الجمعة، 14 فبراير 2025

شر الغفلة

 

خاطرة الجمعة /486

الجمعة 14 فبراير 2025م

(شر الغفلة)

            

سَمِعَت الأُم اضطراباً في بطنها، تلاه ضربٌ مؤلمٌ.. ذهبت إلى الطبيب فزَّف لها البُشرى بأنها حاملٌ في ولدٍ، لم تسع الأرضُ الأُمَ من الفرح، سجدت لله شاكرةً، حمدته بلسانها وجوارحها، رفعت يديها إليه؛ ناجته قائلةً: "اللهم لك الحمد والشكر، اللهم اجعله قرة عينٍ لي ولأبيه". بدأ الجنين بالمعافسة في بطن أُمه.. يتحرك هنا وهناك بكل فرحٍ وحُبورٍ لأنه خارجٌ إلى حياةٍ رحبةٍ، ظاناً أن الدنيا مع سعتها أسعدُ من بطن الأُم مع ضيقه! أما أُمه؛ فعَينها امتزجت بدمع الألم والأمل، والفرح والحُزن، والدمع الحار والبارد.. ألم الحمل وأمل الذرية، فرح الأولاد وحُزن الولادة، دمعها الحار خوفاً عليه من مس السوء، ودمعها البارد لأنه خُيل إليها نجاحه فلا تراه إلا رجلاً يُضرَب به المثل، سنداً للظهر، وعصىً يُتوكأ عليها. جاء اليوم المشهود، وفرِح الوالدُ بالمولود، وخرج الطفل يتنسم عبير الدنيا ويأخذ نفساً عميقاً يَروِي عظمَه الطرِيَّ الغَضَّ.

شبَّ قرنُ الطفل، وبدا مسيرُ الطريق مُخالفاً لما عوّلت عليه أُمه، حلمت أن يُصبح رجلاً صالحاً فأمسى طالحاً، يرى نورَ الطريق فيحيد عنه، وظُلمةَ الشِّعب فيأوي إليه. صار الشاب صاحب العضلات المفتولة والنظارة السوداء، يركب رأسَه ويُخالف الناس، ويمشي مع هواه، يسمع نداء الأذان فلا يُلبي، ويرى الناس تؤم بيت الله وهو صادٍ عنه، أعجبته نفسه، وغرَّته الأماني، وظن أن سعادته فيما يفعل.. ضيَّع نفسه ووقته، وبينما هو يمشي في حَمأة اللهو أصابته حُمَّى شديدةٌ فطرحته للفراش صريعاً، ذهب إلى الطبيب فحذّره وأنذره من اتخاذ الخليلات وشُرب المُسكرات، وليته سمع فوعى؛ فمع كرِّ الليالي وفرِّها، وإقبال الأيام وإدبارها، حان موعد الرحيل، اعترى الشاب ضعفٌ في جسده، تنمّلت أطرافه، خارت قواه، نادى: "أُمّاه أُمّاه".. لبّت النداءَ أُمه تهرول وتقول: "ولدي حبيبي؛ هل أصابك من ضرر؟" ضمته إلى صدرها، نضحت وجهَه بالماء، إلا أن ابنها كان يُصارع شيئاً لا يُشبه المرض، كان بصره شاخصاً إلى السماء؛ كأنه يرتقب ضيفاً مُفزعاً، وبعد شدة هَوْلٍ جاءه الضيف، جاءه ما كان يفر منه، جاءه الموت؛ نزع منه الروح نزعاً شديداً غليظاً كأنه اقتلع جسده كله، وهو يُصارخ ويضطرب، ولا منجى من الموت، قد حان ما كان يحذره. أراد الكلام لكن لم يستطع، كان يُريد القول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾. ذهب مَلَك الموت وترك جسد الشاب المُسجى جثةً هامدةً ساكنةً لا حِراك فيها. كان الشاب تاركاً للصلاة، مُجانباً للطاعات، بعيداً عن أعمال الخير؛ فتحرج أهله من الصلاة عليه، ولم يجدوا بُداً من أن يُلقوه في المقبرة رمياً، كأنه متاعٌ قد استُغني عنه، حملوه على أكتافهم، وهو يسمع قرع نعالهم.

يقول راوي القصة: كأني بهذا الشاب يُنادي فيقول: "أين تذهبون؟ أنا ابنكم وقريبكم، دعوني أُصلي لله ركعاتٍ لعله يغفر لي خطيئتي؛ لقد ضربتُ فلاناً، وشتمتُ فلاناً، وأخطأتُ في حق فلانٍ، أُريد المغفرة منهم"، لكن لا يسمع نداءَه إلا ربُه. اقترب من الحُفرة التي ستكون له مأوىً ومصيراً، رأى سورَ المقبرة كأنه قيدٌ في العُنق يقطع الوريد ويشد الوثاق! رأى المقابر كأنها غابةٌ موحشةٌ لا يأنس بها أحد، كل شيءٍ فيها ذابلٌ حتى النبات، والشجر. كل شيءٍ تبدَّل؛ فقد كان له اسمٌ، أما الآن فهُم يقولون أين "الميت؟"، ويقولون: "ضَعُوا الجنازة". يا الله! ما أكثر ما خُدِع ببريق الدنيا، ثم لم تُمهله حتى رُمِي في حومة الردى.. أنزلوا رأسه أولاً إلى هذه الحفرة الضيقة. يقول الراوي: كأني به يرى ظلاماً عميقاً وقَعراً مُخيفاً فأراد أن يُمسك بيد من يدفنه ليقول: "ناشدتك الله إلا تركتني.. دعني وشأني"، لكن الموت لا يُفيد معه توسلٌ ولا رجاء! استقر الشاب في ظُلمة القبر وأُهيل التراب عليه، ثم وضعوا لبِنةً عليه، ثم أهالوا التراب مرةً أخرى، وما إن فرغوا من توسيده التراب حتى ضربوا أيديهم كفاً على كفٍ يُنفضون الغبار، ثم تفرقوا إلا هو بقي وحيداً، لا يملك من أمر نفسه شيئاً؛ فوقه ترابٌ، وتحته ترابٌ، وعن يمينه ترابٌ، وعن شِماله ترابٌ، فراشه ولِحافه التراب. أين فراشه الناعم؟ أين الديباج والحرير؟ أين الهناء ورغد العيش؟ أين الطعام والشراب؟ أين فلانٌ وفلانةٌ في كل ليلةٍ كان له معهم صولاتٌ وجولاتٌ، يقطعون الوقت بالحديث الماتع، والغناء الماجن، والكلام المؤنس، أين هُم الآن؟ لماذا تخَّلوا عنه وتركوه وحيداً في وقت احتياجه لهم؟!

يقول الراوي: حينذاك يتحقق ما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [تُعادُ روحُهُ في جسدِهِ، ويأتيهِ ملَكانِ فيُجلسانِهِ فيقولانِ له: مَن ربُّك؟ فيقولُ: هاه هاه لا أدري. قال: فيقولان له: ما دِينُك؟ فيقولُ: هاه هاه لا أدري. قال: فيقولان له: ما هذا الرَّجلُ الَّذي بُعِث فيكم؟ فيقولُ: هاه هاه لا أدري، فيُنادي مُنادٍ مِن السَّماءِ: أن كَذِب فأفرِشوه من النَّارِ، وافتَحوا له بابًا إلى النَّارِ، فيأتيه من حَرِّها وسَمومِها، ويُضيَّقُ عليه قبرُه حتَّى تختلِفَ فيه أضلاعُه، ويأتيه رجلٌ قبيحُ الوجهِ، قبيحُ الثِّيابِ مُنتِنُ الرِّيحِ فيقولُ: أبشِرْ بالَّذي يسوءُك، هذا يومُك الَّذي كنتَ تُوعدُ؛ فيقولُ: من أنتَ فوجهُك الوجهُ القبيحُ يجيءُ بالشَّرِّ؟ فيقولُ: أنا عملُك الخبيثُ، فيقولُ: ربِّ لا تُقِمِ السَّاعةَ].

 

أحبتي في الله.. إنه والعياذ بالله التعلق بالدنيا، والانشغال بها، وعدم الاهتمام بالآخرة التي إليها معادنا. هو (شر الغفلة) الذي لو استمر مع الإنسان حتى الموت، حينئذٍ يكون الخُسران المُبين، في وقتٍ لا ينفع معه ندمٌ، ولا تُفيد فيه حسرةٌ؛ يقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، ويقول المُفسرون لهاتين الآيتين: يُخبر الله سُبحانه وتعالى عن حال من حضره الموت من المُفرِّطين، أنه يندم في تلك الحال؛ إذ يرى مآله، ويُشاهد قُبح أعماله، فيطلب الرجعة إلى الدنيا، لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها، وإنما ليعمل عملاً صالحاً؛ يقول: ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ فيكون الرد حاسماً: ﴿كَلَّا﴾ أي: لا رجعة له ولا إمهال، قد قضى الله أنهم إليها -أي: إلى الدنيا- لا يرجعون، و﴿إِنَّهَا﴾ أي: مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا ﴿كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾ أي: مُجرد قولٍ باللسان، لا يُفيد صاحبه إلا الحسرة والندم، وهو أيضاً غير صادقٍ في ذلك، فإنه لو رُدَّ إلى الدنيا لعاد لما نُهي عنه؛ يقول تعالى: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أي: مِن أمامهم وبين أيديهم حاجزٌ بين الدنيا والآخرة، وفي هذا البرزخ، يتنعم المُطيعون، أما العاصون الغافلون فيُعذَبون من موتهم إلى يوم يُبعثون وهذا هو (شر الغفلة).

وفي معنى هذه الآية وردت آياتٌ كثيرةٌ، منها قوله تبارك وتعالى: ﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾.

 

ومَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرٍ دُفن حديثاً، فقال: [رَكْعتانِ خَفيفتانِ بِما تَحقِرُونَ وتَنفِلُونَ يَزيدُهما هذا في عملِهِ أحَبُّ إليه من بقيَّةِ دُنياكُمْ]. يقول شُرَّاح الأحاديث: عندما يموت الإنسان يُدرك قيمة الأشياء على حقيقتها، فيُدرك أن الأعمال الصالحة التي تزيد ثوابه خيرٌ له من متاع الدنيا كله. وفي هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ركعتان خفيفتان"، يعني: قليلتان في القراءة والأذكار، "مما تحقرون"، أي: تستقلون أجرهما، "وتنفلون"، أي: تُصلونهما تطوعاً لله، "يزيدهما هذا في عمله" وكأنه يُشير إلى قبرٍ قد دُفن حديثاً، والمُراد به: الميت الذي في القبر، "أحب إليه"، وهذا يحتمل أن يكون المعنى: أن أجر الركعتين أحب إلى الميت من الدنيا، ويحتمل أن الضمير لله تعالى، وأنه يُحب ما يأتيه العبد من الطاعات، وأنه أفضل لديه من إنفاق الدنيا، "من بقية دنياكم"، يعني: مما بقي في عمرها؛ وذلك لأن قيمة الركعتين في الآخرة، خيرٌ من التمتع بمُتع الدنيا كلها، وأحب إلى الله من المعاصي. وفي الحديث بيان قيمة الطاعات وإن قَلَّت في الدنيا، وعِظَم أجرها في الآخرة.

 

أحبتي.. هلّا أفاق من غيبوبته من كان منا غافلاً عن حقيقة أن الحياة الدنيا مزرعةٌ للآخرة؟ وأنه إذا حرص على أن تكون الجنة هي ثمرة عمله في الدنيا؛ فعليه أن يهتم بزراعة دنياه بالإيمان الصادق، والعمل الصالح؟ ولا يكون ذلك إلا بالتمسك بكتاب الله وسُنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، فَهْماً وتدبراً وعملاً، هذا هو طريق الجنة؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [ألا إن سلعةَ اللهِ غاليةٌ؛ ألا إن سلعةَ اللهِ الجنةُ]، والله الذي لا إله إلا هو إن رسولنا لصادقٌ، وإن الدين لواقعٌ، وإن الرجوع إلى الله ليقينٌ، وإن الحساب لقائمٌ، وإن المآل إما إلى جنةٍ أو إلى نارٍ؛ ولنا الخيار؛ يقول تعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾؛ فليكن خيارنا كلنا جميعاً الجنة؛ فنُقدِّم لها كل [ما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ ] ولنجتهد ولا تفتر عزائمنا؛ فالجنة والخلود فيها هدفنا ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.

اللهم قِنا (شر الغفلة)، وحَبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، وخُذ بيدنا إلى سواء السبيل، سبيل الحق واليقين، وإذا ضَعُفْنا فَرُدَّنا إليك رداً جميلاً، واغفر لنا وارحمنا وأنتَ خير الراحمين.

https://bit.ly/3X3VVOO

ليست هناك تعليقات: