الجمعة، 17 يناير 2025

عاقبة الغضب وخيمة

 

خاطرة الجمعة /482

الجمعة 17 يناير 2025م

(عاقبة الغضب وخيمة)

 

تقول إحداهن: في ذات يومٍ طلبتُ من زوجي قبل ذهابه إلى العمل أن يُحضر لي غرضاً عند عودته من العمل، ونبهتُ عليه أن لا ينسى. وعندما عاد زوجي من العمل، كانت يداه فارغتين، ولم يُحضر لي الغرض الذي طلبته منه، فانزعجتُ جداً، وزاد من غضبي أنني كنتُ قد نبهتُ عليه أن لا ينسى، لم أستطع أن أُسيطر على غضبي فقمتُ بالصراخ عليه وبدأتُ أتشاجر معه، وصار صوتي عالياً، وكلما أراه صامتاً لا يرد، كنتُ أزداد غضباً، لقد تجاهلني وكان لا ينظر إلى وجهي، وهذا ما جعلني أنفعل بشدةٍ وفي ذروة غضبي طلبتُ منه ‏الطلاق، وأصررتُ على ذلك، لكنه لم يبالِ بطلبي للطلاق، بل تركني ودخل إلى غرفة النوم، فلحقتُ به وأمسكتُه من قميصه وقلتُ له وأنا في قمة الغضب: "إن كنتَ رجلاً طلقني".  فجأةً تغيرت ملامح وجهه، وعرفتُ أن كلمتي أثَّرت فيه، لكني لم أُعطِ أي اهتمامٍ لذلك، ثم قال لي: "حسناً؛ خُذي ابنتك واذهبي إلى بيت والدك، وسوف أُرسل لكِ ورقة الطلاق". أخذتُ ابنتي الصغيرة، وذهبتُ إلى بيت أبي، وحالته المادية ضعيفةً؛ فنحن فقراء، لكنه العناد. كان معي بعض المال جمعته من مصاريفي اليومية، أنفقتها على نفسي وابنتي وعلى أهلي. بعد يومين جاء زوجي وأعطاني ورقة الطلاق في كيسٍ صغيرٍ، وذهب ولم يُعطني أية أموالٍ كنفقةٍ مُستحقةٍ لي ولابنته، شعرتُ بالغضب وأخذتُ الورقة ثم وضعتها في حقيبتي دون أن أقرأها. بعد عشرة أيام نفد المال الذي كان معي وصارت حالتنا أسوأ بكثيرٍ، لم يعد يوجد شيءٌ في المطبخ نأكله، وكنتُ حاملاً في الشهر السابع. دخلتُ إلى غُرفتي فشدني الفضول بشأن تلك الورقة، فقمتُ بإخراج الكيس الصغير من حقيبتي ثم فتحته، وكانت الصدمة أكبر مما كنتُ أتصور! لقد وجدتُ بداخله مالاً يكفي لمصاريف شهر، ثم فتحتُ الورقة فإذا هي رسالةٌ من زوجي وليست ورقة الطلاق! كتب في الرسالة: "زوجتي العزيزة كيف حالك؟ وكيف حال طفلتي؟ لقد اشتقتُ لكما كثيراً، أنا آسفٌ لأني لم أُحضر لكِ طلبكِ ليس لأني نسيتُ، بل لأني كنتُ أُرتب لكِ مُفاجأةً بأن نخرج معاً ونأكل في أحد المطاعم، ثم تشترين بنفسك كل ما تريدين، لكن عندما رأيتك منزعجةً وغاضبةً، سكتُّ، ليس خوفاً أو ضعفاً، بل كنتُ أخشى عليكِ أن تتعبي وخصوصاً أنكِ حامل، فمنعتُ نفسي من الرد على كلماتك الجارحة، ثم انسحبتُ ودخلتُ إلى غُرفة نومنا، خوفاً من أن أفقد سيطرتي وأفقد أعصابي فتشتعل النار أكثر، لكن حين قلتِ: "إن كنتَ رجلاً طلقني"، تمالكتُ أعصابي وسيطرتُ على نفسي؛ نعم أنا رجلٌ، لكن هذا لا يعني أن أُظهر رجولتي تحت تأثير غضبك وأستجيب لطلبك.. ورأيتُ أن أُعطيكِ درساً في كظم الغيظ وعدم التسرع، وأن في العجلة الندامة.. نعم عزيزتي لقد جرحني كلامك، ولكن ستبقينَ زوجتي الحبيبة، وأم أولادي، وقد وضعتُ لكِ ‏مالاً يكفيكِ لمصاريف شهر، حتى لا تحتاجين لأي شيءٍ، وإذا كنتِ تريدين أن تعودي فمرحباً بكِ، ستنورين بيتك، وإذا كنتِ ما زلتِ غاضبةً مني وتُريدين البقاء في منزل والدك، فكما تُحبين". تقول السيدة: ‏"كنتُ أقرأ الرسالة ودموعي تتساقط؛ لقد شعرتُ بالندم، وعرفتُ خطئي، ثم قمتُ على الفور أجمع وأُجهز أغراضي، ثم اتصلتُ بزوجي وأنا أبكي، واعتذرتُ له عما فعلته به، لقد قتلني بلطفهِ، وتصرفه الهادئ، لقد كنتُ أحترق وأنا أقرأ كلماته الرقيقة. بعد ساعةٍ طرق زوجي الباب وفتحتُ له، وأنا أبكي قبَّلتُ رأسه، وطلبتُ منه السماح، ثم قام زوجي بوضع مالٍ في يدي لأُعطيه لوالدي، وعُدنا إلى المنزل. منذ تلك الحادثة وحتى اليوم، لا أرفع صوتي على زوجي، ولا أطلب منه أيشيءٍ، بل كان حين يخرج يسألني: "هل تحتاجين شيئاً؟"، كنتُ أرد عليه: "لا أحتاج أي شيءٍ سوى عودتك سالماً مُعافىً". لقد تعلمتُ كيف أن (عاقبة الغضب وخيمة).

 

أحبتي في الله.. هذه القصة تُذكرني بقصةٍ أخرى مُشابهةٍ؛ امرأةٌ مُتزوجةٌ تقول: في لحظة غضبٍ قلتُ لزوجي: "يا ليتني لم أتزوجك"، توقعتُ أنه سيصرخ أو سيقوم بتعنيفي، لكنه صمت وخرج من البيت وعاد بعد ثلاث ساعاتٍ، ومنذ عودته أحسستُ أني مُتزوجةٌ برجلٍ آخر، رجلٍ ليس مثل زوجي، هذا ليس زوجي! صامتٌ، لا يتكلم، لا يناقش، لا يُجادل، لا يفرح، ولا يغضب، يقوم بواجباته المنزلية فقط. لقد مرَّت أربع سنواتٍ على هذه الحالة، وفهمتُ ما معنى أن تُخرب بيتك بكلمةٍ واحدةٍ، ومعنى أن (عاقبة الغضب وخيمة)؛ ففي لحظة غضبٍ خسرتُ نفسي وخسرتُ زوجي وخسرتُ سعادتي.

 

إنه الغضب، الذي مدح الله عزَّ وجلَّ مَن فعل عكسه بأن يغفر بدلاً من أن يغضب؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ وجعل سُبحانه ذلك من صفات المؤمنين.

هو الغضب، الذي لم يسلم منه بشر؛ فهذا سيدنا موسى عليه السلام تَمَلَّكَهُ الغضب: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا﴾، ثم سكت عنه: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ﴾. وهذا سيدنا يونس عليه السلام جعله الغضب يترك قومه لكُفرهم ويذهب عنهم: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا﴾.

هو الغضب، الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ]، ونهانا عليه الصلاة والسلام عن الغضب فقال لرجلٍ طلب منه أن يوصيه: [لا تَغْضَبْ] وَرَدَّدَ مِراراً: [لاَ تَغْضَبْ]، وأعطانا صلى الله عليه وسلم وصفةً للتخلص من الغضب؛ فقال: [إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ] وبرَّر ذلك بقوله: [إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ]. كما قال عليه الصلاة والسلام: [إذا غَضِبَ أحدُكم فلْيسكتْ]، وقال عن رجلٍ غاضبٍ: [إِنِّي لأَعْرِفُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ: أَعُوذُ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ]. وقال كذلك: [إذا غضبَ أحدُكم وهو قائمٌ فلْيجلسْ، فإن ذهبَ عنه الغضبُ وإلاَّ فلْيَضْطَجِعْ]؛ لأن القائم الواقف أكثر استعداداً للبطش والتمادي في الغضب، وأما القاعد فهو أقل حركةً وأقل استعداداً للبطش، وكذلك الراقد أو المضطجع؛ فإنه لا يقدر على ذلك. ومدح-عليه الصلاة والسلام- صفة التحكم في النفس؛ فقال: [ليسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ].

وورد في الأثر: "اتَّقوا الغضَبَ؛ فإنَّه جَمرةٌ على قلبِ ابنِ آدَمَ".

كما ورد عن الغضب واختلاف الناس في سُرعة غضبهم وسُرعة رجوعهم عنه: "منكم مَن يكونُ سَريعَ الغضَبِ، سَريعَ الفَيءِ، ومنكم مَن يكونُ بَطيءَ الغضَبِ بَطيءَ الفَيءِ، وخيارُكم مَن يكونُ بَطيءَ الغضَبِ سَريعَ الفَيءِ، وشِرارُكم مَن يكونُ سَريعَ الغضَبِ، بَطيءَ الفَيءِ".

 

وللوالدين دورٌ كبيرٌ في مُعالجة الغضب عند أبنائهما؛ فهذا أبٌ فكَّر بطريقةٍ مُبدعةٍ كيف يمنع ابنه من الغضب؛ فقد كان ابنه عصبياً يفقد صوابه كلما غضب، فأحضر له والده كيساً مملوءاً بالمسامير وقال له: "يا بُني؛ أُريدك أن تدق مسماراً في سياج حديقتنا الخشبي كلما اجتاحتك موجة غضبٍ وفقدتَ أعصابك". بدأ الولد بتنفيذ نصيحة والده فدَّق في اليوم الأول ثلاثين مسماراً، ولم يكن إدخال المسمار في السياج سهلاً؛ فقرر أن يتمالك نفسه عند الغضب. ومع مرور الأيام كان يدق مسامير أقل، وفي أسابيع قليلة تمكن من ضبط نفسه، وتوقف عن الغضب وعن دق المسامير، وأخبر والده بإنجازه؛ ففرح الأب بهذا التحول، وقال له: "عليك الآن يا بُني استخراج مسمارٍ في كل يومٍ يمر عليك لم تغضب فيه"، بدأ الولد فيخلع المسامير في الأيام التي لا يغضب فيها، حتى انتهى من خلع جميع المسامير من السياج، وأخبر والده بإنجازه مرةً أخرى، فأخذه والده إلى السياج وقال له: "أحسنتَ صُنعاً يا بُني، ولكن انظر الآن إلى تلك الثقوب في السياج، هذا السياج لن يعود كما كان أبداً"، وأضاف: "عندما تقول كلاماً جارحاً وقت الغضب فإنه يترك آثاراً في نفوس الآخرين مثل هذه الثقوب، تظل موجودةً مهما اعتذرتَ، فلا تغضب".

 

وعن معنى أن (عاقبة الغضب وخيمة) قيل:

من أطاع غضبه أضاع أدبه.

أول الغضب جنونٌ وآخره ندم.

الغضب هو جنونٌ مؤقت.

 

وقال الشاعر:

وَلَمْ أَرَ فَضْلاً تَمَّ إِلّا بِشيمَةٍ

وَلَمْ أَرَ عَقْلاً صَحَّ إِلّا عَلى أَدَبِ

وَلَمْ أَرَ في الأَعْداءِ حينَ خَبَرْتُهُم

عَدُوّاً لِعَقْلِ المَرْءِ أَعْدَى مِنَ الغَضَبِ

 

أحبتي..  من منا لا يغضب؟ لا أحد؛ كلنا نغضب، فإن كان غضبنا إيجابياً غيرةً على الدين، أو نُصرةً لمظلوم، أو إظهاراً لحقٍ فهذا غضبٌ محمود.

أما إن كان غضبنا سلبياً، نفقد فيه أعصابنا في علاقاتنا الخاصة، فنؤذي الغير بأقوالنا أو أفعالنا، ثم نندم وقت لا ينفع الندم، ونكتشف بعد فوات الأوان أن (عاقبة الغضب وخيمة)، فعلينا أن نلتزم بما ورد في سُنة النبي عليه الصلاة والسلام كعلاجٍ للغضب. كما أن علينا أن نُدرّب أنفسنا وأبناءنا على ‏فضيلة كظم الغيظ وأن نحث أحباءنا على ذلك؛ فهي من صفات المُحسنين الذين يُحبهم الله؛ يقول تعالى: ‏‏﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.

اللهم اجعلنا ممن يملكون أنفسهم وقت الغضب، ويسِّر لنا القدرة على كظم الغيظ، وحبِّب إلى نفوسنا العفو والصفح والتسامح.

 

https://bit.ly/3ClcX3y

 

ليست هناك تعليقات: