الجمعة 31 يناير 2025م
(فضل الصلاة
على النبي)
عند خروجهما من المسجد بعد صلاة الفجر ألقى على جاره السلام فلم يرد عليه؛
فاستغرب وقال فينفسه: "لماذا لم يرد عليّ السلام رغم قوة العلاقة
بيننا؟"، لكنه استدرك حين رأى وجه
جاره يشي بأنه مهمومٌ مشغول البال، وسرحان؛ فاقترب منه وسأله: "خير إن شاء
الله؛ ما الأمر؟!"، فقال: "صاحب العمارة طلب مني أن أُغادر الشقة لعدم
دفعي للإيجار، وأنا والله لا أملك المال"، فقال له جاره: "سأسعى لتدبر
الأمر إن شاء الله". يقول هذا الجار: قبل صلاة العصر بخمس دقائق جاءني هاجسٌ
بأن أذهب للصلاة في مسجد "عُكاشة بن محصن"، وهو يقع في حارةٍ ليست
ببعيدةٍ عنا، ولا أدري لماذا جاءني هذا الهاجس! صلينا وبعد أن انتهينا من صلاتنا،
وهممنا بالخروج إذا بصديقٍ لي لم أره منذ مُدةٍ طويلةٍ فسلمتُ عليه، أخبرني بأنه
يسكن في مكانٍ بعيدٍ، لكنه كان مدعواً على طعام الغداء عند قريبٍ له يسكن في هذه
المنطقة فقرر أن يُصلي في هذا المسجد! وخلال الحوار بينهما إذا بذاك الصديق الذي
التقاه بغير ترتيبٍ يسأل صاحبنا -ودون أية مناسبة-: "هل تعرف أسرةً فقيرةً لا
تجد مأوىً لها؟"، فقال صاحبنا: "ولماذا تسأل؟!"، فقال: "أنا
مسؤولٌ عن وقفٍ صغيرٍ نذره صاحبه لله تعالى، وفيه عشرون شقةً، بالأمس خرج أحد
الساكنين بسبب تحسن ظروفه المادية؛ فقرر أن يُتيح المكان لمن هو أَحْوَج
منه"، فصرخ صديقنا: "عندي عندي عندي.. أعطني رقم هاتفك، وإياك ثم إياك
أن تتصرف به"، فقال الصديق: "لا عليك.. اعتبره تحت تصرفك.. وعموماً.. من
ستأتي به لن يدفع مليماً واحداً وإلى الأبد؛ لأنه وقفٌ لله".
يقول صديقنا: "خلال عودتي
لحارتنا مُتجهاً لأُبشِّر جاري، بدأتُ أُفكر في سيْر الأحداث العجيبة؛ بدايةً من
لقائي معه بعد صلاة الفجر ثم معرفتي بحالته عندما سألته عن حاله.. وكيف أنني
توجهتُ لأداء صلاة العصر في مسجدٍ لم أُصَلِ فيه في حياتي، في حارةٍ لم أزرها منذ
سنين لألتقي قدراً بصديقٍ لم أره منذ عشر سنواتٍ -بل ولا حتى أحتفظ برقم هاتفه-
ليُخبرني أن لديه شقةً مُتاحةً لأسرةٍ فقيرةٍ؛ إذاً لابد وأن صاحبنا له كرامةٌ عند
ربه أو خبيئةٌ كبيرةٌ أو أنه عمل عملاً عظيماً فرَّج الله به كربته.
عندما وصل صاحبنا إلى حارته انطلق نحو بيت جاره الفقير فبشره؛ وإذا به يبكي
من شدة الفرح.. بل إنه جلس على الأرض إذ لم تحمله قدماه؛ فسأله صاحبنا: "ما
الذي فعلتَه منذ أن تركتُك بعد صلاة الفجر حتى الآن؟!"، فقال الجار الفقير:
"واللهِ لم أفعل شيئاً.. ولكن عند عودتي من صلاة الفجر رأتني زوجتي مهموماً؛
فاقترحت عليّ أن نعكف سوياً على الصلاة على النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم،
ودون توقفٍ حتى غياب الشمس على نية أن يُفرِّج الله سُبحانه وتعالى علينا.. وها
أنتَ الآن تأتيني بالخبر السعيد، وصدقني لم نفعل شيئاً غير الصلاة على النبي محمدٍ
صلى الله عليه وسلم".
يقول راوي القصة: القصة حقيقيةٌ، وقد وقفتُ عليها بنفسي وأعرف أطرافها
معرفةً جيدةً. إنه (فضل الصلاة على النبي) وتاللهِ يا قوم؛ ما ذلَّ ولا زلَّ ولا
قلَّ مَن على محمدٍ صلَّى.
أحبتي في الله.. أمَر الله سُبحانه في كتابه العزيز عباده المؤمنين بالصلاة
على نبيه وصفوته من خلقه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقال جلَّ ثناؤه: ﴿إِنَّ
اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾، والصلاة من الله رحمته
ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن الأمة الدعاء والتعظيم لأمره. ويقول
تعالى: ﴿لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ
وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾، ومعنى توقير النبي تشريفه وتكريمه وتعظيمه،
والصلاة عليه من أعظم أنواع التوقير والتشريف له.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [رَغِم أنْفُ رجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ
فَلَمْ يُصَلِّ علَيَّ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [البخيلُ مَن ذُكرت عِندَه
فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَا مِن أَحَدٍ يُسَلِّمُ
عَلَيَّ إِلا رَدَّ اللهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيهِ السَّلَامَ].
وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللهَ وَكَّل بقَبْري مَلَكًا أعطاه أسماعَ
الخلائقِ فلا يُصَلِّي عليَّ أحَدٌ إلى يومِ القيامةِ إلَّا أبلَغَني باسمِه واسمِ
أبيه؛ هذا فلانُ بنُ فلانٍ قد صلَّى عليك]. وقال صلى الله عليه وسلم: [أَكثِروا
الصَّلاةَ عليَّ يومَ الجمعةِ وليلةَ الجمعةِ فمن صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللَّهُ
عليْهِ عشرًا]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ أولى النَّاسِ بي يَومَ القيامةِ
أَكْثرُهُم عليَّ صلاةً]. وقال صلى الله عليه وسلم: [صلُّوا عليَّ وسَلِّمُوا،
فإنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حيثُمَّا كنتُمْ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن
ذُكرتُ عِندَه فَنَسِيَ الصَّلاةَ عليَّ؛ خَطِىءَ طَريقَ الجنَّةِ].
يقول العُلماء إن (فضل الصلاة على النبي) صلى الله عليه وسلم كبيرٌ وواسعٌ
وشاملٌ، يتضمن طاعةً لله وامتثالاً لأمره؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ
وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، فينال المسلم أجر وثواب طاعة الله
سبحانه، ويقتدي به في الصلاة على النبي، كما أن في الصلاة على النبي تعظيماً له
صلى الله عليه وسلم، وتكميلاً للإيمان، وزيادةً في الحسنات، وتكفيراً للسيئات.
والصلاة على النبي من أعظم أنواع الذِكر والعبادة لله، ولو لم يكن للذِكر إلا هذا
الفضل لكفى به شرفاً. والصلاة على النبي سببٌ في استجابة الدُعاء ومغفرة الذنوب
والتخلُص من الهُموم؛ فقد قال أحد الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه
وسلم: أَجْعَلُ ثُلُثَ صَلاتِي عليكَ؟ قال: [نَعَمْ إنْ شِئْتَ]، قال:
الثُّلُثَيْنِ؟ قال: [نَعَمْ]، قال: فَصَلاتِي كلَّها؟ قال رسولُ اللهِ: [إذا
يَكْفيكَ اللهُ ما أَهَمَّكَ من أَمْرِ دُنْياكَ وآخِرَتِكَ] في هذا الحديث سأل
الرجل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقدار الذي يأمره به للصلاة عليه في دعائه:
هل يجعل ثلث دعائه أو ثلثيه؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأن الزيادة في
الصلاة عليه خيرٌ لهو أفضل، حتى قال الرجل: "فصلاتي كلها؟"، أي: أصرف
دعائي لك بالصلاة من الله جميع الزمن الذي كنتُ أدعو فيه لنفسي، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إذا يكفيك الله ما أهمك، من أمر دنياك وآخرتك"،
أي: إذا صرفتَ جميع زمن دعائك في الصلاة عليّ كُفيت ما يهمك من أمر دينك ودنياك؛
ويُنجز لك كل أمورك؛ وذلك لأن الصلاة عليه مشتملةٌ على ذِكر الله، وتعظيم الرسول
صلى الله عليه وسلم، واشتغال المرء بأداء حق النبي صلى الله عليه وسلم عن أداء
مقاصد نفسه.
والصلاة على النبي علامةٌ من علامات الإيمان؛ لحديث النبي عليه الصلاة
والسلام: [لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُم حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن والِدِهِ
ووَلَدِهِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ]، والمحبّة المُطلقة للنبي تكون باتّباع بكل ما
أمر به، والابتعاد عن كُلّ ما نهى عنه. وقد بينت العديد من الأحاديث عِظم الصلاة
على النبي؛ ومنها ما يحفّز المُسلم على الإكثار من الصلاة على النبي، ويكون سبباً
في صلاة الله على من يُصلّي على النبي ورفع الدرجات في الجنة يوم القيامة؛ لقول
النبي عليه الصلاة والسلام: [مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى اللَّهُ عليهِ
عشرَ صلواتٍ، وحُطَّت عنهُ عَشرُ خطيئاتٍ، ورُفِعَت لَهُ عشرُ درجاتٍ]، فالسعيد من
لازم الصلاة على النبي. والصلاة على النبي بمثابة رد الجميل له، وحقٌ من حقوقه على
أمّته مُقابل الخير العظيم الذي قدّمه لهم، وسببٌ من أسباب إجابة الدعاء عند ختمه
بالصلاة على النبي. كما أنه سببٌ في نيل شفاعة النبي يوم القيامة، وتُزكّي النفس
وتُطهّرها، وينال المصلي على النبي البركة في عمله، والرحمة من الله، وتنفي الحسرة
والندامة عن المجلس الذي يُصلَى فيه على النبي.
وقد جاءت أحاديث كثيرةٌ في (فضل الصلاة على النبي)؛ يقول صلى الله عليه
وسلم: [صَلُّوا عَلَيَّ، فإنَّه مَن صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عليه
بها عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الوَسِيلَةَ، فإنَّها مَنْزِلَةٌ في
الجَنَّةِ، لا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدٍ مِن عِبادِ اللهِ، وأَرْجُو أنْ أكُونَ
أنا هُوَ، فمَن سَأَلَ لي الوَسِيلَةَ حَلَّتْ له الشَّفاعَةُ]. ويقول: [جاءني
جبريلُ فقالَ: أما يُرضيكَ يا محمَّدُ أن لاَ يُصلِّي عليْكَ أحدٌ من أمَّتِكَ
إلاَّ صلَّيتُ عليْهِ عشرًا، ولاَ يُسلِّمَ عليْكَ أحدٌ من أمَّتِكَ إلاَّ سلَّمتُ
عليْهِ عشرًا].
والصلاة على النبي ينبغي قولها قبل الدعاء وبعد حمد الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله
صلى الله عليه وسلم: [إذا صلَّى أحدُكُم فليَبدَأ بتَمجيدِ ربِّهِ جلَّ وعزَّ
والثَّناءِ علَيهِ، ثمَّ يصلِّي علَى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، ثمَّ
يَدعو بَعدُ بما شاءَ]، بمعنى: إذا أراد أحدكم أنْ يَدْعُوَ، فلْيَبدَأْ دُعاءَه
بتَمْجيدِ ربه أي: بتعظيمِ ربِّهِ جَلَّ وعَزَّ والثَّناءِ عليه بما هو أَهْلُه،
ثُمَّ يُصلِّي على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ يَدْعو بَعْدُ، أي:
بَعْدَ ذلك بما شاء مِن خيرِ الدُّنيا والآخِرَةِ.
وأكمل الصيغ للصلاة على النبي هي ما أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم:
[اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ
عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ،
وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ].
وفي إشارةٍ إلى (فضل الصلاة على النبي) يقول الشاعر:
يا مَنْ شَكَوَتَ تَعاسَةً وهُموما
ورَجَوْتَ مِنْ بَعْدِ الشَقاءِ نَعيما
اللهُ يَكْفي هَمَّ مَنْ صَلوا عَلَى
طِبِّ القُلوبِ وسَلَّموا تَسْليما
وقال غيره:
صَلّوا عَلَى المَبْعُوثِ فينا رَحْمَةً
تُكْتَبْ لَكُمْ عَشْراً لَدى الرَحْمَن
صلَّىَ عَلَيْكَ اللهُ يا خَيْرَ الوَرى
ما ضَجَّت الآفاقُ بالأَذان
وقال ثالثٌ:
يا شاكيًا ضيقَ الحَياةِ وهَمَّها
هَلْ تَرْتجي لِلْهَمِّ أنْ يَتَبَدَّدا
إنَّ الدَواءَ بِكَلِمَةٍ لَوْ قُلْتَها
لَمَا استَطاعَ الهَمُّ أنْ يَتَمَرَدا
اجْعَل لِسانَك دائمًا يَشْدو بِها
وهيَ الصَلاةُ عَلَى النَبيِّ مُحَمْدًا
أحبتي.. الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست مجرد كلماتٍ تُقال، بل
هي عبادةٌ تُصلِح القلب، وتُعلي المنزلة، وتُوثق الصلة بالحبيب المصطفى، وهي من
أعظم العبادات وأجلِّ القُربات فهي تجمع بين طاعة الله تعالى وحُبِّ الرسول صلى
الله عليه وسلم. فلنجعل ألسنتنا رطبةً دائماً بالصلاة والسلام على نبينا الكريم
خاصةً عند ذِكره صلى الله عليه وسلم، ويوم الجمعة وليلتها، وعند كل دعاء، وفي
بداية مجالسنا وختامها.
اللهم تقبل منا، وثقِّل بصلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم موازين
حسناتنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق