الجمعة، 29 نوفمبر 2024

عزة النفس

 

خاطرة الجمعة /475

الجمعة 29 نوفمبر 2024م

(عزة النفس)

 

يقول أحد بائعي الخضار والفاكهة: قبل فترةٍ قصيرةٍ كانت سيدةٌ تأتي كل يومين تسألني عن سعر الموز فأجيبها وتمشي دون أن تشتري، فقلتُ لنفسي ذات يومٍ بعدما ذهبت لابد وأنها ليس معها المال الكافي لتشتري، ونويتُ عندما تأتي في المرة التالية أن أُعطيها كيلوين من الموز من دون أن آخذ منها ليرةً واحدةً. أتت السيدة فعلاً، وكالعادة سألتني عن سعر الموز؛ فأجبتها: "اليوم مجاناً، وهذان كيلوان هديةً مني لكِ"، رفضت ولم تأخذهم، حاولتُ معها بكل الطُرق، لكنها أصرت على الرفض وقالت إنها ليست بحاجةٍ وإن غيرها أولى منها، وشكرتني وغادرت. غابت بعدها لمدة أُسبوعٍ ثم عادت وسألتني نفس السؤال، وأجبتها، وقلتُ في نفسي بالتأكيد ستشتري هذه المرة، إلا أنها فعلت مثل ما تفعل كل مرةٍ؛ شكرتني وذهبت.

هنا قررتُ أن أعرف ما هي قصة هذه السيدة؛ فقمتُ بتتبعها من بعيدٍ دون أن تشعر، رأيتها توقفت عند باب مدرسةٍ وكأنها تنتظر أحداً. خرج من المدرسة ولدٌ صغير يبدو أنه ابنها، اقتربتُ منهما مع حرصي الشديد ألا تشعر بي، سمعتُ ابنها يقول لها ما جعلني أبكي؛ سمعته يقول: "أُمي هل جلبتِ الموز الذي وعدتيني بهِ منذ أُسبوعين؟"، قالت لهُ: "ما جمعته من النقود لا يكفي يا ابني إلا حق طعامٍ؛ فإذا اشتريتُ لك الموز سينام إخوتك جائعين بلا عشاءٍ، وكل يومٍ أسأل عن سعره علَّه يكون أرخص، لكني أوعدك سأشتريه لك هذا الأسبوع، لا تقلق". هنا بكيتُ من (عزة النفس) التي أظهرتها تلك المرأة؛ لأنني عرضتُ عليها أن تأخذ الموز دون مقابلٍ لكنها رفضت، وقالت إن غيرها أحوج منها، مع أنها يبدو عليها أنها أحوجُ الناس. سألتُ عنها اتضح أن زوجها مات منذ سنواتٍ بعد مرضه، وهي تعمل لتُعيل أُسرتها. قررتُ أن أستدل على بيتها، فعلمتُ أين تُقيم، وفي كل أُسبوعٍ أضع لهم على باب بيتهم ما لذَّ وطاب من الفواكه لوجه الله تعالى، وأطمئن أنها تأخذها، وهي للآن لا تعرف من يضع لها هذه الفواكه.

لا أُخفي عليكم أنني منذ أن بدأتُ القيام بهذا العمل ورزقي يزداد وألمس الخير والبركة في عملي ولله الحمد.

 

أحبتي في الله.. عن (عزة النفس) يقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، وفي معنى الآية: ﴿أُحْصِرُوا﴾ حبسهم الجهاد عن التصرف، ﴿ضَرْبًا﴾ ذهاباً وسيراً للتكسّب، ﴿التَّعَفُّفِ﴾ التّنزّه عن السؤال، ﴿بِسِيمَاهُمْ﴾ بهيأتهم الدالّة على الفاقة والحاجة، ﴿إِلْحَافًا﴾ إلحاحاً في السؤال. يقول المفسرون إن بالآية صورةً تستحثُّ المشاعر، وتُحرِّك القلوب والضمائر، لإدراك نفوسٍ عزيزةٍ كريمةٍ، تأبى الهوانَ وتأنف السؤال، مع عظم الحاجة وشدَّة الفاقة. تعفَّفَ قومٌ فأوصى الله بهم خيراً، وألحفَ آخرون فوُكِلوا إلى مسألتهم. ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ﴾ تعرف فقرهم وحاجتهم بما ترى في هيئتهم من آثارٍ تشهد بقلة ذات يدهم؛ أي بأثر الجهد من الفقر والحاجة، بصُفرة وجوههم ورثاثة ثيابهم. يظنهم الجاهل بحالهم أغنياء من أجل تعففهم عن السؤال؛ فأصحاب الأنظار التي تأخذ الأمور بمظاهرها يظنونهم أغنياء، أما أصحاب البصيرة المستنيرة، والحِس المُرهف، والفراسة الصائبة، فإنهم يُدركون ما عليه أولئك القوم من احتياجٍ، وورد في الأثر: "اتَّقُوا فِراسةَ المؤمنِ فإنه ينظرُ بنورِ اللهِ". إنهم ﴿لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً﴾؛ والإلحاف هو الإلحاح بأن لا يُفارق السائل المسئول إلا بشيءٍ يُعطاه منه.

 

وعن (عزة النفس) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللهَ يحبُّ الغَنيَّ الحليمَ المُتَعففَ، ويبغضُ البذيءَ الفاجرَ السَّائلَ الملحَ]. ويقول: [ما يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حتَّى يَأْتِيَ يَومَ القِيَامَةِ ليسَ في وجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ]. كما يقول: [ليسَ المِسْكِينُ الذي يَطُوفُ علَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتَانِ، والتَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ، ولَكِنِ المِسْكِينُ الذي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، ولَا يُفْطَنُ به، فيُتَصَدَّقُ عليه، ولَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ]، وفي هذا الحديث يُبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المسكين المُستحق للصدقة والزكاة ليس هو من يسأل الناس ويرده ويكفيه ما يناله من اللقمة أو اللقمتين، وإنما المسكين كامل المسكنة هو من لا يجد ما يكفي حاجته بأكملها؛ فقد يكون عنده مالٌ لكنه لا يكفيه، ويتعفف عن المسألة، ويمنعه الحياء أن يُخبر الناس بحاله، ولا يسأل الناس إلحافاً؛ باللجاج في المسألة والإلحاح فيها.

 

ونُسب إلى حكيمٍ -قيل إنه سيدنا عليّ رضي الله عنه- قوله: "والله والله مرتين، لَحفرُ بئرين بإبرتين، وكنسُ أرض الحجاز في يوم عاصفٍ بريشتين، وحَملُ ثورين باليدين، ونزعُ طودين شامخين، وغسلُ عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين، ونقلُ بحرين زاخرين بمنخلين، أهونُ عليّ من طلب حاجةٍ من لئيمٍ لوفاء ديْن، ولا وقوفي على بابٍ يضيع فيه ماء العين".

 

ويُقال إن (عزة النفس) هي الارتفاع عن مواضع الإهانة؛ فعزيز النفس لا يسمح لأحدٍ أن يُريق ماء وجهه ليبقى موفور الكرامة، مرتاح الضمير، مرفوع الرأس، شامخاً، مُتحرّراً من الذُل.

 

يقول العارفون: إن أرقى أنواع (عزة النفس) مع الناس أن تمثّل دور المُكتفي من كلّ شيءٍ وأنت بأمسِّ الحاجةِ لكل شيءٍ، وأن لا تطلب الشيء مرتين، ولا تطرق باباً أُغلِق في وجهك يوماً. أما مع الله سبحانه وتعالى فإن الأمر يختلف تماماً حتى يصل إلى العكس؛ فتكون قمة (عزة النفس) في منتهى التذلل لله عزَّ وجلَّ؛ إذ لا تكتمل عبودية المسلم إلا بكمال الذُل والخضوع والانكسار والانقياد، مع كمال المحبة لله تعالى، ويكون الإلحاف في الدُعاء هنا مطلوباً وممدوحاً وليس مستنكراً ولا مذموماً.

 

وعن (عزة النفس) قال الشاعر:

أَرَى الناسَ مَنْ داناهُمُ هانَ عِنْدَهُم

وَمَنْ أكرَمَتْهُ عِزَةُ النَفْسِ أُكْرِما

وقال آخر:

اقْنَعْ وَلا تَطْمَعْ فَإنَّ الفَتى كَمالُهُ في عِزَةِ النَفْسِ

وَإنَما يَنْقُصُ بَدْرُ الدُجى لِأخْذِهِ الضَوْءَ مِنَ الشَمْسِ

وقال ثالث:

يا عِزَةَ النَفْسِ كوني في العُلا قَمَرَاً

فَالْعَيْشُ دونَكِ مِثْلُ الغُصْنِ إنْ مالا

ما قيمَةُ المَرْءِ إنْ ضاعَتْ كَرامَتُهُ

فَضْلُ الكَرامَةِ يَعْلو الجاهَ وَالْمالا

 

أحبتي.. قال أحد الصالحين: هل فَكَّر كلٌ منا أن يبحث عن هؤلاء الذين تعلو وجوههم ابتسامة الرضا بما قسم الله لهم في الحياة الدنيا، غير ناقمين إن قتر عليهم الرزق، تملأ صدورَهم العفةُ ونفوسَهم الكرامةُ والكبرياءُ لدرجةٍ قد تبدو للآخرين غنيً؟ هؤلاء الذين يعلمون ويؤمنون بأن الغني الحقيقي هو غني النفس، وليس المال الذي عادةً ما يكون مآله إلي زوال. إن ملاحظة أحوال المتعفِّفين لمعرفة حاجتهم وسدِّ فاقتهم شأنٌ جليلٌ، ثوابُه جزيلٌ، ولا يفطَنُ إليه إلا موفَّقٌ فطنٌ يُحس بالمحتاج وإن لم ينطِق لسانُه.

ومَن اضطُرَّ فينا إلى أن يسأل الناس فَلَهُ أن يسألَ وعليه أن يُجمل في الطلب؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أيُّها النَّاسُ اتَّقوا اللَّهَ وأجملوا في الطَّلبِ فإنَّ نفسًا لن تموتَ حتَّى تستوفيَ رزقَها]، ويكون طلبه دون إلحاحٍ، وبغير تذللٍ أو مسكنةٍ، أو إهدارٍ للكرامة، إنما يطلب بعزة نفسٍ، واثقاً في أن المُعطي والمانع هو الله سُبحانه وتعالى، وما الشخص المطلوب منه إلا وسيلةٌ لإيصال الذي كُتب لنا؛ فكما يُقال: "اطلُبُوا الحوائِجَ بِعِزَّةِ الأنُفُسِ، فإِنَّ الأمورَ تَجْرِي بالمقادِيرِ".

اللهم اجعلنا أعز الناس إلى خَلْقك، أذل الناس إليك سُبحانك، وأنعم علينا بما يُعيننا على أن نكفي المحتاجين المتعففين ذُل السؤال، واغننا بفضلك عن الاحتياج إلى غيرك، والطلب من سواك.

https://bit.ly/4eWjzTg

الجمعة، 22 نوفمبر 2024

قلب المؤمن دليله

 

خاطرة الجمعة /474

الجمعة 22 نوفمبر 2024م

(قلب المؤمن دليله)

 

يقول صاحب القصة: لم يكن والدي أباً عطوفاً كباقي الآباء، ولم أعِش يوماً في جوٍ أُسريٍ كباقي أقراني. كنتُ أعتمد على نفسي في المذاكرة والذهاب والإياب من المدرسة. رغم كل شيءٍ، كنتُ متفوقاً في دراستي، ولأنني لم أرَ سبيلاً للخروج من هذا النفق المعتم الذي أقبع فيه سوى العِلم، كرستُ كل وقتٍ أُتيح لي لطلبه. نعم "الوقت المتاح لي" لأنني كنتُ مضطراً للعمل في سنٍ مبكرٍ؛ فوالدي كان يرفض الإنفاق على البيت، وأُمي سيدةٌ غير متعلمةٍ، فلا عمل لها إن أرادت العمل سوى الخدمة في البيوت، وهو ما لا يمكن أن أرضى به؛ لذا قررتُ أن أتدرب عند خياطٍ جارٍ لنا، وخصص لي أجراً يدفعه أسبوعياً، لم يكن الأجر كبيراً، لكنه كان يكفيني وأُمي لطعامنا وشرابنا في أقل الحدود. كان والدي رجلاً ميسوراً، لكنه هجر البيت، وتزوج من فتاةٍ تصغره بعشرين سنةً، وحرَّمته علينا، فلم أعد أراه منذ كان عمري عشر سنوات.

كبرتُ، وكبرت أُمي، وأُصيبت بالعمى. كانت تعاني من الرمد الدائم، ولم نكن نملك ثمن الدواء. أصبحتُ أنا بمثابة العين المبصرة لها، تتوكأ عليّ إن أرادت الذهاب أو الإياب. التحقتُ بكلية الهندسة، وما زلتُ أعمل خياطاً لدى جارنا. الحقيقة أن هذه المهنة تكفلت بعيشي وعيش أُمي طيلة حياتي إلى أن تخرجت. اختارني أحد أساتذة الجامعة للعمل معه في مكتبه الخاص براتبٍ مُجزٍ؛ فقد رأى فيّ موهبةً هندسيةً، ومقوماتِ مهندسٍ معماريٍ ماهر. سعدتُ بذلك، وانتقلتُ إلى سكنٍ جديدٍ، وكانت أُمي رفيقتي في كل مكانٍ أذهب إليه. بدأتُ أشعر أن الله يعوضنا عن سنوات العذاب التي مررنا بها.

كان لصاحب المكتب الهندسي ابنةٌ جميلةٌ تعمل معنا في المجال نفسه، رقّ لها قلبي، وهي كذلك، وكانت تحب أُمي كثيراً، وأُمي تبادلها نفس الشعور. شجعتني والدتي على خطبتها، وبالفعل تقدمتُ لطلب يدها من والدها، لكنه رفض بحجة أنني لم أصل بعد لمكانةٍ عاليةٍ في مجال الهندسة، لكنه وافق لاحقاً تحت ضغطٍ من ابنته، وتم الزواج.

تأخرنا في الإنجاب لمدة عشر سنواتٍ، أُصيبت خلالها والدتي بالشلل التام. كنتُ أتولى العناية بها بنفسي، ورغم تحسن حالتي المادية وقدرتي على جلب خادمةٍ خاصةٍ لها، إلا أنني لم أفعل؛ فهي من ضحت بكل شيءٍ لأجلي، فكيف لا أُضحي لأجلها؟

عندما يئستُ من علاج عدم الإنجاب في «مصر» سافرتُ مع زوجتي للعلاج في الخارج، على أمل أن يُحقق الله لنا حلم الإنجاب، لكنني صُدمتُ عندما أجمع الأطباء على عدم قدرتي على الإنجاب نهائياً؛ حينها خيَّرتُ زوجتي بين البقاء معي أو الانفصال لتبدأ حياةً جديدةً تستطيع فيها أن تكون أُماً، طلبت مني أن نعود إلى «مصر» وأتركها تفكر في الأمر بعيداً عني وعن أهلها. عُدنا بالفعل، فوجدتُ والدتي قد زادت حالتها سوءاً؛ إذ أن الخادمة التي جلبتها للعناية بها خلال فترة سفرنا للخارج أهملت واجبها حتى أصاب أُمي العطب في بعض أعضائها، فأدخلناها إحدى المستشفيات حيث مكثت فيها ثلاثة أسابيع، وفي يومها الأخير طلبت أن تختلي بي، فقد كان هناك أمرٌ تريد إخباره لي، كانت روحها تنازع جسدها لتمهلها بضع لحظاتٍ لتفصح عما في قلبها؛ قالت لي: "يا ولدي، كنتَ باراً بي، وأُشهد الله أنني راضيةٌ عنك. أسأل الله أن يرزقك ولداً صالحاً من ابنة الخياط"، ابتسمتُ وكلي ألمٌ، وقلتُ: "يا أُمي، أنا عقيمٌ، فكيف أُرزق بولد؟ ثم إن زوجتي ليست ابنة الخياط يا أُمي!"، قالت: "اعلم يا بني أنني كنتُ أدعو الله دائماً أن يرزقك ولداً صالحاً من ابنة المهندس يكون سنداً لك كما كنتَ سنداً لي، لكن الله لم يشأ. رأيتُ في منامي أنك تحمل ولداً يُشبهك، وقدمتَه لي ومعك ابنة الخياط...". ثم أغمضت عينيها ورحلت بعد بضع ثوانٍ.

لم تتصل بي زوجتي لتعزيني، بل أرسلت تطلب الطلاق بهدوءٍ؛ فهي لن تستطيع العيش معي دون أطفال. تم الطلاق، واستقلتُ من مكتب والدها، وافتتحتُ مكتباً هندسياً مستقلاً. وبعد مرور عامين، زارتني والدتي في المنام وقالت لي: "ألم يأن الأوان لتنجب من ابنة الخياط؟". استيقظتُ مذهولاً من الرؤية، فأنا أعلم أن الخياط لا يملك بناتٍ من الأساس! فلم أُعر تلك الرؤية أي اهتمامٍ، لكنها تكررت مراراً حتى قررتُ زيارة الخياط، وقصصتُ عليه ما قالته أمي وما أراه في منامي؛ فضحك وتهلل وجهه وقال: "قُم معي". توجهنا إلى بيتٍ متواضعٍ بجوار بيته، فإذا بامرأةٍ عجوزٍ تعيش مع ابنتها، قال لي الخياط: "مبارك عليك، هذه هي ابنتي"، نظرتُ إليه متعجباً وقلتُ: "كيف وأنا أعرف أهل بيتك؟"، فقال: "هذه الفتاة ابنة أُختي، رحل والداها في حادث سيرٍ مروعٍ وتكفلتُ برعايتها، زوجتي رفضتها وقالت إنها نذير شؤمٍ، إذ مات والداها بعد إنجابها بأيامٍ قليلةٍ، لكنني لم أتخلَ عنها، وأحضرتُ لها مربيةً اهتمت بتربيتها، وهي لا تعرف لها أباً غيري. هي الآن في السنة الأخيرة بكلية الصيدلة وسيتم اختيارها معيدةً في الجامعة".

كانت مفاجأةً بالنسبة لي، لكن كيف علمت أُمي بأمرها؟ لا أدري، فهي لم تلتقِ بالخياط يوماً، لكنه فاجأني بأن أُمي كانت تزوره في منامه وتوصيه بي خيراً؛ قال: "في مرةٍ أخبرتها في منامي أني سأزوجك ابنتي، وسيكون لك منها خير الولد"! أتممتُ الزواج من بنت الخياط، وفي الشهر الأول من زواجنا حملت، لم أصدق ذلك، لكن الله قادرٌ على كل شيء.

أبلغ الآن من العمر سبعين عاماً، توفيت زوجتي الغالية، وخلَّفت لي ولداً طيباً باراً بي، وما زالت والدتي تزورني في المنام كل ليلةٍ لتطمئن على ولدي وعليّ! يا لقلوب الأُمهات!

 

أحبتي في الله.. مقولة (قلب المؤمن دليله) ليست بحديثٍ نبويٍّ، وإنَّما هي عبارةٌ تجري مجرى الأمثال، وقد أطلق علماء النفس على هذه الظاهرة اسم "الحَدْس"، وعرَّفوه بأنَّه: معرفة الإنسان لشيءٍ دون أن يعرف كيف عرفه.

 

وفي القصة التالية تأكيدٌ على هذا المعنى؛ يقول راويها: ما جعلني أكتب متسائلاً عن قلب الأم هو وفاة صديقي وعلاقته بأُمه؛ كان -رحمه الله تعالى- يعمل في «السعودية»، وكان قد استقدم والدته المُسنة وأخاه وأُخته لأداء العُمرة. وعلمتُ من شقيقته أنه بعد أداء شعائر العُمرة، ووقت أن حان موعد عودتهم إلى «مصر» قام بتوصيلهم إلى المطار، وفي صالة التوديع سلَّم عليهم بحرارةٍ، وذهبوا هُم لدخول صالة الصعود إلى الطائرة، لكن أُمه عادت مسرعةً ونادت عليه، فلما سمع نداءها عاد إليها، فقامت باحتضانه لمدةٍ طويلةٍ، وظلت تُقبله وهي تحتضنه، ودموع عينيها تتسابق مع كلمات الوداع، ثم عادت إلينا وغادرنا. تقول شقيقته: "في اليوم التالي لعودتنا إلى «القاهرة» بلغنا نبأ وفاة أخي، الذي عاد من غربته في صندوق، وقمنا بإجراءات دفنه. وظلت أُمي من وقت علمها بوفاة أخي وحتى دفنه غير مصدقةٍ أنه مات، وتحكي لكل من جاء يُعزيها أنها لن تنسى أبداً احتضانها له في المطار. وعندما سألتها عن ذلك قالت: أحسستُ بشيءٍ دفعني لاحتضانه وكأني لن أراه مرةً أخرى!".

 

إنه شعورٌ طاغٍ تشعر به الأُم، ولا تدري ما هو، ولا تعرف له سبباً، ولكنه إحساسٌ بالقلق، غير القلق العادي، يجثم على الصدر. ولا يحدث ذلك إلا مع أقرب الناس إليها، خاصةً أبنائها. ويقوى هذا الحدس أو هذا الشعور -في الغالب- مع الأُمهات اللواتي يكن في علاقةٍ قويةٍ بالله سبحانه وتعالى، وعبارة (قلب المؤمن دليله) لم تأتِ من فراغ؛ فالقلب الذي يكون دليلاً لصاحبه هو قلبٌ قويٌ في إيمانه، صحيحٌ نقيٌ طاهرٌ وسليم؛ إذ يكون مُعلَّقاً بالله عزَّ وجلَّ، ويكون في معيَّته وفي رحابه، يهتدي بهديه، ويسير بنوره، مصداقاً لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم حكايةً عن ربِّ العزة: [ما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ].

 

يقول أهل العلم إن من صفات قلب المؤمن الذي يكون بحقٍّ دليله، أن يكون سليماً؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾، وأن يكون صالحاً؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ]. ومن علامات سلامة القلب وصلاحه: أنَّه يدفع صاحبه للتوبة والإنابة، ولا يفتر عن ذكر ربِّه، ولا يتكاسل عن عبادته، وإذا فاتته عبادةٌ وجد ألماً أشدَّ عليه من ضياع ماله، وأنَّه يجد لذةً في العبادة أشدَّ من لذات الدنيا جميعها. ومن وسائل إصلاح القلوب والوصول بها إلى السلامة والصلاح: التوبة النصوح، وقراءة القرآن بتفكُّرٍ وتدبرٍ، والمداومة على ذِكر الله تعالى، والصيام، وقيام الليل، ومصاحبة الصالحين.

 

أحبتي.. في أحيانٍ كثيرةٍ يكون (قلب المؤمن دليله)، وأوضح ما يكون ذلك في علاقة الأُم بأبنائها، فلنُبادل أُمهاتنا الحُب، ونقوي علاقتنا بهن، ونُكرمهن، ولنتذكر أنهن مصدر الحنان والعطاء في حياتنا، وأن معاملتهن بكل حبٍ واحترامٍ تعود علينا بالخير والبركة؛ فلنجعلهن يشعرن بأنهن محور حياتنا، وأننا نُقدِّر كل لحظةِ اهتمامٍ أو تعبٍ قدَّمنها لنا.

وعلى كل ابنٍ أن يُعامل أُمه بطريقةٍ تليق بمكانتها في قلبه وتُعبر عن محبته لها؛ ومن ذلك: احترم والدتك في كل الأوقات، سواءً في حضورها أو غيابها، اجعلها دائماً تشعر بالتقدير والاحترام. استمع إلى نصائحها وحديثها بتركيزٍ واهتمام. اهتم بصحتها وراحتها، واسألها دائماً عن حالتها الصحية، وتأكد من أنها تحصل على الرعاية اللازمة. تواصل معها بانتظامٍ، سواءً كنتَ قريباً منها أو بعيداً عنها. اتصل بها لتعرف أنك مهتمٌ بها وتفكر بها دائماً. ساعِدها في الأعمال المنزلية وأداء مصالحها قدر إمكانك، قدِّم لها ما تحتاجه، وبادر بالمساعدة دون أن تطلب. لا تتردد في التعبير عن حبك لها؛ عانقها، قبِّل رأسها، قدِّم لها الهدايا، واظهر لها محبتك بشكلٍ دائم. تحلَّ بالصبر والهدوء عند التعامل معها، حتى في الأوقات التي قد تكون فيها غاضبةً أو مُضطربةً. تذكر دائماً التضحيات التي قدمتها وتُقدمها من أجلك، وأظهر لها أنك تُقدِّر كل ما فعلته وتفعله لأجلك. قدِّمها بأفضل صورةٍ أمام الآخرين، واذكر محاسنها وفضلها على حياتك. ولا تنسَ أبداً أن تدعو لها في صلاتك بالصحة والعافية والسعادة.

أما من فقد أُمه فعليه أن يُكثر من الدعاء والاستغفار لها، والتصدق نيابةً عنها، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بها، وإكرام صديقاتها، ويحرص على زيارة من كانت تزورهم، والإحسان إلى من كانت تُحسن إليهم، ومن ثمار هذا العمل أنهم إذا شاهدوا إحسان الابن تذكروا أُمه وأكثروا من الدعاء لها بالخير، وذكروها بما عندها من فضائل، وكل ذلك ما كان ليحدث لولا هذا البر وهذه الصلة.

اللهم اجعلنا من البارين بأُمهاتنا أحياءً وأمواتاً.

 

https://bit.ly/3ARxaxo

 

الجمعة، 15 نوفمبر 2024

عند الله لا تضيع الودائع

 

خاطرة الجمعة /473

الجمعة 15 نوفمبر 2024م

(عند الله لا تضيع الودائع)

 

تقول صاحبة القصة: رأيتُ في منامي أحدَهم يُهاتفني ويقول لي: "هناك أُسرةٌ تحمل اسم....، نازحـ.ـةٌ، تُقيم في أحد الأزقة بوسط قطـ.ـاع غـ.ـزة، عددهم أقل من عشرة أشخاصٍ، اذهبي إليهم قبل أذان المغرب، وخُذي معكِ طرداً به مواد غذائية"، وخلال هذا الهاتف كنتُ أرى نفسي أمشي في أزقةٍ أعرفها في الحقيقة، وكأنني أُساق إلى هذه الأسرة بعلاماتٍ واضحةٍ بيّنةٍ، وقد وقع في نفسي اسم الزيتون. انتهى المنام.. واستيقظتُ صباحاً، وذهبتُ لذات المكان الذي رأيتُه في المنام، وسألتُ هناك عن تلك الأسرة بنفس المعلومات التي قيلت لي في الرؤية وبدون أي نُقصان؛ فدُلني أحدُهم عليها، وكانوا يسكنون في دُكانٍ صغير.. كنتُ أعلم يقيناً أن شراء مواد غذائيةٍ أمرٌ مستحيلٌ، فلا يوجد أي شيءٍ في الأسواق، لكنني قلتُ أذهب إلى السوق عسى أن أجد ما يسدّ جوع هذه الأُسرة، وما إن وصلتُ حتى رأيتُ ثلاث عرباتٍ كلٌ منها يعرض المواد الغذائية الأساسية -المقطوعة أصلاً منذ شهور- وبذهولٍ كبيرٍ، وبدون أي ترددٍ توجهتُ نحو تلك العربات، واشتريتُ كل شيءٍ، وعدتُ مسرعةً أُسابق الوقت لأصل إلى الأُسرة قبل أذان المغرب، وبالفعل وصلتُ مع أول تكبيرةٍ للأذان.. دخلتُ الدُكان الذي تُقيم به الأُسرة، رأيتُ أُمّاً مُقعدةً قد بُترت ساقاها، علمتُ فيما بعد أن البتر تم في أول الحـ.ـرب، كان حول الأُم أبناؤها، عندما سألتهم عن والدهم أجابوني أنه بقي في الشَمال وقد انقطعت أخباره عنهم.. سألتهم عمن يقوم على أمورهم، خاصةً وأنهم لا زالوا صغاراً، فأجابتني ابنتها: "والدي في آخر مكالمةٍ قال لنا تركتكم في ودائع الرحمن".. وقال لي أحد الأبناء: "في كل يومٍ يمر بائع العصير المثلج الذي يكفل أيتاماً ليسوا بأبنائه، فتدفعنا أُمي لشراء العصير منه لأجل أولئك الأيتام"!

يا الله.. تركهم أبوهم في ودائع الرحمن، فمن ذا الذي يضيع وهو في كنف الرحمن الرحيم وفي ودائعه؟ ليسوا سوى أطفالٍ وأمهم مُقعدةٌ، ويُقيمون في دُكانٍ صغيرٍ بين أزقةٍ في مدينةٍ مُدـ.ـمرة.. ساق الله لهم من يمشي في قضاء حاجتهم، وهُم الذين لم يُظهروا حاجتهم إلا لوجهه الكريم.. بل إن أُمهم كانت تقول لي: "يقيني بالله كبيرٌ أنه لن يُضيّعنا أبداً".. عندما انتهت زيارتي لهم وهَمَمْتُ بالخروج، إذ بي أسمع الأُم تقول: "يخطر على بالي الزيتون"، فتذكرتُ الرؤية، وأن الزيتون قد ذُكِر فيها، فقررتُ أن أعود للعربات الثلاث لأشتري زيتوناً للأُم.

وكانت المفاجأة عند عودتي للسوق لشراء الزيتون؛ إذ لم أجد أية عربةٍ من تلك العربات الثلاث، وكلما سألتُ أحدهم أين ذهبت تلك العربات التي كانت تبيع الأُرز والزيت والسُكر؟! تعجبوا من سؤالي وقالوا لي: "لا توجد أية عربةٍ تبيع هذه المواد هنا، بل إن الكثير من المواد الغذائية مقطوعةٌ تماماً منذ فترةٍ طويلة"! بحثتُ بالسوق حتى وجدتُ محلاً يبيع الزيتون؛ فاشتريتُ منه وعُدتُ إلى الأُم المُقعدة وأبنائها، وأنا على يقينٍ بأن هذه الأُسرة بينها وبين الله شيءٌ عظيم.

 

أحبتي في الله.. إنها عناية الله بهذه الأُسرة، لِمَ لا وقد كان أبوهم قد استودعهم الله، وتركهم في ودائع الرحمن، قبل غيابه عنهم، ومن كان وديعةً عند الله لا يضيع أبداً؛ فمن اليقين القول: (عند الله لا تضيع الودائع).

 

يُذكرني هذا بموقفٍ حكاه أحد الآباء قال فيه: قبل عدة أسابيع كنتُ خارجاً من المسجد ومعي أبنائي الصغار، فانطلق أصغر واحدٍ منهم يجري في اتجاه المنزل، وكان هناك شارعٌ يفصل بين المسجد والمنزل، وهذا الشارع تمر به السيارات؛ فخفتُ على ابني الصغير أن تصدمه سيارةٌ من السيارات المارة؛ فرفعتُ صوتي أُحذره من السيارات وأنا أقول له: "ثامر.. انتبه السيارات.. انتبه السيارات".. لكن ابني كان ينطلق بسرعةٍ، وتأكدتُ في تلك اللحظة أنه لن يتوقف عن الجري.. فوفقني الله إلى أن أقول وبصوتٍ عالٍ: "أستودعتك الله"، والله -الذي لا إله إلا هو- ما إن انتهيتُ من قول تلك الجملة إلا وسمعتُ صوت فرامل سيارةٍ، وإذا ابني يقف أمام مُقدمة السيارة ليس بينها وبين دهسه إلا شعرةٌ؛ سارعتُ إلى الإمساك به وضمه إلى صدري وتهدئة مخاوفه، ثم عندما وصلنا إلى المنزل كان أول شيءٍ فعلته هو أن سجدتُ لله سجدة شكرٍ أن حفظ ابني، وأن سددني ووفقني للنُطق بكلمات الاستوداع.

 

عن حِفظ الله يقول تعالى: ﴿فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾. وسمى الله عزّ وجلَّ نفسه بالحفيظ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾، يقول المفسرون إن الحفيظ هو الحافظ، يحفظ السموات والأرض وما فيهما، وهو الذي يحفظ عباده من المهالك ويقيهم مصارع السوء؛ كما في قوله سبحانه: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ أي: بأمره. ويحفظ أولياءه فيعصمهم ويحرسهم عن مكايدة الشيطان، ليسلموا من شره وفتنته، ويلطف بهم في الحركات والسكنات. إن الله تعالى لم يُسْتَودَعْ شيئاً قط إلا حفِظه، كما استودعتْ أُم موسى موسى، وكما استودع يعقوبُ يوسفَ، ودائع الله لا تضيع في السماوات ولا في الأرض؛ إذ أن (عند الله لا تضيع الودائع).

 

وكان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِذا أَرَادَ أَنْ يُوَدِّعَ الجَيْشَ قال: [أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكُمْ، وَأَمَانَتكُم، وَخَوَاتِيمَ أَعمَالِكُمْ]. كما كان عليه الصلاة والسلام يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ سَفَراً: [أَسْتَوْدِعُ اللَّه دِينَكَ، وَأَمانَتَكَ، وخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ]. ورد في شرح الحديث أن الاستيداع هو برجاء حُسن الخاتمة؛ لتكون العاقبة مأمونةً في الدُنيا والآخرة، وأن تكون الأعمال مختومةً بخير؛ فالأمر يشمل الدين والأمانات. وكل شيءٍ يحتاج الإنسان إلى حفظه، فإنه يسأل الله عزَّ وجلَّ ذلك، وهو في حق المُسافر أولى؛ لأن في السفر مشقةً وخوفاً، وهما سببان من أسباب إهمال بعض أمور الدين، والتقصير في بعض العبادات، والله عزَّ وجلَّ يحفظ على المؤمن دينه، ويحول بينه وبين ما يُفسده عليه.

ويوجهنا صلّى الله عليه وسلّم بقوله: [مَن أرادَ أن يسافرَ، فليقُلْ لِمَن يُخلِّفُ: أستودعكم اللَّهَ الَّذي لا تضيعُ ودائعُهُ]

أي يقول لِمَن يُخلِّفُ: أي لمن يتركهم وراءه، أستودعُكَم اللَّهَ: أي جعلتكم في حفظ الله وأمانته. وفي الحديث يحثّ صلّى الله عليه وسلّم المُسافر على الدُعاء لأهله وأحبابه عند سفره، فيجعلهم وديعةً عند الله تعالى، وهو سُبحانه خير الحافظين للودائع والأمانات. وكان عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه إذا عزموا على سفرٍ: [أستودِعُكَ اللهَ الذي لا يُضيِّعُ ودائِعَهُ]، وهذا يدل على مشروعية التوديع بهذه الألفاظ، وأن الله يحفظ ما استودعه. ويقول صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللهَ إذا استُودِعَ شيئًا حفِظَه]، وفي هذا تأكيدٌ على أن حفظ الله يشمل كل شيء؛ فإذا دعاه عبده بحفظ شيءٍ، وجعله وديعةً عنده، حفظه لصاحبه الذي استودعه عنده؛ فالله تعالى هو خير الحافظين.

 

يقول العلماء إن استيداع العبد لربه شيئاً هو دعاءٌ، والدعاء عبادةٌ لله تعالى، وهو سببٌ من أعظم أسباب حصول المطلوب، وقد يُقدِّر الله تعالى له إجابة دعائه، بحسب ما دعا، وقد لا يُقدِّر الله له إجابة تلك الدعوة بعينها؛ لكن متى أخلص العبد دعاءه لربه، فإنه يظفر من ذلك بأجر العبادة والإخلاص لله، ثم إن الله تعالى لم يضمن لعباده أن يُعجِّل لهم كل شيءٍ دعوه به، بل أمْرُ ذلك إلى الله؛ فإما أجابهم، وإما ادخر لهم من الخير ما يوافي ذلك، وإما صرف عنهم من الشر ما يكافئه؛ شريطة ألا يُعجِّل العبد على ربه، ولا يستحسر؛ قال النَّبِيَُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا]، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: [اللَّهُ أَكْثَرُ].

 

أحبتي.. (عند الله لا تضيع الودائع) عبارةٌ علَّق عليها أحد العلماء بقوله: استودعوا الله كلّ ما تُحبّون، اجعلوا كلّ ثمينٍ وغالٍ في قلوبكم في ودائع الله عزَّ وجلَّ، استودعوه عائلاتكم وأحبابكم وأحلامكم وأسراركم وأوطانكم، اسألوا الله أن يحفظها لكم دوماً، فهو خيرُ من حَفِظ، وأجلُّ من اؤتمن، وأعظم من استُجير به. استودعوا الله سلامة قلوبكم، ويقينكم وإيمانكم، ودينكم؛ فمن حَفِظَ الله تعالى له دِينه وسلامة قلبه حتى يلقاه سَلِم وأَمِن. سلّموا الله بيقينٍ كلّ ما لا تقوى أرواحكم على فراقه، صغيراً كان أم كبيراً، دعوه للخالق وأبشروا بالحفظ، اجعلوا كلّ شيءٍ تُحبونه وسكن قلبكم في ودائع الله، فودائع الله لن تضيع أبداً.

اللهم إنا نستودعك أنفسنا وأهلنا وأبناءنا وأحباءنا، ونستودعك ديننا وأماناتنا وخواتيم أعمالنا، ونستودعك اللهم دُنيانا التي فيها معاشنا. فاحفظ اللهم لنا ما استحفظناك، إنك سُبحانك ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾.

https://bit.ly/3O6qTkq

الجمعة، 8 نوفمبر 2024

سُبحانه يُدبر الأمر

 

خاطرة الجمعة /472

الجمعة 8 نوفمبر 2024م

(سُبحانه يُدبر الأمر)

 

يقول مَن رَوى القصة: كُنا في شهر رمضان المبارك، وقررنا -أنا وصديقٌ لي- أن نذهب إلى شاطئ البحر، في نُزهةٍ بعيدٍة نتناول السحور هناك، ثم نُصلي الفجر، ونبقى نُسبح حتى موعد شروق الشمس؛ فنُراقب كيف تبدأ الشمس في نشر أشعتها الذهبية على مياه البحر في صورةٍ بديعةٍ، ثم نعود من حيث أتينا. كان الطريق الموصوف لنا للوصول إلى ذلك المكان أبعد مما كُنا نظن، واستغرق وقتاً أكثر مما كًنا نعتقد؛ فأدركنا أذان الفجر في الطريق قبل وصولنا لمقصدنا، فتوقفنا وصلينا الفجر، وترددنا؛ هل نعود، أم نُكمل حتى نصل إلى وجهتنا؟ وجدنا أنفسنا نميل إلى المواصلة، وكأننا كُنا مدفوعين إلى ذلك؛ فواصلنا مسيرنا حتى بلغنا الموقع، فترجلتُ وصاحبي من سيارتنا، وتمشينا قليلاً فإذا بسيارةٍ قريبةٍ، بها عائلةٌ كاملةٌ، قد تعلقت في الرمل مُنذ مُنتصف الليل، وكأنما كانوا ينتظروننا؛ فقد جاؤوا مُسرعين يطلبون المُساعدة. لم يكن الأمر صعباً فقد تيسر لنا سحب سيارتهم في دقائق معدودةٍ، ولم نتركهم إلا وقد انطلقوا بسيارتهم. مكثنا بعد ذلك لوقتٍ قليلٍ، لم ننتظر شروق الشمس، وقررنا العودة.

في الطريق تعجبتُ مما حصل؛ فقد خرجنا في وقتٍ ليس من عادتنا الخروج فيه للنزهة، واخترنا موقعاً للنزهة لم نقصده من قبل، والغريب أننا رجعنا قبل الوقت المُحدد لرجوعنا وهو شروق الشمس! تدبرتُ ما حدث؛ فلم أجد سوى أن الله (سُبحانه يدبر الأمر) جعلنا سبباً لإنقاذ تلك الأسرة.

 

أحبتي في الله.. نعم إنه تدبير الله العزيز الحكيم، المُطلع على أحوال عباده، المجيب لدعائهم؛ فلربما كان لأحد أفراد تلك الأسرة دعوةٌ دعاها واستجاب لها الله سُبحانه وتعالى؛ فأرسلنا لهم كي نكون سبباً في إنقاذهم مما كانوا فيه.

نحن في أشد الحاجة لتعظيم اليقين في قلوبنا بأن لا شيء في هذه الحياة اسمه صدفةٌ، وإنما هو (سُبحانه يدبر الأمر).

 

تصديقاً لذلك هذا شخصٌ آخر يحكي لنا حكايته؛ فيقول: كان لديّ صديقٌ يعيش في محافظةٍ أخرى، علمتُ أنه مريضٌ، فقررتُ أن أعوده، وأنا أعلم كم لعيادة المريض من ثوابٍ عظيم. كانت تكلفة المواصلات التي سأحتاجها للعودة إلى منزلي أربعين جنيهاً، ولم يكن في محفظتي وقتها سوى خمسين جنيهاً، تكفي لركوب مواصلتين للعودة إلى المنزل. ركبتُ أول حافلةٍ، وعندما أوشكتُ على دفع الأجرة، فوجئتُ بظهور صديقٍ لي لم أره منذ خمس سنواتٍ يركب في ذات الحافلة، أصرّ على دفع الأجرة لي، عانقنا بعضنا وتبادلنا الأحاديث حول أمور الحياة حتى وصلتُ إلى محطتي التي أركب منها الحافلة الثانية، عندما هممتُ بركوب الحافلة، إذا بشخصٍ -يقف بسيارته بجوار الحافلة- يُناديني؛ نظرتُ إليه، فإذا به جاري الذي يسكن معنا في نفس المنزل، رآني فطلب مني الركوب معه؛ فهو عائدٌ إلى المنزل، ركبتُ معه، وأنا أتعجب مما حدث! أنزلني أمام المنزل ثم تركني وذهب للبحث عن مكانٍ يترك سيارته فيه. وبينما كنتُ واقفاً، تلقيتُ مكالمةً من زوجتي تُخبرني بأن دواءها قد نفد، وهي بحاجةٍ ماسةٍ له، شعرتُ بالانزعاج، ورفعتُ بصري إلى السماء، داعياً الله: "يا رب، أنت تعلم ظروفي، ليس معي الآن سوى خمسين جنيهاً". ذهبتُ إلى الصيدلية لأشتري الدواء؛ فتفاجأت بأن سعر عُلبة الدواء قد زاد وصار يبلغ 200 جنيه، ولأن العُلبة تحتوي على أربعة شرائط فقد طلبتُ من الصيدلي شريطاً واحداً، أخذتُه وكنتُ أسأل نفسي: "كيف كنتُ سأُدبِّر أمر دواء زوجتي لو أنني كنتُ قد دفعتُ ثمن المواصلات؟" لقد أيقنتُ أن الله (سُبحانه يُدبر الأمر). وعلى الرغم من سعادتي لأنني تمكنتُ من شراء الدواء لزوجتي، إلا أنني كنتُ أفكر في الطعام الذي سنأكله في اليوم التالي، حيث أنني صرفتُ كل ما معي. وبينما كنتُ عائداً إلى المنزل، رنَّ هاتفي، وإذا بأحد العملاء الذين ألغوا مشروعاً كنتُ سأقوم بتنفيذه له قبل ثلاثة أشهر، يُقرر استكمال المشروع، ويعدني بإرسال أول دفعةٍ من الحساب لي في الصباح! لم أتمالك شعوري؛ ووجدتُ نفسي أبكي من عناية الله عزَّ وجلَّ بي وكرمه معي، وتدبيره لأمري. عندما فتحت لي زوجتي باب الشقة، لاحظت أن عينيّ مغرورقتين بالدموع؛ فسألتني بدهشةٍ: "لماذا تبكي؟" لم أستطع الرد إلا بقولي: "هذا هو شريط الدواء، وغداً بإذن الله ستصلك العلبة كاملة".

 

يقول أهل العلم إن عبارة ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ تكررت في كتاب الله أربع مراتٍ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾. ويقول سُبحانه: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾. ويقول جلَّ جلاله: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾.

 

يقول المفسرون في معنى ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ إن الله (سُبحانه يُدبر الأمر) لجميع المخلوقات، في السماوات وفي الأرض، وهو يُحكم الأمر، ويوجد الأشياء على هذا النحو الحكيم الذي نُشاهده؛ فالله-تبارك وتعالى- هو الذي يُدبِّر شئون الدنيا وشئون جميع خلقه إلى أن تقوم الساعة، وهو الذي يجعلها على تلك الصورة المُحكمة والبديعة المُتقنة.

 

يقول الشاعر:

لا الأمرُ أَمْري وَلا التَّدْبيرُ تَدْبيري

وَلا الشُّؤونُ التي تَجْري بِتَقْديري

لِي خَالِقٌ رازِقٌ ما شاءَ يَفْعَلُ بي

أَحاطَ بي عِلْمُهُ مِنْ قَبْلِ تَصْويري

 

أحبتي.. أختم بعباراتٍ مُعبرةٍ لأحد العُلماء؛ كتب يقول: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ ذكِّر بها قلبك كلما خشيتَ أمراً أو اعتراك هَمٌ أو أصابك كربٌ، فإن أيقنتَ بها اطمأنت روحك، وكفى بربك هادياً ونصيراً. إن الله يعلم كل شيءٍ في صدرك، يعلم كل شيءٍ تتعثر في التعبير عنه، ﻻ تقلق، فقط قُل "يا رب" يُدبِّر أمرك ويُصلح حالك ويعتني بشؤونك، ويكشف عنك غمك، ويُسخِّر لك من تُحب، ويفتح لك أبواباً مُغلقةً، ويُعوضك ما كان فَقْدُه يُؤلم قلبك. ثِقْ بالله؛ فاﻷمر الذي يؤرقك، والشيء الذي تتوجس منه، يُدبِّره الله، كُن مطمئناً وﻻ تقلق. أتظن أن الله لا يعلم الأمنية التي تسكن زاوية قلبك؟ حاشاه!! رب العزة يعلمها، ولكن يُدبِّر لك الأمر حتى تأتيك أمنيتك في الوقت المناسب. لا تجزع إن لم يتحقق لك أمرٌ أنت راغبٌ فيه؛ مع الوقت ستُدرك أنه لم يكن خيراً لك؛ فعندما يُغلق الله من دونك باباً تطلبه فلا تحزن وﻻ تعترض؛ فلربما الخير لك في غلقه، وثِقْ أن باباً آخر سيُفتح لك يُنسيك همك الأول، وقتها ستُدرك معنى قوله تعالى ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ هذه الآية كفيلةٌ بأن تُضفي على نبضك هدوءً وخشوعاً مهما ضاقت بك الدنيا.

اللهم لا تدعنا لأنفسنا طرفة عينٍ فإنا لا نُحسن التدبير، عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. دبر اللهم لنا أمورنا كلها؛ فأنت سُبحانك على كل شيءٍ قدير.

 

https://bit.ly/4hHshHC

الجمعة، 1 نوفمبر 2024

ارحموا من في الأرض

 

خاطرة الجمعة /471

الجمعة 1 نوفمبر 2024م

(ارحموا من في الأرض)

 

يقول رجلٌ فاضلٌ: رأيتُ شاباً يُصلي على يساري ونحن نُصلي صلاة العشاء بالمسجد، وعقب انتهاء الصلاة صافحني بحرارةٍ ومودةٍ، لمحتُ في عينيه طِيبةً مُختلطةً بالحُزن والأسى، أحسستُ بأن بداخله شيءٌ يُريد أن يبوح به لي، عرَّفني بنفسه دون أن يذكر اسم أبيه، برغم أنني اكتشفتُ بعد ذلك أنني أعرف أباه. كان طالباً يَدْرُس بالجامعة، تبدو عليه ملامح النبوغ والتفوق برغم إعيائه الشديد، ومن باب الأدب مع أبيه أخفى عليّ اسم أبيه حرصاً على عدم تشويه صورة أبيه عند من يعرفه. قال لي الشاب في نبرةٍ مليئةٍ بالحُزن والانكسار: "طردني والدي من البيت منذ أُسبوع!"، سألتُه: "لماذا؟"، فأجابني: "لأنه قاسٍ، عفواً يا عمي، أعلم أنه أبي، وله فضلٌ كبيرٌ عليَّ، فاعفني من ذِكر اسمه، لأنك تعرفه وهو يعرفك، ولكن مهما وصفتُ لك قسوته فلن يصل وصفي إلى الحقيقة؛ فقسوته تمتد إلى أُمي وجميع إخواني وأخواتي، ليس لديه لغةٌ سوى الشتم والسب والإهانات والضرب والطرد، وكثيراً ما يحبسنا في غُرفةٍ مُنعزلةٍ فوق سطح البيت، ويُغلق علينا بابها، وبرغم هذه القسوة -وخاصةً عندما كان يحبسنا ونحن أطفالٌ صغارٌ ولا يرحم بكاءنا البريء- فإني ووالدتي وإخوتي وأخواتي نُقدِّره ونحترمه، لكنني أشعر بأن رصيده من الحُب في قلبي يتناقص، وخاصةً عندما يُهين أُمي ويشتمها ويضربها أمامي برغم أنني كبرتُ وصرتُ أدرس بالجامعة. لقد طردني والدي، وحرمني من رُؤية والدتي وإخوتي وأخواتي، وهددهم وهددني بأنه إذا اكتشف اتصالي بهم أو رؤيتي لهم فسوف يُطلِّق والدتي، ويطرد بقية إخوتي وأخواتي! لقد طردني والدي، وحرمني من رُؤية والدتي وإخوتي وأخواتي، وهددهم وهددني بأنه إذا اكتشف اتصالي بهم أو رؤيتي لهم فسوف يُطلِّق والدتي، ويطرد بقية إخوتي وأخواتي! لقد بدأتُ أشعر بالنفور من أبي، وفي الوقت ذاته أنا حريصٌ على بِره وطاعته، إرضاءً لله وخشيةً منه، مما جعلني أعيش صراعاً نفسياً يكاد أن يُمزقني، ولا أدري ماذا أفعل؟ كيف أبر والدي وهو يحول بيني وبين رؤيته؟ وكيف تراني أُمي التي تتقطع شوقاً لرؤيتي وأنا مطرودٌ خارج البيت؟! وهي تسأل: {هل يجوز لها أن تراني دون علم أبي؟ وهل في ذلك خيانةٌ كما قال أبي؟ وكيف توفق بين طاعة زوجها والتواصل مع ابنها الذي تشتاق لرؤيته ولا تتحمل فراقه؟}".

سألتُ الشاب: "وأين تنام الآن؟ وكيف تعيش؟"، فأجابني: "أنام حيناً عند بعض أصدقائي، لكنني إن نمتُ ليلةً عند أحدهم لا أُريد أن أُثقل عليه أكثر من ليلةٍ، فأبحث عن ملاذٍ آخر، وقد بِتُ ليلتين تحت سُلّم في مدخل عمارةٍ، وكنتُ أحرص ألا يراني أحدٌ؛ كي لا يحسبني لِصّاً، كما عانيتُ في هاتين الليلتين من قسوة البرد، وفي كل ليلةٍ كنتُ أتصل بوالدي وأتوسل إليه أن يردني، وأشكو إليه شدة البرد، وأنا أرتجف ولكن قلبه لم يَرقّ لي، فكنتُ أطلب وساطة بعض مَن أتوسم أنهم يؤثرون فيه كأعمامي أو عماتي أو بعض أصدقائه، فكان يرفض وساطتهم بشدةٍ، ويُعنفني ويوبخني ويتوعدني بالعقاب؛ لأنني -على حد قوله- أُقحمهم في أمورنا الخاصة، وأكشف لهم أسرار بيتنا!"، قلتُ له: "الزم بِر والدك مهما صنع؛ وعامله بالحُسنى، عسى أن يَرقّ قلبه، وأكثِر من الدعاء له بالهداية، ولا تيأس من التودد إليه، واختر رجلاً من الحُكماء المؤثرين الذين يحفظون أسرار البيوت ويمتلكون مهارات التأثير واجعله وسيطاً بينك وبين أبيك، فربما الأعمام أو العمات لا يمتلكون هذه القُدرات حتى وإن لم يستجب والدك لهذا الوسيط، فلا تيأس، وبادِر بالرجوع إلى البيت، وتحمَّل ما تلقاه من أبيك واستعدّ لذلك بالصبر، وأظهِرْ له منك كل قولٍ حسنٍ وتعاملٍ راقٍ، واضرب على أوتار عواطفه، كأن تقول له: {أنا ابنكَ يا أبي، وليس لي في حياتي أَحبَ منكَ، لو كنتُ تدري كيف كنتُ أنام في الأيام الماضية لما تركتني خارج البيت لحظةً} وتحكي له ما عانيتَه، وعاهده على طاعته وإرضائه -طبعاً فيما لا يختلف مع شرع الله عزَّ وجلَّ- واستعن بذِكر الله تعالى والدعاء، وتذكَّر بلاء الناس عسى أن يُخفف الله عنكَ بلاءك.

أنا أُدرك يا بُني نفسية الشخصية القاسية، وأعلم أنه لا يُعير الآخرين اهتماماً، ولا يُقدِّر إنسانيتهم، ولكنك إذا ذكَّرتَ نفسكَ بأجر الصبر على والدك وبِره رغم قسوته لبادرتَ إلى ذلك ولسارعتَ، ولوجدتَ في ذلك لذةً في تلك الطاعة التي تحتسبها عند ربك، وترجو ثوابه وأجره العظيم، واعتبر ذلك بلاءً واصبر عليه".

وقلتُ له أما عن أسئلة والدتك؛ فأقول لها: "اصمدي فأنتِ على الحق، ولن يُخيِّب الله جهدكِ، ولن يُضيِّع أجر صبرك، كوني شامخةً للحفاظ على أولادكِ، ولا بأس أبداً من أن يراكِ ابنكِ المطرود من البيت، وأن تحظي برؤيته دون علم أبيه، وليس في ذلك حرجٌ شرعيٌ، ولا تُثيري هذه القضية مع زوجكِ القاسي؛ لأن ذلك سيُسبب لك مُشكلاتٍ. احرصي على ضبط المعادلة العاطفية مع أولادكِ -وخاصةً البنات- فكثيرٌ من الآباء يُخطئ عندما يقسو على أولاده وزوجته، ويستقي ذلك من ميراثه الاجتماعي الذي عاشه في أُسرته الأولى، ظناً منه أنه بهذه القسوة سيُحافظ على زوجته وأولاده من الانحراف، وهو في الوقت ذاته يملك قلباً رقيقاً حنوناً، ولكن ذلك قد يأتي بنتائج عكسيةٍ؛ فكثيرٌ من الأبناء والبنات عندما تُتاح لهم الفرصة خارج البيت للحصول على الحُب والعاطفة واللين التي افتقدوها في البيت فإنهم يقعون في المحظور، وكثيرٌ من الخيانات الزوجية، والانحرافات السلوكية للأبناء والبنات يكون سببها قسوة الزوج والأب، فاحرصي أيتها الأُم العظيمة على منح أبنائكِ وبناتكِ حُباً يُعوِّض قسوة هذا الأب المُتسلط؛ حتى تحميهم من الانحراف، واصبري ولك الأجر العظيم من رب العالمين. يُمكن أن تُوسطي مَن يؤثر فيه مِن الحكماء أو الدُعاة أو المُصلحين دون أن يُعْلِمَه بأنكِ طلبتِ وساطته؛ لأن الشخصية المتسلطة القاسية لا يهمها إلا مصلحتها الشخصية، ولا يُقدِّر الآخرين وخاصةً أفراد أسرته، وأكثِري من الدُعاء له بالهداية، فكثيرٌ من الأزواج والآباء القُساة يظنون أنهم بقسوتهم هذه سيحمون أُسرتهم، وربما يحملون -رغم قسوتهم- قلوباً رحيمةً ودودة".

 

أحبتي في الله.. يقول أهل العلم إن الرحمة في أبسط معانيها، أن تملك قلباً رقيقاً عطوفاً ودوداً مُحباً للآخرين، وما كان رسولنا العظيم لينجح في إيصال رسالته -رغم ما لاقاه من تعنتٍ وصدود- إلا لكونه يملك قلباً رحيماً؛ يقول تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾، ومن أجل الرحمة بالعالمين أرسله الله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الرَّاحِمونَ يرحمُهُمُ الرَّحْمَنُ. ارحَموا مَن في الأرضِ يَرْحَمْكُم مَن في السَّماءِ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ منَ الرَّحمنِ فمن وصلَها وَصَلَهُ اللَّهُ ومَن قَطَعَها قَطَعَهُ اللَّهُ]. يقول شُرَّاح الأحاديث: "الرَّاحِمونَ"، الذين يرحمون مَن في الأرض مِن إنسانٍ أو حيوانٍ أو طيرٍ أو غيره؛ شفقةً ورحمةً ومواساةً. "يرحمُهُمُ الرَّحْمَنُ"، برحمته التي وسعت كل شيءٍ، فيتفضل عليهم بعفوه وغُفرانه وبِره وإحسانه، فالله عزَّ وجلَّ مُتصفٌ بالرحمة، وهو سُبحانه الرحمن الرحيم، الموصل الرحمة إلى عباده. (ارحموا من في الأرض)، أي: جميع مَن في الأرض مِن أنواع الخلق. "يَرْحَمْكُم مَن في السَّماءِ"، وهو الله تعالى العلي بذاته، المُستوي على العرش فوق سماواته. "الرَّحِمُ شُجْنَةٌ"، الشجنة في الأصل: عروق الشجر المشتبكة، والمُراد بها القرابة المشتبكة كاشتباك العروق؛ فمن الرحم جاءت الرحمة. "فمن وصلها"، أي: الرحم. "وَصَلَهُ اللَّهُ"، أي: أوصل الله إليه رحمته وإحسانه وإنعامه. "ومَن قَطَعَها"، أي: الرحم، "قَطَعَهُ اللَّهُ"، أي: قطع الله عنه الرحمة والإحسان والإنعام.

 

ويقول العلماء عن الرحمة والتراحم: أكثر ما يحتاج له الناس هذه الأيام هو التراحم فيما بينهم، فالرحمة والتراحم أجمل شيءٍ في الحياة، لو دخلت قلوبنا وأدخلناها في حياتنا وبيوتنا صلُحت أمورنا كُلُّها. والتراحم هو وصفٌ للمجتمع المسلم، وصف الله به أهل الإيمان؛ يقول تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾. كما أنها مخرجٌ مما نحن فيه من الهموم والمصائب والأزمات، وملجأٌ من الغموم والفتن والنكبات. والمُجتمع المُسلم كله يقوم على الرحمة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى]. والله عزَّ وجلَّ أرحم الراحمين؛ فهو الرحمن وهو الرحيم، لو فتح سُبحانه باب رحمته لأحدٍ مِن خَلقه، فسيجدها في كل شيءٍ، وفي كل موضعٍ، وفي كل حالٍ، وفي كل مكانٍ، وفي كل زمانٍ، فرحمته وسعت كل شيءٍ، كما أنه لا مُمسك لرحمته؛ يقول تعالى: ﴿مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍۢ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦ﴾. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة؛ فقد كان أرحم الناس؛ وهبه الله قلباً رحيماً، يرق للضعيف، ويحن على المسكين، ويعطف على الخَلق أجمعين. ومن علامات سعادة العبد أن يكون رحيم القلب؛ فالرحيم أولى الناس برحمة الله، وهو أحب الناس إلى الناس، والأقرب إلى قلوبهم، وهو الأحق بالجنة لأنها دار الرّحمة لا يدخلها إلّا الرّاحمون؛ يقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا رَحِيمٌ]. أما حين تنعدم الرحمة من القلوب فإنها تُصبح مثل الحجارة أو أشد قسوةً؛ يقول تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾. ويقول عليه الصلاة والسلام: [إن أبعدَ الناسِ من اللهِ القلبُ القاسِي]، أي: ذو القلب القاسي. ويقول صلى الله عليه وسلم: [لا تُنْزَعُ الرحمةُ إلا مِن شَقِيٍّ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [خَابَ عَبْدٌ وَخَسِرَ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ رَحْمَةً لِلْبَشَرِ]. إن هذه القسوة التي تُصيب القلوب هي في حقيقتها عقوبةٌ من الله تعالى لبعض عباده جزاء ما اقترفوه؛ قال أحد التابعين: "ما ضُرِب عبدٌ بعقوبةٍ أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله على قومٍ إلا نزع الرحمة من قلوبهم".

 

وعن معنى (ارحموا من في الأرض) قال الشاعر:

إِنْ كُنتَ لَا تَرحَمُ المِسكِينَ إِنْ عَدِمَا

وَلَا الفَقِيرَ إِذَا يَشكُو لَكَ العَدَمَا

فَكَيفَ تَرجُو مِنَ الرَّحمَنِ رَحمَتَهُ

وَإِنَّمَا يَرحَمُ الرَّحمَنُ مَنْ رَحِمَا

 

أحبتي.. لا أجد وصفاً لبيان كيف يُلزم كلٌ منا نفسه بمبدأ (ارحموا من في الأرض) أفضل مما ذكره عالمٌ فاضلٌ بقوله: كُن رحيماً مع جميع الخلق، لطيفاً مع كل عباد الله، وإن لم تستطع نفع إنسانٍ فلا تضره، وإن لم تُفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه، وإن لم تقف معه فلا تُعِن عليه، وإن لم تفرح بنعمته فلا تحسده، وإن لم تمنحه الأمل فلا تُحبطه. لا تكن جاف المشاعر، قاسي القلب، ولكن كُن رحيماً فالراحمون يرحمهم الرحمن، وبقدر الرحمة التي تُعطيها لمخلوقات الله من بشرٍ وحيوانٍ وطائرٍ ونباتٍ وجمادٍ يرحمك ربُ الأرض والسموات، في الدنيا والآخرة.

اللهم يا مقلب القلوب، ثبِّت قلوبنا على دينك؛ فكما يقول الحبيب المُصطفى عليه الصلاة والسلام: [ليس آدَميٌّ إلَّا وقَلبُه بين أُصبَعَينِ مِن أصابعِ اللهِ]؛ فليكن دعاؤنا: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾، وأنعِم علينا بصفتيّ: الرحمة واللين، وانزع من قلوبنا الفظاظة والغلظة والقسوة؛ إنك على كل شيءٍ قدير.

 

https://bit.ly/3NQhU6C

الجمعة، 25 أكتوبر 2024

العزم والتوكل على الله

 

خاطرة الجمعة /470

الجمعة 25 أكتوبر 2024م

(العزم والتوكل على الله)

 

وُلِد ب«المملكة العربية السعودية»، في قريةٍ صغيرةٍ ب«المنطقة الشرقية» يتردد عليها البدو الرُحَّل طلباً للماء تُسمى «الراكة». في تلك البيئة عاش الطفل الصغير البدوي مع أُسرته التي كانت تبحث بشرفٍ عن قوت يومها، وارتحل خلال سنواته الأولى في البادية، وانتقل إلى «الصمّان» شمال شرق «الرياض»، واُضطر لإعالة أسرته بعد وفاة أخيه ومرض أبيه الذي أقعده عن العمل؛ فرعى الغنم وهو ابن أربع سنين، ولم يلبس نِعالاً إلا في سن التاسعة. تلقى تعليمه الأساسي في مدرسة «الجبل» التابعة لشركة «أرامكو» وكان شغوفاً بالدراسة، إلا أنه كان مُضطراً للعمل وهو في سن الثانية عشرة؛ فعمل في شركة «أرامكو» مقابل تسعين ريالاً، إلا أنه طُرد بعد تسعة أشهرٍ، نتيجة صدور القوانين التي تحظر العمل على مَن هُم دون الثامنة عشرة؛ فاتجه للعمل في ثلاثة أعمالٍ أخرى في «الظهران»، قبل أن يعود إلى شركة «أرامكو» بوظيفة كاتبٍ مُبتدئ. بدأت قصة نجاحه بموقفٍ غريبٍ دفعه للتحدي والعزم على تغيير مسار حياته؛ فقد شعر بالعطش في يومٍ شديد الحر؛ فذهب إلى غُرفة الإدارة ليشرب رشفة مياهٍ باردةٍ تروي عطشه، فما كان من المهندس الأمريكي إلا أن نهره بشدةٍ لشُربه من المياه المخصصة للمهندسين فقط دون سائر العاملين. أثار هذا الموقف في نفسه حالةً من الغضب جعلته يعزم على مواصلة دراسته للحصول على شهادةٍ جامعية. توكل على الله وضاعف من جهده في العمل، وأبدى استعداداً خاصاً للتعلم فانتظم في دراسةٍ ليليةٍ، ثم اُختير للالتحاق بعدة دوراتٍ دراسيةٍ في الخارج، بدأت في «بيروت» حيث درس في الكلية العالمية «إنترناشونال كوليدج»، ثم في «الجامعة الأمريكية»، وتابع تحصيله بعد ذلك في «جامعة ليهاي» في «بنسلفانيا» حيث نال درجة البكالوريوس في الجيولوجيا، ثم حصل على درجة الماجستير في الجيولوجيا من «جامعة ستانفورد». عاد بعدها مهندساً، عمل بإدارة التنقيب، وأظهر قدراتٍ متميزةٍ، وحين سأله المدير العام للشركة: "لماذا اخترتَ مجال الجيولوجيا؟"، بادره بالرد: "لأني أُريد أن أُصبح رئيساً للشركة"، ما أثار إعجاب المدير، الذي قال: "يا بُنيّ، هذا أفضل جوابٍ سمعته في حياتي".

تزوج خلال فترة دراسته، ثم عاد هو وأُسرته إلى «الظهران»، وعُين جيولوجياً في قسم التنقيب والإنتاج. كان راغباً في العمل والتعلم، ولذلك اكتسب سريعاً المهارات التي تجعله ينطلق في مسيرةٍ عمليةٍ ناجحةٍ ومُتميزة؛ فعقب عودته من «الولايات المتحدة الأمريكية» كان من أكثر المرشحين السعوديين لمستوى مدير عام، وكان في الأربعين من العمر حين رُقيَّ إلى منصب مدير الإنتاج في «المنطقة الشمالية»، مسؤولاً عن 11 حقلاً من بين 15 حقلاً في «أرامكو». كما اُختير نائباً للرئيس لشؤون الإنتاج وحقن المياه. وتنقل بين مهام ومسؤولياتٍ مُختلفةٍ، وأخذ يترقّى إلى أن تولّى وظيفة النائب الأعلى للرئيس لشؤون الزيت، وكانت هذه أعلى مرتبةٍ يبلغها سعوديٌ في الشركة. انتُخب عضواً في مجلس إدارة «أرامكو»، ثم اختاره المجلس ليكون أول رئيسٍ سعوديٍ للشركة؛ فحقق بذلك حُلمه!

عاد المهندس الأمريكي، الذي سبق ونهره لشربه من المياه الباردة الخاصة بالمهندسين، عاد لمقابلته، ولكن هذه المرة كان يعمل تحت إدارته، طلب منه الحصول على إجازةٍ، ورجاه أن ينسى ما حدث بينهما قديماً، فرد عليه بأخلاق النبلاء وبتواضعٍ رائعٍ قائلاً: “في البداية أحب أن أُقدم لك الشكر من كل قلبي على منعي في ذلك اليوم من شُرب الماء البارد، صحيحٌ أنني حزنتُ وقتها كثيراً، ولكن كنتَ أنت أيها المهندس السبب -بعد الله عزَّ وجلَّ- في أن أُصبح على ما أنا عليه الآن، رئيساً للشركة"!

ثم أراد أن يتقاعد عند بلوغه الستين إلا أنه تم تعيينه وزيراً للبترول والثروة المعدنية، وتم التجديد له أكثر من مرة. وفي عهده شهدت «منظمة أوبك» تطوراً في أدائها، وأصبحت منظمةً اقتصاديةً دوليةً مُؤثرة. كان مُلخص قصته مع شركة «أرامكو» مُثيراً: "طُرد منها، ثم عاد إليها وترأسها"!

بجانب ذلك تم تكليفه بالإشراف على تأسيس «جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية»، ثم أصبح رئيساً لمجلس أُمنائها، ومُنح «وشاح الملك عبد العزيز من الدرجة الثانية» بمناسبة افتتاحها.

خلال مسيرته حصد الكثير من الجوائز وشهادات التكريم الوطنية والدولية؛ كما حصل على عددٍ من شهادات الدكتوراه الفخرية: من «جامعة هاريوت وات» في «إدنبره»، و«جامعة سول الوطنية» في «كوريا»، و«جامعة بكين» في «جمهورية الصين الشعبية»، و«جامعة العلوم والتقنية AGH» في مدينة «كراكوف البولندية»، و«جامعة ليهاي» في ولاية «بنسلفانيا» الأمريكية.

وتوثيقاً لمسيرته في الحياة والعمل، أصدر كتاب السيرة الذاتية «من البادية إلى عالم النفط» بنسختيه الإنجليزية والعربية، وعرض فيه نموذجه في تطوير الذات، وقصة ارتقائه من صبيٍ بدويٍ يرعى الغنم إلى رئيس شركة «أرامكو» وكبير إدارييها التنفيذيين، إلى أن أصبح وزيراً للبترول والثروة المعدنية بعد ذلك لمدةٍ تزيد عن عشرين عاماً. قال في مجلس شباب الأعمال إن السر وراء نجاحه يرجع أولاً إلى توفيق الله، ثم إلى (العزم والتوكل على الله) والتفاني في العمل. إنه: علي بن إبراهيم النعيمي.

 

أحبتي في الله.. يُقال إن للنجاح طُرقاً مُختلفةً، ربما أطولها وأكثرها مشقةً أن يكون المرء عصامياً، يبني نفسه بنفسه، ويصنع مستقبله ب(العزم والتوكل على الله).

 

يمدح الله سُبحانه وتعالى صفتي العزم والتوكل عليه؛ فوصف بعض رُسله بأنهم ﴿أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، ويقول تعالى بعد وصف فضائل الأعمال: ﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾، ثم بعد العزم يكون التوكل على الله؛ يقول سُبحانه: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾، وخاطب رسوله نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾، وعن التوكل عليه سُبحانه يقول تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾.

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [واسْتَعِنْ بِاللَّهِ، ولَا تَعْجَزْ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [لو أنَّكُم تتوَكَّلونَ على اللَّهِ حقَّ توَكُّلِه لرزقَكم كما يرزقُ الطَّيرَ تغدو خِماصًا وتروحُ بطانًا]. وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ].

 

ويقول العلماء إن (العزم والتوكل على الله) لهما فوائد منها: أنهما من وسائل تهذيب النفس، وتحصيل الأخلاق الفاضلة، وهما من صفات المؤمن القوي، تُعيناه على تحقيق التقوى؛ وذلك بحمل النفس على فعل المأمورات وترك المنهيات، كما أنهما من وسائل التخلص من التردد.

ومن موانع اكتساب صفتي (العزم والتوكل على الله): العجز والكسل؛ فهُما العائقان اللذان أكثر الرسول صلى الله عليه وسلم من التعوذ بالله منهما. ومن الموانع أيضاً التسويف والتمني وترك الأخذ بالأسباب، والفتور والغفلة، وتضييع الوقت وعدم الإفادة منه، وشغله بما لا يعود بالنفع، وتقديم غير المُهم على المُهم، والتهرب من كل عملٍ جديٍ، وتبرير العجز والكسل، واختلاق المعاذير، واصطناع الأسباب؛ للتخلص من أي التزامٍ، والانشغال بجزئياتٍ وتفاصيل لا قيمة لها، وترك كل عملٍ مفيدٍ ومُخططٍ له.

أما الوسائل المُعينة على تقوية (العزم والتوكل على الله) فأهمها: حُسن الظن بالله سُبحانه وتعالى في الوصول للهدف، وكثرة الدعاء، والاقتداء بأصحاب العزائم من أهل الصلاح والدِين، ومصاحبة أهل العزائم القوية والهمم العالية، والمُسارعة في العمل وعدم التردد بعد عقد العزم على الأداء، ففي ذلك يكون الخير؛ يقول تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾.

 

يقول الشاعر:

عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ

وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ

ويقول آخر:

إذا غامرتَ في شَرفٍ مَرومْ

فلا تقنعْ بما دونَ النجومْ

ويقول ثالثٌ:

وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَالِ

يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَر

ويقول رابع:

ومَن تكنِ العلياءُ هِمَّةَ نفْسِه

فكلُّ الَّذي يلقاهُ فيها مُحَبَّبُ

 

أحبتي.. لنستلهم العِبَر من قصص الناجحين، ونتعلم منهم كيف واجهوا الحياة، بإيمانٍ بالله سُبحانه وتعالى، وحُسنِ ظنٍ به، ثم بإصرارٍ لا يلين، وعزيمةٍ لا تفتر، وتوكلٍ على الله، وتفانٍ في العمل، وأخذٍ بالأسباب. ونتعلم منهم أهمية الصبر والكفاح، والتغلب على الصعاب وعدم الاستسلام لها، وتحويل المواقف المُحبطة إلى مُحركاتٍ للهمة، شاحذاتٍ للإرادة والنيةٍ، شاحناتٍ لثقتنا في أنفسنا وقدراتنا، دافعاتٍ لنا للتفوق والنجاح والإنجاز. وليعلم كلٌ منا أن الاهتمام بأعمال الدنيا -فيما هو مشروعٌ- أمرٌ نحن مطالبون به؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إنْ قامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةٌ فإنِ استَطاعَ أن لا تَقومَ حتَّى يغرِسَها فلْيغرِسْها]، فلنغرس فسائلنا ونتعهدها حتى تُثمر؛ لنكون من الفائزين بإذن الله في الدنيا والآخرة.

اللهم إنا نعوذ بك من الهَم والحَزَن، ومن العجز والكسل. ونسألك ربنا أن تُنعم علينا بقوة الإرادة وصدق العزيمة. وتُعيننا على التوكل عليك والإخلاص لك.

 

https://bit.ly/3YBun4g

الجمعة، 18 أكتوبر 2024

فرَج الله

 

خاطرة الجمعة /469

الجمعة 18 أكتوبر 2024م

 (فرَج الله)

قصةٌ واقعيةٌ وحقيقيةٌ؛ تقول امرأةٌ: توفيت أُمي عندما كنتُ في سن الرابعة؛ فتزوج والدي من امرأةٍ أُخرى، بعد وفاة أُمي بعامٍ تقريباً. وكنتُ أنا الوحيدة التي أنجبتها أُمي رحمة الله عليها.. وكان لدى المرأة التي تزوجها والدي ثلاثة أولادٍ ذُكور، سمح لهم والدي بأن يعيشوا معنا في المنزل، وتكفل برعايتهم معي، وكان يُعاملهم كما لو كانوا أبناءه، ولم أرهُ يوماً يُميِّز أحدنا عن الآخر؛ فرغم أني ابنته الوحيدة، ومن لحمه ودمه، فإن والدي لم يكن يُفرق بيني وبينهم أبداً.

تُوفي والدي بعد خمس سنواتٍ، وكشف رحيله الأقنعة التي كان يرتديها الجميع؛ حيث تغيرت مُعاملتهم لي، وأصبحتُ أتعرض للسب والضرب بكل قسوة.. لقد كانت زوجة أبي قاسية القلب، حتى أنها منعتني من التعليم، وجعلتني خادمةً لها، ولم تكن تسمح لي بالخروج واللعب مع صديقاتي، وإذا رفضتُ لها طلباً تجعلني أنام دون طعامٍ ليومين متتالين!

‏عندما أصبحتُ في عُمر الخامسة عشرة، قامت زوجة والدي بتزويجي من شابٍ فقيرٍ جداً، دون أن تسأل عن أوضاعه أو ماذا يعمل، أو إن كان شخصاً يتحمل المسؤولية، ولم تسأل عن أخلاقه ونسبه وأصله، لقد كان كل همها هو إبعادي عن المنزل؛ حتى تستولي عليه بأكمله وعلى وِرثي عن والدي. حينها لم أُعارض؛ خوفاً من أن تؤذيني، ففوضتُ أمري إلى الله وتوكلتُ عليه ودعوته أن يجعل هذا الشاب تقياً رحيماً وحنوناً وودوداً بي؛ فأنا ضعيفةٌ ووحيدةٌ في هذه الدنيا. تزوجتُ، ولم تُقِم لي زوجة والدي مراسم زفافٍ مثل غيري من الفتيات! عوضني ربي عن ذلك كله بزوجٍ مؤمنٍ ملتزمٍ يتقي الله، انتقلتُ معه إلى منزله، وكان المنزل جميلاً جداً وكبيراً ومُرتباً؛ فاستغربتُ وتساءلتُ في نفسي: "كيف يملك كل هذا وهو فقيرٌ؟"، وبعد مرور عامٍ واحدٍ تفاجأتُ به يُخبرني أننا سننتقل إلى منزلٍ آخر، فسألته: "وماذا عن هذا المنزل؟ أليس هو مِلكك؟"، أجاب: "إنه ليس مِلكي، وإنما مِلك صديقٍ لي يعيش في الخارج، وسيعود الآن هو وأُسرته للعيش في منزله!"، فقلتُ: "لا مشكلة". في اليوم التالي انتقلنا إلى المنزل الحقيقي، لكني صُدمتُ حين رأيتُ المنزل؛ حيث كان عبارةً عن خرابةٍ ومنزلٍ حيطانه من القُماش والكراتين! نظرتُ إلى زوجي فوجدته يبكي، فسألته: "لماذا تبكي يا عزيزي؟"، فقال: "لأنني لم أُخبرك بالحقيقة منذ البداية أن ذلك المنزل ليس منزلي. كنتُ أُريد إخبارك بالحقيقة، لكني خِفتُ أن تتركيني وتعودين إلى منزلك"، فقلتُ له: "لا مشكلة لديّ أن نعيش في خرابةٍ، ما دُمنا سعيدين معاً". مرت الأيام، وبدأتُ أتأقلم على العيش في ذلك المنزل، وصبرتُ على هذا الوضع، وأدعو الله في كل صلاةٍ أن يُفرِّج عنا ما نحن فيه. مرَّت عدة سنواتٍ عشنا فيها بهذا المنزل المُتهدم غير الصالح للعيش، أنجبتُ خلالها أربع فتياتٍ، وكانت أوضاعنا تزداد سُوءاً يوماً بعد يومٍ؛ فقد أصبح زوجي لا يعمل، ويعود أغلب الأيام من الخارج فارغ اليدين، ومع ذلك كُنا صابرين، ندعو الله أن يفك كربنا، ويُفرِّج همنا. وفي ليلةٍ لا أنساها، كُنا نائمين بأمانٍ، فإذا بعاصفةٍ شديدةٍ، وبرقٍ ورعدٍ يخلع القلوب، وأمطارٍ تهطل بغزارةٍ مصحوبةً بريحٍ قويةٍ جداً، لم يتحملها منزلنا الضعيف فانهار وسقط فوق رؤوسنا، لكن -والحمد لله- لم نتعرض لأية إصابةٍ، لكننا صِرنا بلا مأوى وأصبحنا في العراء.. انتظرنا حتى توقف سقوط الأمطار وهدأت الريح وصفت السماء وأشرقت الشمس، وقُمنا بمحاولة إعادة المنزل إلى الحالة التي كان عليها قبل العاصفة، لكنه صار أسوأ كثيراً من حالته السابقة، صَبَرنا ولم نيأس من (فرَج الله) الذي يعد به عباده الصابرين. ليلةٌ أخرى لا تُغادر ذاكرتي أبداً؛ عندما عاد زوجي من الخارج حزيناً، ففهمتُ من تعابير وجهه أنه لا يمتلك المال لشراء الطعام، فقلتُ له: "لا تحزن يا عزيزي؛ يوجد لدينا بقية طعامٍ من وجبة الغداء"، ولأنه كان ينقصنا الخبز؛ لبستُ نقابي وذهبتُ أبحث عند الجيران عمن يُعطينا بعض كِسراتٍ من الخبز أو يُقرضنا المال لنشتري الخبز، فطرقتُ جميع أبواب الجيران، ولكن لا فائدة؛ فالكل كان يعتذر. شعرتُ وقتها أن قلبي يتمزق قهراً على أطفالي؛ خاصةً أن إحدى بناتي مريضةٌ؛ فجلستُ أمام المنزل من الخارج، وانفجرتُ بالبكاء، بكيتُ حتى جفت دموعي ثم دخلتُ، وعندما رأيتُ أطفالي ينظرون إليّ على أمل أن أكون قد عدتُ إليهم بالخبز؛ لم أستطع أن أحبس دموعي، فبكيتُ وقلتُ لهم: "سامحوني يا بناتي؛ لم أستطع توفير الخبز لكم، إنني أعتذر؛ سوف تنامون الليلة دون عَشاء". لم أكد أُنهي حديثي وإذا بشخصٍ يطرق الباب، فخرج زوجي وتحدث معه، وبعد ثوانٍ عاد زوجي وقال لي: "هيا بنا سوف نذهب"، فسألته: "إلى أين؟ ما المشكلة؟"، فقال: "زوجة أبيك تُوفيت منذ ثلاثة أيامٍ، وأراد أولادها الثلاثة بيع المنزل، وبما أنهم لا يملكون وصيةً من أبيكِ أو أوراقاً قانونيةً تُثبت أنهم مالكو المنزل الذي يُحاولون بيعه؛ فقد تم القبض عليهم وإيداعهم بالسجن، وهذا جارٌ لكم يُريد منكِ أن تذهبي لاسترداد المنزل الذي هو حقك ووِرْثك من أبيك"، بكيتُ فرحاً، وذهبنا وتسلمتُ الوِرْث، وانتقلنا للمعيشة في المنزل الذي عِشتُ فيه طفولتي. وكان لدى والدي أرضٌ بجانب المنزل؛ فقمتُ ببيعها، وعملتُ مشروعاً صغيراً لزوجي، وأدخلتُ بناتي إلى المدرسة، وقمتُ بمعالجة ابنتي المريضة، وتحسنت حالتنا خلال أيامٍ قليلة، والحمد لله رب العالمين.

أحبتي في الله.. إنه (فرَج الله).. يأتي بعد الصبر والشكر والقناعة والرضا بالقليل، ويأتي بالإخلاص في الدعاء وحُسن الظن بالله، واليقين التام بتحقق وعده لعباده الأتقياء. وكم من آيةٍ في كتاب الله تُبشر بالأمل؛ يقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾. ويقول تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾. ويقول سُبحانه: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾. ويقول أيضاً: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ﴾. كما يقول: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾. ويقول كذلك: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، وعن هذه الآية تحديداً يقول المفسرون إنها بشارةٌ عظيمةٌ؛ فكُلما وُجد عُسرٌ فإن اليُسر يُقارنه ويُصاحبه، حتى لو دخل العُسر جُحر ضَبٍ لدخل عليه اليُسر فأخرجه، وتعريف "العُسر" يدل على أنه واحدٌ، وتنكير "اليُسر" يدل على تكراره، فلن يغلب عُسرٌ يُسرين.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [تعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يعرِفْك في الشِّدَّةِ، واعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ على ما تكرهُ خيرًا كثيرًا، واعلَمْ أنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ، وأنَّ الفرَجَ مع الكرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [يقولُ اللَّهُ تَعالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي]. وورد في الأثر "انتظارُ الفرجَِ من اللهِ عبادةٌ".

 

إنه الفرَج بعد الشدة؛ الذي يصفه أحد العلماء بقوله: بعد الجوع شبعٌ، وبعد الظمأ ريٌّ، وبعد السهر نومٌ، وبعد المرض عافيةٌ. سوف يصل الغائب، ويهتدي الضالّ، ويُفَكّ العاني، وينقشع الظلام. بشِّر الليل بصبحٍ صادقٍ سوف يُطارده على رؤوس الجبال ومسارب الأودية، بشِّر المهموم بفرجٍَ مُفاجئٍ يصل في سرعة الضوء ولمح البصر، بشِّر المنكوب بلطفٍ خفيٍّ وكَفٍّ حانيةٍ وادعة. إذا رأيتَ الصحراء تمتد وتمتد، فاعلم أن وراءها رياضاً خضراء وارفة الظلال. إذا رأيتَ الحبل يشتد ويشتد، فاعلم أنه سوف ينقطع. مع الدمعة بسمةٌ، ومع الخوف أمنٌ، ومع الفزع سكينةٌ. فلا تُضق ذَرعاً، فمن المُحال دوام الحال، والأيام دُوَلٌ، والدهر يتقلّب، والليالي حُبلى، والغيب مستورٌ، والعُسر قادمٌ بعد كل عُسر.

 

وقال الشاعر:

وَلَرُبَّ نازِلَةٍ يَضيقُ لَها الفَتى

ذَرعاً وَعِندَ اللَهِ مِنها المَخرَجُ

ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها

فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ

وقال آخر:

لطائفُ اللهِ وإن طالَ المدى

كلمحةِ الطَّرفِ إذا الطَّرفُ سجى

كم فَرَجٍ بَعْدَ إياسٍ قد أتى

وكمْ سرورٍ قد أتى بَعْد الأسى

وقال ثالث:

عَسى فرَجٌ يكونُ عَسى

نُعللُ النَفْسَ بِعَسى

فلا تَجْزَع إنْ حُمِّلتَ

هَمّاً يَقطعُ النَفَسا

فأقربُ ما يكونُ المَرءُ

مِن فرَجٍ إذا يئِسا

 

أحبتي.. أختم بهذا الاقتباس: "إن الشدائد –مهما تعاظمت وامتدت- لا تدوم على أصحابها، ولا تخلد على مُصابها، بل إنها عندما تكون أقوى ما تكون اشتداداً وامتداداً واسوداداً، تكون في الواقع أقرب ما تكون انقشاعاً وانفراجاً وانبلاجاً، عن يُسرٍ، وفرَجٍ وهناءةٍ، وحياةٍ رخيَّةٍ مُشرقةٍ وضّاءة، فيأتي العون من الله والإحسان عند ذُروة الشدة والابتلاء والامتحان، وهكذا فإن نهاية كل ليلٍ غاسقٍ هي البداية لفجرٍ صادق".

صدق من قال: "ما بينِ غمضةِ عَيْنٍ وانتباهتها، يُغيّرُ اللهُ من حالٍ إلى حالِ".

اللهم يا مُغيِّر الأحوال غيِّر أحوالنا إلى أحسن حالٍ، واكتب لنا حُسن المآل. اللهم اجعلنا من المُتقين الصابرين عند ابتلائك، الشاكرين عند نِعَمَك وآلائك، الذين يُحسنون الظن بك، ويُوقنون بصدق وعدك، ورحمتك ولُطفك بعبادك المُحسنين، وفرَجك لهم.

 

https://bit.ly/3Y9PoBK