الجمعة، 10 يناير 2025

خُلُق الشهامة

 

خاطرة الجمعة /481

الجمعة 10 يناير 2025م

(خُلُق الشهامة)

 

يقول راوي القصة: قبل عدة سنواتٍ، قمتُ بتغيير سيارتي واشتريتُ سيارةً جديدة. كانت السيارة القديمة تُضيء مصباح البنزين بشكلٍ مبكرٍ جداً، بمعنى أنه قد يكون هناك 10 لترات من البنزين متبقيةً فيخزان السيارة، ومع ذلك يُضيء المصباح، مما يُتيح لي القيادة لأكثر من 100 كيلومتر إضافية، أما السيارة الجديدة، فكان المصباح يُضيء متأخراً، قبل 40 أو 50 كيلومتر فقط من نفاد الوقود. في أول شهرٍ بعد شرائي للسيارة، كنتُ في طريقي إلى اجتماعٍ مهمٍ جداً ومتأخراً عليه، وفجأةً أضاء مصباح البنزين. قلتُ لنفسي: "لا مشكلة، سأذهب إلى الاجتماع أولاً ومن ثمَّ أملأ الوقود". انتهى الاجتماع في الساعة الثالثة عصراً، وهو وقت ازدحام المرور بمدينة «القاهرة» بسبب انصراف الموظفين. كنتُ في الطريق، مشغولاً بتفاصيل الاجتماع ونتائجه، فجأةً، وأنا في ذُروة زحمة المرور، والسيارة تتجه نحو «كوبري أكتوبر» ذي الحارتين، نفد الوقود وتوقفت السيارة، وفي أقل من دقيقةٍ، توقف الطريق تماماً؛ فقد سددتُ حارةً من الحارتين، نظر الناس إليّ بنظراتٍ غير لطيفةٍ، مُتعجبين كيف توقفت هذه السيارة الجديدة اللامعة بهذا الشكل! المشكلة أن السيارة أوتوماتيكية، فلا يُمكن دفعها ولا يُمكن تركها واقفةً بهذا الشكل في هذا المكان.

 كنتُ واقفاً مُتحيراً لا أعلم ماذا أفعل، وخائفاً من تركها والذهاب لجلب الوقود. فجأةً، توقفت سيارةٌ قديمةٌ جداً أمامي، ونزل منها رجلٌ وسألني: "ما الأمر؟" قلتُ له: "نفد الوقود"، بدون كثيرٍ من الكلام، فتح حقيبة سيارته وأخرج حبلاً سميكاً وربطه بسيارته وسيارتي ثم قال لي: "اركب وركز معي". جرّني مسافةً طويلةً حتى وصلنا إلى إحدى محطات الوقود، لم يكتفِ بذلك، بل عرض أيضاً أن يدفع لي ثمن الوقود، ولكني طمأنته أن معي المال. بعد أن شكرته، سألته: "ألم تكن خائفاً من أن تتأذى سيارتك؟ أو يحدث شيءٌ للمحرك؟ أو تتأخر عن مواعيدك؟" رد بابتسامةٍ بسيطةٍ وقال: "أبداً، ما فكرتُ فيه هو أنه لو كنتُ مكانك كنتُ أتمنى أن أجد من يقف معي ويساعدني، وهذا هو ما قمتُ به؛ أحببتُ لك ما أحببتُ لنفسي". علمتُ منه أنه من أحد الأقاليم، ولديه شركة دعايةٍ صغيرةٍ، وجاء إلى «القاهرة» للتعاقد مع مطبعة، قلتُ له: "أنا أعرف صاحب مطبعةٍ جيدةٍ، يُمكنني أن أكلمه وأوصيه عليك"، أعطيته بياناته، وأنهينا لقاءنا بتبادل أرقام هواتفنا.

مرت سنتان، ونسيتُ الموضوع تماماً، ويوماً ما، تلقيتُ مكالمةً منه، بعد التحية قال لي: "أردتُ أن أطمئن عليك، وأخبرك أن صاحب المطبعة الذي عرَّفتني به صار شريكي، ومن مكاسب السنة الأولى فتحنا فرعاًفي «مدينتي» واشترينا ماكينة طباعةٍ جديدة، أردتُ أن أشكرك على هذا المعروف". أنهيتُ المكالمة وأنا مُندهشٌ؛ فهو يرى أن ما حدث كان معروفاً مني، ولكن الحقيقة أنه هو الذي علّمني درساً كبيراً، علّمني أن الرزق ليس مجرد حساباتٍ وأرقامٍ، الرزق الذي يأتيك دائماً يكون أعظم من الرزق الذي تسعى إليه، ما تفعله بصدقٍ وإخلاصٍ بدون انتظار مكسبٍ، هو الذي يجلب لك الخير غير المتوقع، وأن (خُلُق الشهامة) ليس كلاماً يُقال وإنما هو أفعالٌ تتسم بالمبادرة، تُقدَم للمُحتاج دون طلب.

 

أحبتي في الله.. من مواقف الشهامة التي وردت في القرآن الكريم؛ يقول تعالى عن سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَمَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ۝ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾، قال المفسرون عن هذا الموقف إن موسى تحركت فيه عوامل الشهامة، وسقى لهما، وأدلى بدلوه بين دِلاء الرجال حتى شربت ماشيتهما.

 

ولأن الشيء يُعرف بضده؛ فإن ضد صفة الشهامة، تكون صفة الخذلان. وخذلان المسلم لأخيه المسلم أمرٌ تُنكره الشريعة؛ يقول علماؤنا إنه من الصفات الذميمة التي تستجلب الذُل والهوان؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي قائِمَةً بأمرِ اللهِ، لا يَضُرُّهُم مَن خَذَلَهُم، وَلا مَن خالَفَهُم، حَتى يأتي أمْرُ اللهِ، وَهُم ظاهِرُونَ عَلى الناسِ]، "مَن خَذَلَهُم" أي: مَن ترك عَوْنَهم ونَصْرَهم. وقد حثّ النبي على نُصرة المُسلم لأخيه المُسلم؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا]، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، هذا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكيفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قالَ: [تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ] بمعنى منعه من الظلم.

 

عودةً إلى (خُلُق الشهامة) يقول أهل الاختصاص إنه خُلُقٌ عظيمٌ يُعبر عن النُبل، والإحسان، ومُساعدة الآخرين. وهو واحدٌ من الخلال الحميدة يتميز بها من يمتلك العزيمة، الكرامة، العدالة، الاستقامة، المسؤولية؛ والحرص على تقديم يد العون للآخرين في الأوقات الصعبة؛ إذ يستجيب لمبادئه وقيَمه، ويتصرف بسرعةٍ وإيجابية دون طلب. والشهامة صفةٌ من صفات الكرم والشجاعة والمروءة، تدل على الرفعة في التعامل مع الآخرين. إنها سمةٌ تعكس القوة النفسية والقدرة على اتخاذ القرارات الصائبة في اللحظات الحاسمة، كما تعني الاستعداد لمساعدة الآخرين والوقوف بجانبهم وقت الحاجة. إن الشخص الشهم هو الذي يتمتع بشجاعةٍ أخلاقيةٍ، وقدرةٍ على القيام بالتصرفات النبيلة التي تعكس روح الفروسية الحقيقية، دون انتظار مقابل.

 

ومن المواقف التي تُبين معنى ومفهوم الشهامة: مُساعدة الجيران إذا تعرض أحدهم لمشكلة، الدفاع عن الضعفاء والمظلومين ومساعدتهم للحصول على حقوقهم، والإيثار والتضحية بتقديم مصلحة الآخرين على المصلحة الشخصية. وتظهر الشهامة في المواقف التي تتطلب تدخلاً فورياً لحل مشكلةٍ أو مُساعدة شخصٍ في حاجةٍ، سواءً في الأوقات العادية أو في المواقف الطارئة، وتشمل العديد من الجوانب في الحياة اليومية؛ كما في الأوقات الصعبة كالأزمات أو الكوارث، وفي المواقف التي يكون فيها أحدٌ بحاجةٍ للمُساعدة تكون الشهامة بتقديم المساعدة سواءً كانت ماديةً أو معنويةً.

 

ومن فوائد الشهامة وآثارها على الشخص الشهم: أنه يحظى بالاحترام والتقدير من الآخرين؛ ما يؤدي إلى بناء سمعةٍ طيبةٍ له في المجتمع، وينال احترام الآخرين وتقديرهم، مما يُعزز ثقته بنفسه، ويزيد من مكانته الاجتماعية. والشهامة ومساعدة الآخرين والوقوف بجانبهم يبعث في نفس الشخص الشهم شعورا ًبالسلام الداخلي والراحة النفسية، كما أنه يجد نفسه مُحاطاً بالأصدقاء والمُحبين ويُحقق النجاح في علاقاته الاجتماعية ويُسهم في بناء جسور الثقة والتعاون بينه وبين غيره من الأفراد، كما أن مُساعدة الآخرين تجلب البركة في الرزق، وتعود بالنفع على الشخص الشهم بطرقٍ غير متوقعة.

 

أما فوائد الشهامة وآثارها على المجتمع فأهمها تعزيز التماسك الاجتماعي حيث يكون أفراد المجتمع مُتعاونين، يتعاملون بعضهم مع بعضٍ بالشهامة، مما يقوي العلاقات بينهم، ويُقلل من المشكلات الاجتماعية، ويُسهم في مكافحة الفقر بتقديم المُساعدة المادية للفقراء والمُحتاجين، وفي ذلك تعزيزٌ لقيم التعاون والاحترام المتبادل، ودعمٌ للعدالة بالدفاع عن حقوق الآخرين وشجب الظلم.

 

أحبتي.. الشهامة تقوم على الشجاعة والمُبادرة لنجدة الآخرين، والكرم لإعانة أصحاب الحاجات، والتضحية بالجهد والوقت والمال لخدمة الغير دون مقابل. والسؤال الآن هو: كيف نُربي أبناءنا على الشهامة؟ إن تربية الأبناء على الشهامة تتطلب تنمية مجموعةٍ من القيم والمهارات التي تُساعدهم على غرس وتنمية هذه الصفة في شخصياتهم؛ ويكون ذلك أولاً بأن نكون نحن قدوةً حسنةً لأبنائنا من خلال إظهار سلوك الشهامة في تصرفاتنا اليومية؛ فهم يتعلمون من أفعالنا أكثر من كلماتنا. ثم إن علينا تعليم أبنائنا قيمة العطاء ومُساعدة الآخرين سواءً بمُساندة الجيران أو التبرع بالمال أو الملابس للفقراء، مما يُعزز من (خُلُق الشهامة) لديهم، وعلينا أن نغرس فيهم مفاهيم الشجاعة والإقدام بالوقوف إلى جانب الحق والدفاع عن المظلومين. ومما يُساعد في غرس وتنمية قيمة الشهامة في نفوس أبنائنا أن نقص عليهم قصص الأبطال الشجعان والقصص التي تحكي عن شخصياتٍ تحلت بالشهامة، وأن نُشركهم في الأنشطة الاجتماعية والتطوعية والخيرية ليتعلموا كيفية تقديم المُساعدة للآخرين، ثم إن علينا أن نُشجعهم ونُكافئهم عندما يُظهرون سلوكاً شهماً، ونُحفزهم من خلال مكافآتٍ معنويةٍ وكلمات تقدير.

اللهم أعنّا على أن نكون من عبادك الذين يتسمون ب (خُلُق الشهامة)، وأن نربي أبناءنا على أن يتخلقوا بهذا الخُلُق النبيل.

https://bit.ly/40dl3mY

ليست هناك تعليقات: