إلا أن لهم الحق في احترام حقوقهم وحمايتها وعدم الاعتداء عليها.

 

وبالتاريخ الإسلامي العديد من القصص التي تؤكد على أن المساواة بين الخلق في الحقوق والواجبات مبدأٌ إسلاميٌ؛ وأن الناس (سواسية كأسنان المشط)؛ ومن ذلك ما رُوي أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين، عائذٌ بك من الظُلْم، قال: "عذتَ معاذاً"، قال: سابقتُ ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط، ويقول: أنا ابن الأكرمين؛ فكتب عُمر إلى عَمرو يأمره بالقدوم، ويقدم بابنه معه، فقدم، فقال عمر: "أين المصري؟ خُذ السوط، فاضرب"؛ فجعل يضربه بالسوط، ويقول عمر: "اضرب ابن الأكرمين".

 

ومن ذلك أيضاً ما رُوي أن علياً بن أبي طالب -رضي الله عنه- وجد درعاً له عند يهوديٍ التقطها فعرفها؛ فقال: "درعي سقطت عن جملٍ لي أورق"، فقال اليهودي: درعي وفي يدي، ثم قال له اليهودي: بيني وبينك قاضي المسلمين؛ فأتوا شُريحاً القاضي فلما رأى علياً قد أقبل قال شريح: ما تشاء يا أمير المؤمنين؟ قال: "درعي سقطت عن جملٍ لي أورق، والتقطها هذا اليهودي"؛ فقال شريح: ما تقول يا يهودي؟ قال: درعي وفي يدي، فقال شريح: لأمير المؤمنين لا بد من شاهدين، فدعا عليٌّ ابنه الحسن بن علي ومولاه قنبر فشهدا أنها لدرعه، فقال شريح: أما شهادة مولاك فقد أجزناها، وأما شهادة ابنك لك فلا نجيزها، وقال لليهودي: خذ الدرع، فقال اليهودي متعجباً: أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى عليه ورضي! والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك سقطت عن جملٍ لك التقطتُها، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فوهبها له سيدنا عليّ.

 

وكذلك تلك المحاكمة التي لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، وكانت في عصر عمر بن العزيز -رضي الله عنه- عند فتح سمرقند على يدِّ قائدٍ عظيمٍ هو قتيبة بن مسلم. بدأت المحاكمة، بقول القاضي: نادِ يا غلام "يا قتيبة" {هكذا بلا لقب}، فجاء قتيبة وجلس هو وكبير كهنة سمرقند أمام القاضي بحضرة الكثير من الكهنة، قال القاضي للكاهن: "ما دعواك يا سمرقندي؟" قال: "اجتاحنا قتيبة بجيشه، ولم يدعنا إلى الإسلام ويُمهِلنا حتى ننظر في أمرنا". التفت القاضي إلى قتيبة وقال: "وما تقول في هذا يا قتيبة؟". قال قتيبة: "الحرب خدعةٌ، وهذا بلدٌ عظيمٌ، وكل البلدان من حوله كانوا يقاومون ولم يدخلوا الإسلام ولم يقبلوا بالجزية". قال القاضي: "يا قتيبة هل دعوتهم للإسلام أو الجزية أو الحرب؟" قال قتيبة: "لا، إنما باغتناهم لِمَ ذكرتُ لك". قال القاضي: "أراك قد أقررتَ، وإذا أقر المدعى عليه انتهت المحاكمة، يا قتيبة ما نَصَر الله هذه الأمة إلا بالدين واجتناب الغدر وإقامة العدل". ثم قال: "قضينا بإخراج جميع المسلمين من أرض سمرقند من حكامٍ وجيوشٍ ورجالٍ وأطفالٍ ونساءٍ، وأن تُترك الدكاكين والدور، على أنْ يُنذِرهم المسلمون بعد ذلك!" لم يُصدِّق الكهنة ما شاهدوه وسمعوه؛ فلم تدم المحاكمة إلا دقائق معدودة، ولم يشعروا إلا وأمير المؤمنين والقاضي والغلام وقتيبة ينصرفون أمامهم. وبعد ساعاتٍ قليلةٍ سمع أهل سمرقند جلبةً تعلو وأصواتاً ترتفع، وشهدوا غباراً يعمّ الجنبات، وراياتٍ تلوح خلال الغبار، فسألوا؛ فقيل لهم: "إنَّ الحُكم قد نُفِذَ وأنَّ جيش المسلمين قد انسحب". وما إنْ غرُبت شمس ذلك اليوم إلا وصوت بكاءٍ يُسمع في كل بيتٍ على خروج تلك الأمة العادلة الرحيمة من بلدهم، ولم يتمالك الكهنة وأهل سمرقند أنفسهم لساعاتٍ أكثر، حتى خرجوا أفواجاً، وكبير الكهنة أمامهم وهم يرددون شهادة أن لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله.

 

أحبتي .. نقف جميعاً وقت الصلاة صفاً واحداً متساويين أمام رب العالمين، لا فرق بين غنيٍ وفقيرٍ، ولا أسود أو أحمر، ولا بين رئيسٍ ومرؤوسٍ، هذا هو شرع الله، ما أعدله وما أحكمه. لو طبقنا هذا الشرع وهذا العدل في جميع مجالات الحياة لكنا قدوةً لغيرنا، ولكان ذلك سبباً في دخول الناس للإسلام أفواجاً؛ فلنوطن أنفسنا على أن نكون قدوةً، ونطبق العدل ولو على أنفسنا أو والدينا وأقرب الناس إلينا؛ يقول تعالى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾. ولنتعاهد أحبتي على نبذ التمييز عند تعاملنا مع الغير، فكلنا عباد الله، ولنهتم بما هو أهم من المنصب والمركز والمال والجاه؛ نهتم بالتقوى، فنحوز رضا الله ثم رضا الناس.

اللهم اجعلنا ممن يقيمون العدل في الأرض، وأعنّا على أن نُعامل الناس جميعهم بغير تمييز، موقنين أننا وأنهم جميعاً (سواسية كأسنان المشط).

https://bit.ly/34dA2Uv