السبت، 11 أبريل 2020

النذير، فرصة جديدة

الجمعة 10 إبريل 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٤

(النذير، فرصة جديدة)

 

هذه قصةٌ يرويها أحد الشباب السعوديين، كتب يقول: كنا مجموعةً من الأصدقاء مستقلين سيارة واحدٍ منا، متوجهين من "الرياض" إلى "الدمام" لقضاء عطلة نهاية الأسبوع والاستمتاع بشاطئ البحر. في الطريق السريع مررنا بإحدى اللوحات الإرشادية على جانب الطريق؛ فقرأها أصدقائي «الدمام 300 كيلو»، فقلتُ لهم: "أنا أراها «جهنم 300 كيلو»!"، اعتبروها نكتةً وصاروا يضحكون عليها. مرَّ بعض الوقت، كلهم يتسامرون ويتضاحكون، أما أنا فقد كنتُ محتاراً ومتعجباً مما قرأته مكتوباً في اللوحة! قال أحدهم ساخراً: "هذه لوحةٌ ثانيةٌ «الدمام 200 كيلو»، كيف قرأتَها أنت؟!"، قلتُ: "أنا أراها «جهنم 200 كيلو»"، فضحكوا وقالوا: "أمجنونٌ أنت؟!" أقسمتُ لهم وقلتُ: "واللهِ العظيم إني أرى المكتوب أمامي «جهنم 200 كيلو»"!! فضحكوا مثل المرة الأولى، وقالوا: "لقد أزعجتنا"، سكتُ وأنا مقهورٌ، ورحتُ أفكر؛ فهذا بالفعل أمرٌ غريب! مع استمرار الضحك، جاءت اللوحة الثالثة، قال الشباب: "ما بقي إلا قليل.. «الدمام 100 كيلو»"، أقسمتُ لهم مرةً أخرى وقلتُ: "واللهِ الذي لا إله إلا هو إني أراها «جهنم 100 كيلو»"!! قالوا: "آذيتنا من أول السفرة!!"، قلتُ: "أنزلوني هنا أعود إلى ""الرياض!!"، قالوا: "هل أنت مجنون؟!"، قلتُ: "أنزلوني أرجع!! واللهِ لن أكمل معكم الطريق!!". عندما وجدوني مُصِرِّاً على النزول أنزلوني؛ فقطعتُ الطريق وتوجهت إلى الجانب الآخر منه، طريق العودة إلى "الرياض"!!ظللتُ واقفاً فترةً طويلةً أؤشر للسيارات عسى أن يقف لي أحدهم، تمر السيارات مسرعةً، لا أحد ينظر إليّ، كأني غير موجود!! إلى أن استجاب لإشارتي سائق سيارة نقلٍ كبيرةٍ أوقف سيارته ودعاني للركوب فركبتُ معه، كان صامتاً لا يتكلم تبدو على وجهه علامات الحزن، سألته: "لماذا تبدو حزيناً يا أخي؟ ألا تريد أن نتسامر لنقطع هذه الطريق؟ إنها طريقٌ طويلة"، قال: "اعذرني؛ فقد شاهدتُ قبل قليلٍ حادثاً، واللهِ ما رأيتُ أبشع منه في حياتي"، قلتُ متسائلاً: "عائلةٌ أم شباب؟"، قال: "شبابٌ، سيارتهم ..."، وذكر مواصفات السيارة التي يستقلها أصدقائي!! صُعقتُ وقلتُ وأنا غير مصدقٍ ما سمعتُ للتو: "أسألك بالله؟"، قال: "واللهِ العظيم هذا ما رأيتُه". فعلمتُ أن الله قد أخذ أرواح أصدقائي بعد أن نزلتُ من السيارة، وأكملوا هُم طريقهم. حمدتُ الله أن أنقذني من بينهم، ولا أدري هل هُم إلى جهنم كما كنتُ أقرأ في اللوحات الإرشادية؟! لا أتمنى ذلك؛ فهم أصدقائي، إلا أنني أعرف كيف كانت معاصيهم! غفر الله لهم.

اللهم لك الحمد؛ فقد كنتُ خرجتُ معهم من "الرياض"، وما في بالي أن أعمل طاعةً لله، ولكن الله أعطاني فرصةً أخرى، وأرسل إليّ نذيراً حتى أعود وأنضم إلى قوافل العائدين التائبين؛ فله الفضل والمنة!

 

أحبتي في الله .. يقول الله سبحانه وتعالى عن نفسه: ﴿إِنّا أَنزَلناهُ في لَيلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنذِرينَ﴾، ويقول تعالى عن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: ﴿إِن أَنتَ إِلّا نَذيرٌ﴾، ويقول تعالى عن الأنبياء والرسل: ﴿وَما نُرسِلُ المُرسَلينَ إِلّا مُبَشِّرينَ وَمُنذِرينَ﴾، كما أن مِن الصحابة رضي الله عنهم مَن كانوا ينذرون؛ يقول تعالى: ﴿وَما كانَ المُؤمِنونَ لِيَنفِروا كافَّةً فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهوا فِي الدّينِ وَلِيُنذِروا قَومَهُم إِذا رَجَعوا إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرونَ﴾، بل إن مِن المنذرين مَن هُم من غير البشر؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذ صَرَفنا إِلَيكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ يَستَمِعونَ القُرآنَ فَلَمّا حَضَروهُ قالوا أَنصِتوا فَلَمّا قُضِيَ وَلَّوا إِلى قَومِهِم مُنذِرينَ﴾. ووصف الله سبحانه وتعالى كتابه الكريم بأنه نذير؛ يقول تعالى: ﴿تَبارَكَ الَّذي نَزَّلَ الفُرقانَ عَلى عَبدِهِ لِيَكونَ لِلعالَمينَ نَذيرًا﴾، والآيات والمعجزات الربانية وصفها المولى عزَّ وجلَّ بأنها نُّذُرُ؛ يقول تعالى: ﴿وَلَقَد جاءَ آلَ فِرعَونَ النُّذُرُ﴾ وذلك حين أرسل الله إلى آل فرعون سيدنا موسى الكليم، وأيده بالآيات الباهرات، والمعجزات القاهرات.

 

وكما في القصة التي رواها الشاب كان (النذير، فرصة جديدة) له ليصلح من نفسه ويعود إلى الطريق المستقيم.

أفلا يكون وباء "كورونا" الذي يجتاح العالم هذه الأيام نذيراً للبشرية جمعاء، وفرصةً جديدةً للإصلاح؟

لِمَ لا وأقل من ذلك كثيراً يقول الناس عنه أنه نذير؟ يقول الشاعر:

أليسَ المشيبُ نذيرُ الإِلهِ؟

ومَن ذا يُسَوِّدُ وجهَ النذير

 

يقول أهل العلم إن الكوارث والمصائب نُذُرٌ تُحفِّزُ أهل النُهى للاتعاظ والاعتبار، ثم الإنابة والإخبات لله عزَّ وجلَّ. إن ڤيروس "كورونا" ليس بلاءً، وإنما هو ابتلاءٌ؛ فمن تاب وأناب، واستغفر وصبر وأخذ بأسباب الوقاية، كان له رحمةٌ، وعليه نعمةٌ وسلام، ومن أدبر واستكبر، وأصرَّ وعاند، كان له عذابٌ، وعليه نِقمة.

 

تصور بعضهم ڤيروس "كورونا" وهو يخاطب الناس فيقول: لقد أرسلني الله إليكم نذيراً مرسلاً للناس جميعاً؛ أما الكافرون فلأريهم ضعفهم وعجزهم وهُم في أوج قوتهم، حجةً من الله قائمةً عليهم، ولله الحجة البالغة، وسبحان الله ربما كنتُ سبباً في إيمانهم وعودتهم إلى الإسلام؛ الدين الذي ارتضاه الله للناس أجمعين. وأما المؤمنون فأقول لهم: أنا لستُ مرضاً لأجسادكم بل أنا دواءٌ لقلوبكم الغافلة، أنا مرسلٌ من قِبل حبيبكم وطبيبكم، أنا علاجٌ لمرض غفلتكم وبُعدكم عن الله. أنا آيةٌ من آيات الله أُرسلتُ للمؤمنين ﴿لِيَزدادوا إيمانًا مَعَ إيمانِهِم﴾، ولأصحح لهم بوصلة التوجه إلى الله؛ فلقد تعلقت القلوب بالدنيا تعلقاً صدها عن طاعة الله وعن ذكره، وأوقعها في المعاصي والفجور والغفلة، لقد حُرمتم الجمعة والجماعات، وأُغلقت المساجد، وخلا بيت الله الحرام من الطائفين والعاكفين الركع السجود، وتوقفت العمرة، ومُنع المسلمون من دخول مسجد رسول الله، وأُلغيت فريضة الحج، وكادت فريضة الصوم أن تتعطل؛ فإن لم تستفق القلوب مع كل هذا البلاء فمتى تستفيق؟! سأرحل عنكم حين يأذن مَن أرسلني إليكم نذيراً فقد جئتُ بأمره، وأغادر بأمره، فلا تكونوا من الذين ذكرهم الحق سبحانه في قوله: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ﴾.

 

قال الشاعر عن ڤيروس "كورونا":

الــمـوتُ يـحـصـدُ آلافــاً مــن الـبـشرِ

فـالأرضُ فـي هَـرَج ٍمن وطْأةِ الخَــطَرِ

خــوفُ الـمـنيَّةِ هـزَّ الـنَّاسَ أسـكرهـمْ

مـن شـدَّة الـرُّعبِ والأوهــامِ والـحَذَرِ

تــأتــي الــكــوارثُ أســتــاذا يـنـبِّـهنا

إذا ابـتـعـدنا عـــن الـتّـفـكيرِ والـنَّـظرِ

تــأتــي الــكــوارثُ آيـــاتٍ تُـحـفِّـزُنـا

نــحــو الإنــابـةِ والإخــبـاتِ والـعِـبَـرِ

إنَّ الــوبـاءَ الـــذي بــثَّ الـمـآتم فـي

كـــلِّ الـشـعـوبِ نـذيـرٌ أبــلـغُ الــنُّـذُرِ

 

وصاغ بعضهم الأمر في شكل الحوار التالي:

إذا سألوا: مِن أين جاء هذا الوباء؟ قل: ﴿هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ ‏بمعاصيكم وسيئاتكم. فإن سألوا: إلى أين المفر؟ قل: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ بالرجوع السريع إلى الله سبحانه وتعالى. وإن سألوا: وماذا نفعل؟ قل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ وذلك بالأخذ بكل طرق الوقاية الممكنة وأساليب العلاج المتاحة، ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ بالرجوع إلى الله والتوبة النصوح من جميع المعاصي والسيئات فهذا طريق الفلاح. فإذا قالوا: لقد ضاقت منا الصدور، قل: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ﴾ صبرٌ بغير ضجرٍ، ودعاءٌ وتضرعٌ إلى الله سبحانه وتعالى واستعانةٌ به، مع اليقين بأن الله يختار لنا الخير دائماً مهما بدا لنا غير ذلك؛ يقول تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾.

 

أحبتي .. لا أحد منا يدري متى نهايته، وڤيروس "كورونا" هذا الكائن الصغير الذي لا يُرى بالعين المجردة جاء لنا لينذرنا أن الموت قريبٌ منا، وهو أقرب إلينا مما نتصور، صحيحٌ أن لكل أجلٍ كتاب، وأنه لن يموت الإنسان بهذا الڤيروس أو بغيره من الأسباب إلا حينما يحين أجله، لكن الصحيح أيضاً أن علينا جميعاً أن ننتبه إلى هذا النذير فنسارع إلى التزود بما ينفعنا يوم القيامة ويرفع من قدرنا يوم الحساب، حين لا ينفع نفساً إلا إيمانها وما قدمت من عملٍ صالح. فليكن هذا (النذير، فرصة جديدة) لنا، ولنعمل على أن نلقى الله في أي وقتٍ على الطاعة والتقوى. ليس عيباً أن نخطئ، لكن العيب أن نستمر في الخطأ ونتمادى فيه؛ كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.

أحذركم أحبتي وأحذر نفسي من أن نكون من اللاعبين اللاهية قلوبهم الذين يقول الله تعالى عنهم: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ . مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ . لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾، ولنأخذ هذا النذير باهتمامٍ وجدية؛ يقول تعالى: ﴿هَٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَىٰ . أَزِفَتِ الْآزِفَةُ . لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ . أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ . وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ . وَأَنتُمْ سَامِدُونَ . فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾، فليس لنا حجةٌ عند المولى عزَّ وجلَّ؛ يقول تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾.

 

https://bit.ly/34orTbZ

 


ليست هناك تعليقات: