خاطرة الجمعة /473
الجمعة 15 نوفمبر 2024م
(عند الله لا تضيع الودائع)
تقول صاحبة القصة: رأيتُ في منامي أحدَهم يُهاتفني ويقول لي: "هناك
أُسرةٌ تحمل اسم....، نازحـ.ـةٌ، تُقيم في أحد الأزقة بوسط قطـ.ـاع غـ.ـزة، عددهم
أقل من عشرة أشخاصٍ، اذهبي إليهم قبل أذان المغرب، وخُذي معكِ طرداً به مواد
غذائية"، وخلال هذا الهاتف كنتُ أرى نفسي أمشي في أزقةٍ أعرفها في الحقيقة،
وكأنني أُساق إلى هذه الأسرة بعلاماتٍ واضحةٍ بيّنةٍ، وقد وقع في نفسي اسم
الزيتون. انتهى المنام.. واستيقظتُ صباحاً، وذهبتُ لذات المكان الذي رأيتُه في
المنام، وسألتُ هناك عن تلك الأسرة بنفس المعلومات التي قيلت لي في الرؤية وبدون
أي نُقصان؛ فدُلني أحدُهم عليها، وكانوا يسكنون في دُكانٍ صغير.. كنتُ أعلم يقيناً
أن شراء مواد غذائيةٍ أمرٌ مستحيلٌ، فلا يوجد أي شيءٍ في الأسواق، لكنني قلتُ أذهب
إلى السوق عسى أن أجد ما يسدّ جوع هذه الأُسرة، وما إن وصلتُ حتى رأيتُ ثلاث
عرباتٍ كلٌ منها يعرض المواد الغذائية الأساسية -المقطوعة أصلاً منذ شهور- وبذهولٍ
كبيرٍ، وبدون أي ترددٍ توجهتُ نحو تلك العربات، واشتريتُ كل شيءٍ، وعدتُ مسرعةً
أُسابق الوقت لأصل إلى الأُسرة قبل أذان المغرب، وبالفعل وصلتُ مع أول تكبيرةٍ
للأذان.. دخلتُ الدُكان الذي تُقيم به الأُسرة، رأيتُ أُمّاً مُقعدةً قد بُترت
ساقاها، علمتُ فيما بعد أن البتر تم في أول الحـ.ـرب، كان حول الأُم أبناؤها،
عندما سألتهم عن والدهم أجابوني أنه بقي في الشَمال وقد انقطعت أخباره عنهم..
سألتهم عمن يقوم على أمورهم، خاصةً وأنهم لا زالوا صغاراً، فأجابتني ابنتها:
"والدي في آخر مكالمةٍ قال لنا تركتكم في ودائع الرحمن".. وقال لي أحد
الأبناء: "في كل يومٍ يمر بائع العصير المثلج الذي يكفل أيتاماً ليسوا
بأبنائه، فتدفعنا أُمي لشراء العصير منه لأجل أولئك الأيتام"!
يا الله.. تركهم أبوهم في ودائع الرحمن، فمن ذا الذي يضيع وهو في كنف
الرحمن الرحيم وفي ودائعه؟ ليسوا سوى أطفالٍ وأمهم مُقعدةٌ، ويُقيمون في دُكانٍ
صغيرٍ بين أزقةٍ في مدينةٍ مُدـ.ـمرة.. ساق الله لهم من يمشي في قضاء حاجتهم، وهُم
الذين لم يُظهروا حاجتهم إلا لوجهه الكريم.. بل إن أُمهم كانت تقول لي:
"يقيني بالله كبيرٌ أنه لن يُضيّعنا أبداً".. عندما انتهت زيارتي لهم
وهَمَمْتُ بالخروج، إذ بي أسمع الأُم تقول: "يخطر على بالي الزيتون"،
فتذكرتُ الرؤية، وأن الزيتون قد ذُكِر فيها، فقررتُ أن أعود للعربات الثلاث لأشتري
زيتوناً للأُم.
وكانت المفاجأة عند عودتي للسوق لشراء الزيتون؛ إذ لم أجد أية عربةٍ من تلك
العربات الثلاث، وكلما سألتُ أحدهم أين ذهبت تلك العربات التي كانت تبيع الأُرز
والزيت والسُكر؟! تعجبوا من سؤالي وقالوا لي: "لا توجد أية عربةٍ تبيع هذه
المواد هنا، بل إن الكثير من المواد الغذائية مقطوعةٌ تماماً منذ فترةٍ
طويلة"! بحثتُ بالسوق حتى وجدتُ محلاً يبيع الزيتون؛ فاشتريتُ منه وعُدتُ إلى
الأُم المُقعدة وأبنائها، وأنا على يقينٍ بأن هذه الأُسرة بينها وبين الله شيءٌ
عظيم.
أحبتي في الله.. إنها عناية الله بهذه الأُسرة، لِمَ لا وقد كان أبوهم قد
استودعهم الله، وتركهم في ودائع الرحمن، قبل غيابه عنهم، ومن كان وديعةً عند الله
لا يضيع أبداً؛ فمن اليقين القول: (عند الله لا تضيع الودائع).
يُذكرني هذا بموقفٍ حكاه أحد الآباء قال فيه: قبل عدة أسابيع كنتُ خارجاً
من المسجد ومعي أبنائي الصغار، فانطلق أصغر واحدٍ منهم يجري في اتجاه المنزل، وكان
هناك شارعٌ يفصل بين المسجد والمنزل، وهذا الشارع تمر به السيارات؛ فخفتُ على ابني
الصغير أن تصدمه سيارةٌ من السيارات المارة؛ فرفعتُ صوتي أُحذره من السيارات وأنا
أقول له: "ثامر.. انتبه السيارات.. انتبه السيارات".. لكن ابني كان
ينطلق بسرعةٍ، وتأكدتُ في تلك اللحظة أنه لن يتوقف عن الجري.. فوفقني الله إلى أن
أقول وبصوتٍ عالٍ: "أستودعتك الله"، والله -الذي لا إله إلا هو- ما إن
انتهيتُ من قول تلك الجملة إلا وسمعتُ صوت فرامل سيارةٍ، وإذا ابني يقف أمام
مُقدمة السيارة ليس بينها وبين دهسه إلا شعرةٌ؛ سارعتُ إلى الإمساك به وضمه إلى
صدري وتهدئة مخاوفه، ثم عندما وصلنا إلى المنزل كان أول شيءٍ فعلته هو أن سجدتُ
لله سجدة شكرٍ أن حفظ ابني، وأن سددني ووفقني للنُطق بكلمات الاستوداع.
عن حِفظ الله يقول تعالى: ﴿فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾. وسمى الله عزّ
وجلَّ نفسه بالحفيظ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾،
ويقول سُبحانه: ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ:
﴿اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾، يقول المفسرون إن
الحفيظ هو الحافظ، يحفظ السموات والأرض وما فيهما، وهو الذي يحفظ عباده من المهالك
ويقيهم مصارع السوء؛ كما في قوله سبحانه: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ أي: بأمره. ويحفظ أولياءه
فيعصمهم ويحرسهم عن مكايدة الشيطان، ليسلموا من شره وفتنته، ويلطف بهم في الحركات
والسكنات. إن الله تعالى لم يُسْتَودَعْ شيئاً قط إلا حفِظه، كما استودعتْ أُم
موسى موسى، وكما استودع يعقوبُ يوسفَ، ودائع الله لا تضيع في السماوات ولا في
الأرض؛ إذ أن (عند الله لا تضيع الودائع).
وكان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِذا أَرَادَ أَنْ يُوَدِّعَ
الجَيْشَ قال: [أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكُمْ، وَأَمَانَتكُم، وَخَوَاتِيمَ
أَعمَالِكُمْ]. كما كان عليه الصلاة والسلام يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ
سَفَراً: [أَسْتَوْدِعُ اللَّه دِينَكَ، وَأَمانَتَكَ، وخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ]. ورد
في شرح الحديث أن الاستيداع هو برجاء حُسن الخاتمة؛ لتكون العاقبة مأمونةً في
الدُنيا والآخرة، وأن تكون الأعمال مختومةً بخير؛ فالأمر يشمل الدين والأمانات.
وكل شيءٍ يحتاج الإنسان إلى حفظه، فإنه يسأل الله عزَّ وجلَّ ذلك، وهو في حق
المُسافر أولى؛ لأن في السفر مشقةً وخوفاً، وهما سببان من أسباب إهمال بعض أمور
الدين، والتقصير في بعض العبادات، والله عزَّ وجلَّ يحفظ على المؤمن دينه، ويحول
بينه وبين ما يُفسده عليه.
ويوجهنا صلّى الله عليه وسلّم بقوله: [مَن أرادَ أن يسافرَ، فليقُلْ لِمَن
يُخلِّفُ: أستودعكم اللَّهَ الَّذي لا تضيعُ ودائعُهُ]
أي يقول لِمَن يُخلِّفُ: أي لمن يتركهم وراءه، أستودعُكَم اللَّهَ: أي
جعلتكم في حفظ الله وأمانته. وفي الحديث يحثّ صلّى الله عليه وسلّم المُسافر على
الدُعاء لأهله وأحبابه عند سفره، فيجعلهم وديعةً عند الله تعالى، وهو سُبحانه خير
الحافظين للودائع والأمانات. وكان عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه إذا عزموا على
سفرٍ: [أستودِعُكَ اللهَ الذي لا يُضيِّعُ ودائِعَهُ]، وهذا يدل على مشروعية
التوديع بهذه الألفاظ، وأن الله يحفظ ما استودعه. ويقول صلى الله عليه وسلم: [إنَّ
اللهَ إذا استُودِعَ شيئًا حفِظَه]، وفي هذا تأكيدٌ على أن حفظ الله يشمل كل شيء؛
فإذا دعاه عبده بحفظ شيءٍ، وجعله وديعةً عنده، حفظه لصاحبه الذي استودعه عنده؛
فالله تعالى هو خير الحافظين.
يقول العلماء إن استيداع العبد لربه شيئاً هو دعاءٌ، والدعاء عبادةٌ لله
تعالى، وهو سببٌ من أعظم أسباب حصول المطلوب، وقد يُقدِّر الله تعالى له إجابة
دعائه، بحسب ما دعا، وقد لا يُقدِّر الله له إجابة تلك الدعوة بعينها؛ لكن متى
أخلص العبد دعاءه لربه، فإنه يظفر من ذلك بأجر العبادة والإخلاص لله، ثم إن الله
تعالى لم يضمن لعباده أن يُعجِّل لهم كل شيءٍ دعوه به، بل أمْرُ ذلك إلى الله؛
فإما أجابهم، وإما ادخر لهم من الخير ما يوافي ذلك، وإما صرف عنهم من الشر ما
يكافئه؛ شريطة ألا يُعجِّل العبد على ربه، ولا يستحسر؛ قال النَّبِيَُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا
إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ:
إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي
الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا]، قَالُوا:
إِذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: [اللَّهُ أَكْثَرُ].
أحبتي.. (عند الله لا تضيع الودائع) عبارةٌ علَّق عليها أحد العلماء بقوله:
استودعوا الله كلّ ما تُحبّون، اجعلوا كلّ ثمينٍ وغالٍ في قلوبكم في ودائع الله
عزَّ وجلَّ، استودعوه عائلاتكم وأحبابكم وأحلامكم وأسراركم وأوطانكم، اسألوا الله
أن يحفظها لكم دوماً، فهو خيرُ من حَفِظ، وأجلُّ من اؤتمن، وأعظم من استُجير به.
استودعوا الله سلامة قلوبكم، ويقينكم وإيمانكم، ودينكم؛ فمن حَفِظَ الله تعالى له
دِينه وسلامة قلبه حتى يلقاه سَلِم وأَمِن. سلّموا الله بيقينٍ كلّ ما لا تقوى
أرواحكم على فراقه، صغيراً كان أم كبيراً، دعوه للخالق وأبشروا بالحفظ، اجعلوا كلّ
شيءٍ تُحبونه وسكن قلبكم في ودائع الله، فودائع الله لن تضيع أبداً.
اللهم إنا نستودعك أنفسنا وأهلنا وأبناءنا وأحباءنا، ونستودعك ديننا
وأماناتنا وخواتيم أعمالنا، ونستودعك اللهم دُنيانا التي فيها معاشنا. فاحفظ اللهم
لنا ما استحفظناك، إنك سُبحانك ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾.
https://bit.ly/3O6qTkq
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق