السبت، 11 أبريل 2020

حقيقة التوكل على الله

الجمعة 3 إبريل 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٣

(حقيقة التوكل على الله)

 

كنا في مسجدنا، وكان الوقت بعد صلاة الفجر -وقت أن كنا نصلي الجمعة والجماعة في المساجد، أعاد الله لنا هذه النعمة ولا حرمنا منها- وكان من المعتاد أن يصافح بعضنا بعضاً بعد انتهاء الصلاة؛ وفي ذهننا أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام التي تحث على المصافحة؛ ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: [مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا]، وقوله عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ المُؤمِنَ إذا لَقِيَ المُؤمِنَ فسَلَّمَ عَلَيْهِ وَأخَذَ بِيَدِهِ فَصافَحَهُ تَناثَرَتْ خَطاياهُما كَما يَتَناثَرُ وَرَقُ الشَّجَرِ]، إلا في ذلك اليوم؛ مد أحد الإخوة الأفاضل يده لي لمصافحتي، فلم أصافحه ووضعت يدي على صدري مع ابتسامة ترضيةٍ ورد للتحية بالكلام، وقلتُ له مداعباً: "سلام كورونا!"، تغير وجهه وسألني: "وهل تراني مصاباً بهذا الڤيروس؟"، قلتُ بسرعة: "أبعد الله الشر عنك، بل أريد أن أجنبك العدوى، خوفاً عليك، وحباً فيك"، سألني باستغراب: "وهل أنت مصاب؟"، قلت له: "قد أكون حاملاً للڤيروس، ولم تظهر أعراضه عليّ؛ فأخشى أن ينتقل إليك مني"، هدأ قليلاً وقال: "ألست تتوضأ للصلاة؟ هذا يكفي"، قلتُ: "بلى، لكن الالتزام بما يقوله الخبراء مهمٌ، فهُم أهل الذكر الذين أمرنا الله سبحانه وتعالى بالرجوع إليهم؛ بقوله: ﴿فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمونَ﴾"، قال: "توكل على الله يا رجل؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُ﴾"، قلتُ له: "لكن التوكل عليه سبحانه غير التواكل، فالتوكل الحق يدعونا للأخذ بالأسباب، ولنا أسوةٌ حسنةٌ في رسولنا الكريم حين قال رجلٌ يا رسولَ اللهِ: أعقِلُها وأتوكَّلُ؟ أو أُطلقُها وأتوكَّلُ؟ قال: [اعقِلها وتوكَّلْ]، أي اجمع بين الأمرين، اعقل الناقة، وتوكل على الله". سكت صديقي، وما زال شيءٌ من علامات عدم الرضا بادياً على وجهه، أما أنا فانصرفت!

 

أحبتي في الله .. مع ذكر التوكل على الله تحضرني قصةٌ شائعة عن رجلٍ متعبدٍ يعيش في قريةٍ، كان قدوةً للجميع لتدينه وتقواه، وكان كل أهل القرية يسألونه في أمور دينهم، ويتخذونه نموذجاً يُحتذى به في الإيمان بالله. في أحد الأيام حلَّ طوفانٌ بالقرية أغرقها بالماء، ولم يستطع أحدٌ النجاة إلا من كان معه قاربٌ؛ فمر بعض أهل القرية بقاربهم على بيت المتعبد لينقذوه، فقال لهم: "لا داعي، الله سينقذني، اذهبوا". ثم مر أناسٌ آخرون؛ فقال لهم نفس الكلام: "لا داعي، الله سينقذني، اذهبوا". ومرت آخر أسرةٍ تحاول النجاة وقالوا للمتعبد: "اركب معنا، نحن آخر مَن في القرية فإن لم ترحل معنا ستغرق"، فأجاب: "لا داعي، الله سينقذني، اذهبوا". انتهى الطوفان، وتجمع من بقي من أهل القرية فوجدوا جثة المتعبد، فثار الجدل بين الناس وتساءل بعضهم: "أين الله؟ لماذا لم ينقذ عبده المؤمن المتعبد؟"، وكانت فتنةً كبيرةً كادت تعصف بإيمان البعض، حتى جاء شابٌ متعلمٌ واعٍ وقال: "مَن قال لكم إن الله لم ينقذه؟ إن الله أنقذه ثلاث مراتٍ عندما أرسل له ثلاث أسرٍ لمساعدته، لكنه لم يُرد أن ينجو!".

 

هناك فرقٌ كبيرٌ بين التواكل، والتوكل على الله، (حقيقة التوكل على الله) أنه مقرونٌ دائماً بالأخذ بالأسباب، ونحن مأمورون بذلك؛ يقول تعالى: ﴿وَأَعِدّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِباطِ الخَيلِ﴾، رغم تسليمنا جميعاً بأن الله سبحانه وتعالى قادرٌ على نصر المؤمنين بغير قتال.

فهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لو لم يتوكل على الله ويأخذ بالأسباب ما تحمل ما تحمل في سبيل نشر الدعوة، وما غزا صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، وقيل خمساً وعشرين، وقيل سبعاً وعشرين، وقيل تسعاً وعشرين، هذا غير السرايا التي بلغت نحو الأربعين إلى السبعين. «الغزوة ما شارك فيها الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه، والسرية هي التي لم يشارك فيها ويكون العدد فيها في الغالب قليلاً».

ولقد أخذ الأنبياء جميعهم بالأسباب؛ حين علموا (حقيقة التوكل على الله)؛ فهذا نوحٌ عليه السلام صنع السفينة، والله قادرٌ على أن ينجيه ومن معه من المؤمنين بغير سفينةٍ، ولكن الله سبحانه يُعَلِّم عباده الأخذ بالأسباب.

وهذه السَّيدة مريم، يطلب الله سبحانه وتعالى منها أن تأخذ بالأسباب، وهي في أشدِّ حالات الضعف والوهن، وقت الولادة؛ قال تعالى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ وكان سبحانه وتعالى قادراً على أن يُسقط عليها الرطب بغير أن تُضطر إلى هز جزع النخلة، لكنها سُنة الله في كونه؛ الأخذ بالأسباب.

 

يقول العلماء إن الأخذ بالأسباب مطلبٌ شرعيٌ؛ فالذي يزعم أنه متوكلٌ ولا يأخذ بالأسباب يُعد مخالفاً للشرع، فالتوكل يجمع الأمرين: الثقة بالله، والاعتماد عليه، والإيمان بأنه مسبب الأسباب، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

 

وعن علاقة التوكل على الله بجائحة "كورونا"، أعجبني قول أحدهم: إذا كان احتمال موتك بڤيروس "كورونا" هو ١٪، واحتمال موتك في أية لحظة -بهذا الڤيروس أو بغيره- هو ١٠٠٪، إذن جدد إيمانك، واتقِ الله، وتوكل عليه؛ فمن توكل على الله كفاه؛ يقول تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾؛ فالناجي من هذا البلاء ليس هو مَن ينقضي الوباء دون أن يمرض، ولكنَّ الناجي هو من فهم الرسالة وسارع بالتوبة، وأعاد ترتيب حياته. الناجي هو من نظر حوله فأيقن أن الأمان ليس في مالٍ يكنزه، ولا منصبٍ مرموقٍ يصل إليه، ولا في دولةٍ متقدمةٍ يعيش فيها، ولا في أسرةٍ حاكمةٍ ينتمي إليها، ولكن الأمان الحقيقي في العودة إلى الله، حتى إذا رفعنا أيدينا إلى السماء وقلنا -كما ورد في الأثر-: يا رب؛ قال الله تبارك وتعالى: لبيك عبدي، سَلْ تُعْطَ. وصدق من قال: وإذا الشدائدُ أقبلت بجنودِها، والدهرُ من بعد المَسرةِ أوجعك، إرفع يديك إلى السماءِ ففوقَها، ربٌ إذا ناديتَه ما ضيعك.

 

وهذه كلماتٌ طيباتٌ عن أسبابٍ يمكن لنا نأخذ بها، يقول كاتبها: مُنعنا من الصلاة في المسجد، ولم نُمنع من الصلاة في البيوت. مُنعنا من حلقات حفظ وتلاوة القرآن في المساجد، ولم نُمنع من حفظ وتلاوة القرآن الكريم في بيوتنا. مُنعنا من الاختلاط بالبشر، لنأنس برب البشر نتقرب إليه نناجيه ونذل له ونخشع وننكسر بين يديه. مُنعنا من الخروج، لتكون لدينا الفرصة كاملةً لنتعبد في البيوت فلا عذر لمن كانت حجتهم ضيق الوقت. ربنا إننا لا نخشى ڤيروس "كورونا" ولا غيره؛ فما هو إلا خلقٌ من خلقك، يأتمر بأمرك، وينتهي بنهيك، ليس المراد منه، غسل الأيدي وتنظيفها، وإنما غسل القلوب وتطهيرها بالتوبة النصوح والاستغفار والتضرع إلى الله والندم؛ يقول تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾. ألم يأنِ لمدمن الأغاني أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لمدمن المسلسلات والأفلام والنظر إلى النساء العاريات أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لمن ظلم أن يوقف ظلمه ويتعظ؟ ألم يأنِ لمن أكل أموال الناس أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لتارك الصلاة أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لقاطع الرحم أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لتارك محارمه يمشين في الشارع بملابس ضيقةٍ تكشف مفاتنهن أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لمخاصم الناس أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ للنائم عن صلاة الفجر، أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لنا جميعاً ترك الذنوب صغيرها وكبيرها، وأن نكف ونتعظ؟ أيها الناس أروا الله من أنفسكم خيراً، اتقوا الله، أدوا عباداته كما أمركم، وليس تبعاً لأهوائكم، توقفوا عن الظلم وعن تأييد الظالمين، ردوا الحقوق إلى أصحابها، ورددوا في أنفسكم قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.

 

ومن أفضل ما كُتب شعراً عن "كورونا":

ما لي أراكَ من الوبا مفتونا

وتكادُ مِن رعبٍ تُجنَ جُنونا!

إن كان موتُك لا محالةَ آتياً

فلِمَ تخافُ الموتَ من "كورونا"؟!

قد ماتَ بالطاعونِ قومٌ قبلَنا

ما بالُ مَن لم يُدرك الطاعونا؟!

مَن لم يمت بالطعنِ ماتَ بغيرِه

فالموتُ حقٌ والورى فانونا!

إنّ الذي كتبَ البقاءَ لنفسِه

كتبَ الفناءَ على الورى قانونا!

لو كان ذخرُكَ صالحاً ما خِفتَه

لكنْ حملتَ من الذنوبِ ديونا!

اللهُ أنذرَ بالوباءِ عبادَه

اللهُ حرَّكَ بالبلاءِ سُكونا!

سبحانَ مَن يُنجي العبادَ بفضلِه

ويقرُ منهم أنفساً وعُيونا!

فاعملْ لنفسِك قبلَ موتِك صالحاً

فالمتقونَ له هُم الناجونا!

 

وكتب أحدهم يقول إن أحرف "كورونا" ترشدنا إلى تحسين علاقتنا بالله سبحانه وتعالى ليكرمنا برفع البلاء عنا:

«ك» كونوا واثقين بلطف ورحمة رب الأرض والسماء وتوكلوا عليه

«و» واصلوا نهاركم وليلكم بالتضرع إليه بالدعاء والتذلل بين يديه

«ر» راجعوا تاريخ الأمم السابقة لتعرفوا مقاصد سنن الابتلاء

«و» وظفوا طاقاتكم وجهودكم للتقرب من الله وللتخفيف عن الفقراء

«ن» نظفوا قلوبكم من الكبْر والحسد والبغضاء والركون إلى الظالمين

«ا» الزموا الصلاة والاستغفار وأكثروا من الصدقات ليرفع الله البلاء والوباء

أما "كوفيد-19"؛ فإنّ حروفها تعني:

«ك» كل، «و» واحد، «ف» فينا، «ي» يلزم، «د» داره، «19» يوم. "وهذا أخذٌ بالأسباب"!

 

أحبتي .. ولأن (حقيقة التوكل على الله) أن نكون إيجابيين، ونعمل ولا نتواكل؛ فقد أطلقتُ حملةً تحت شعار "سأترك معصيتي لتعلوَ أمتي"، قلتُ فيها أن على كلٍ منا أن يبدأ بإصلاح نفسه؛ بترك ذنبٍ واحدٍ على الأقل، يكون مقيماً عليه منذ زمن، كعدم صلاة الفجر، أو ترك الصلاة مع جماعة المسلمين، أو تأخير الصلوات، أو عدم إخراج الزكاة، أو قلة التصدق، أو هجر القرآن الكريم، أو النظر إلى المحرمات، أو التقصير في حق الوالدين، أو قطيعة الأرحام، أو الغيبة، أو النميمة، أو إساءة الظن، أو السرقة، أو الرشوة، أو أكل المال بغير حق، أو ظلم الغير، أو نصرة الظالم، أو التقاعس عن نُصرة المظلوم، أو الكذب والافتراء على الغير، أو شهادة الزور، أو رمي المحصنات، أو غير ذلك. ثم ليعاهد الله سبحانه أن يترك هذا الذنب -أو الذنوب- حتى يُبعد الله الشر عنه، ويُفرِّج الغمة عن الأمة. فلو ترك كل واحدٍ منا ولو ذنباً واحداً، وقال في نفسه: "معصيتي سببٌ في محنة أمتي، وأُشهد الله على تركها طمعاً في رضاه، وخوفاً من عقابه، وابتغاءً لما عنده من الثواب" فإن الله سبحانه وتعالى سيفرج عنا بعفوه ولطفه، عندما يرانا قد توكلنا عليه، وأخذنا بالأسباب، وعُدنا إليه، والتزمنا بتطبيق شرعه؛ انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾. فما نزل بلاءٌ إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة.

ما تزال الدعوة للانضمام إلى هذه الحملة مستمرةً؛ فشاركوا فيها يرحمنا ويرحمكم الله.

ولنتوكل على الله حق التوكل، وندعو الله سبحانه وتعالى ونتضرع إليه؛ وهو القائل: ﴿فَلَولا إِذ جاءَهُم بَأسُنا تَضَرَّعوا﴾، ولنراجع علاقتنا بالله عزَّ وجلَّ، نجبر ما انكسر منها، ونقوي ما ضعف، ونزيد ما هو قويٌ منها قوةً، مع الأخذ بالأسباب كما أُمرنا.

هيا أحبتي نشمر عن سواعد الجد، ونرفع رصيدنا من جميع أنواع الخير والبر والتقوى، وهي التي سماها رسول الله صلى الله وعليه وسلم صنائع المعروف في قوله: [صَنَائِعُ الْـمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ وَالْآفَاتِ وَالْـهَلَكَاتِ، وَأَهْلُ الْـمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْـمَعْرُوفِ فِي الْآخِرَةِ].

 

https://bit.ly/3aBwbyS


ليست هناك تعليقات: