الجمعة، 22 نوفمبر 2024

قلب المؤمن دليله

 

خاطرة الجمعة /474

الجمعة 22 نوفمبر 2024م

(قلب المؤمن دليله)

 

يقول صاحب القصة: لم يكن والدي أباً عطوفاً كباقي الآباء، ولم أعِش يوماً في جوٍ أُسريٍ كباقي أقراني. كنتُ أعتمد على نفسي في المذاكرة والذهاب والإياب من المدرسة. رغم كل شيءٍ، كنتُ متفوقاً في دراستي، ولأنني لم أرَ سبيلاً للخروج من هذا النفق المعتم الذي أقبع فيه سوى العِلم، كرستُ كل وقتٍ أُتيح لي لطلبه. نعم "الوقت المتاح لي" لأنني كنتُ مضطراً للعمل في سنٍ مبكرٍ؛ فوالدي كان يرفض الإنفاق على البيت، وأُمي سيدةٌ غير متعلمةٍ، فلا عمل لها إن أرادت العمل سوى الخدمة في البيوت، وهو ما لا يمكن أن أرضى به؛ لذا قررتُ أن أتدرب عند خياطٍ جارٍ لنا، وخصص لي أجراً يدفعه أسبوعياً، لم يكن الأجر كبيراً، لكنه كان يكفيني وأُمي لطعامنا وشرابنا في أقل الحدود. كان والدي رجلاً ميسوراً، لكنه هجر البيت، وتزوج من فتاةٍ تصغره بعشرين سنةً، وحرَّمته علينا، فلم أعد أراه منذ كان عمري عشر سنوات.

كبرتُ، وكبرت أُمي، وأُصيبت بالعمى. كانت تعاني من الرمد الدائم، ولم نكن نملك ثمن الدواء. أصبحتُ أنا بمثابة العين المبصرة لها، تتوكأ عليّ إن أرادت الذهاب أو الإياب. التحقتُ بكلية الهندسة، وما زلتُ أعمل خياطاً لدى جارنا. الحقيقة أن هذه المهنة تكفلت بعيشي وعيش أُمي طيلة حياتي إلى أن تخرجت. اختارني أحد أساتذة الجامعة للعمل معه في مكتبه الخاص براتبٍ مُجزٍ؛ فقد رأى فيّ موهبةً هندسيةً، ومقوماتِ مهندسٍ معماريٍ ماهر. سعدتُ بذلك، وانتقلتُ إلى سكنٍ جديدٍ، وكانت أُمي رفيقتي في كل مكانٍ أذهب إليه. بدأتُ أشعر أن الله يعوضنا عن سنوات العذاب التي مررنا بها.

كان لصاحب المكتب الهندسي ابنةٌ جميلةٌ تعمل معنا في المجال نفسه، رقّ لها قلبي، وهي كذلك، وكانت تحب أُمي كثيراً، وأُمي تبادلها نفس الشعور. شجعتني والدتي على خطبتها، وبالفعل تقدمتُ لطلب يدها من والدها، لكنه رفض بحجة أنني لم أصل بعد لمكانةٍ عاليةٍ في مجال الهندسة، لكنه وافق لاحقاً تحت ضغطٍ من ابنته، وتم الزواج.

تأخرنا في الإنجاب لمدة عشر سنواتٍ، أُصيبت خلالها والدتي بالشلل التام. كنتُ أتولى العناية بها بنفسي، ورغم تحسن حالتي المادية وقدرتي على جلب خادمةٍ خاصةٍ لها، إلا أنني لم أفعل؛ فهي من ضحت بكل شيءٍ لأجلي، فكيف لا أُضحي لأجلها؟

عندما يئستُ من علاج عدم الإنجاب في «مصر» سافرتُ مع زوجتي للعلاج في الخارج، على أمل أن يُحقق الله لنا حلم الإنجاب، لكنني صُدمتُ عندما أجمع الأطباء على عدم قدرتي على الإنجاب نهائياً؛ حينها خيَّرتُ زوجتي بين البقاء معي أو الانفصال لتبدأ حياةً جديدةً تستطيع فيها أن تكون أُماً، طلبت مني أن نعود إلى «مصر» وأتركها تفكر في الأمر بعيداً عني وعن أهلها. عُدنا بالفعل، فوجدتُ والدتي قد زادت حالتها سوءاً؛ إذ أن الخادمة التي جلبتها للعناية بها خلال فترة سفرنا للخارج أهملت واجبها حتى أصاب أُمي العطب في بعض أعضائها، فأدخلناها إحدى المستشفيات حيث مكثت فيها ثلاثة أسابيع، وفي يومها الأخير طلبت أن تختلي بي، فقد كان هناك أمرٌ تريد إخباره لي، كانت روحها تنازع جسدها لتمهلها بضع لحظاتٍ لتفصح عما في قلبها؛ قالت لي: "يا ولدي، كنتَ باراً بي، وأُشهد الله أنني راضيةٌ عنك. أسأل الله أن يرزقك ولداً صالحاً من ابنة الخياط"، ابتسمتُ وكلي ألمٌ، وقلتُ: "يا أُمي، أنا عقيمٌ، فكيف أُرزق بولد؟ ثم إن زوجتي ليست ابنة الخياط يا أُمي!"، قالت: "اعلم يا بني أنني كنتُ أدعو الله دائماً أن يرزقك ولداً صالحاً من ابنة المهندس يكون سنداً لك كما كنتَ سنداً لي، لكن الله لم يشأ. رأيتُ في منامي أنك تحمل ولداً يُشبهك، وقدمتَه لي ومعك ابنة الخياط...". ثم أغمضت عينيها ورحلت بعد بضع ثوانٍ.

لم تتصل بي زوجتي لتعزيني، بل أرسلت تطلب الطلاق بهدوءٍ؛ فهي لن تستطيع العيش معي دون أطفال. تم الطلاق، واستقلتُ من مكتب والدها، وافتتحتُ مكتباً هندسياً مستقلاً. وبعد مرور عامين، زارتني والدتي في المنام وقالت لي: "ألم يأن الأوان لتنجب من ابنة الخياط؟". استيقظتُ مذهولاً من الرؤية، فأنا أعلم أن الخياط لا يملك بناتٍ من الأساس! فلم أُعر تلك الرؤية أي اهتمامٍ، لكنها تكررت مراراً حتى قررتُ زيارة الخياط، وقصصتُ عليه ما قالته أمي وما أراه في منامي؛ فضحك وتهلل وجهه وقال: "قُم معي". توجهنا إلى بيتٍ متواضعٍ بجوار بيته، فإذا بامرأةٍ عجوزٍ تعيش مع ابنتها، قال لي الخياط: "مبارك عليك، هذه هي ابنتي"، نظرتُ إليه متعجباً وقلتُ: "كيف وأنا أعرف أهل بيتك؟"، فقال: "هذه الفتاة ابنة أُختي، رحل والداها في حادث سيرٍ مروعٍ وتكفلتُ برعايتها، زوجتي رفضتها وقالت إنها نذير شؤمٍ، إذ مات والداها بعد إنجابها بأيامٍ قليلةٍ، لكنني لم أتخلَ عنها، وأحضرتُ لها مربيةً اهتمت بتربيتها، وهي لا تعرف لها أباً غيري. هي الآن في السنة الأخيرة بكلية الصيدلة وسيتم اختيارها معيدةً في الجامعة".

كانت مفاجأةً بالنسبة لي، لكن كيف علمت أُمي بأمرها؟ لا أدري، فهي لم تلتقِ بالخياط يوماً، لكنه فاجأني بأن أُمي كانت تزوره في منامه وتوصيه بي خيراً؛ قال: "في مرةٍ أخبرتها في منامي أني سأزوجك ابنتي، وسيكون لك منها خير الولد"! أتممتُ الزواج من بنت الخياط، وفي الشهر الأول من زواجنا حملت، لم أصدق ذلك، لكن الله قادرٌ على كل شيء.

أبلغ الآن من العمر سبعين عاماً، توفيت زوجتي الغالية، وخلَّفت لي ولداً طيباً باراً بي، وما زالت والدتي تزورني في المنام كل ليلةٍ لتطمئن على ولدي وعليّ! يا لقلوب الأُمهات!

 

أحبتي في الله.. مقولة (قلب المؤمن دليله) ليست بحديثٍ نبويٍّ، وإنَّما هي عبارةٌ تجري مجرى الأمثال، وقد أطلق علماء النفس على هذه الظاهرة اسم "الحَدْس"، وعرَّفوه بأنَّه: معرفة الإنسان لشيءٍ دون أن يعرف كيف عرفه.

 

وفي القصة التالية تأكيدٌ على هذا المعنى؛ يقول راويها: ما جعلني أكتب متسائلاً عن قلب الأم هو وفاة صديقي وعلاقته بأُمه؛ كان -رحمه الله تعالى- يعمل في «السعودية»، وكان قد استقدم والدته المُسنة وأخاه وأُخته لأداء العُمرة. وعلمتُ من شقيقته أنه بعد أداء شعائر العُمرة، ووقت أن حان موعد عودتهم إلى «مصر» قام بتوصيلهم إلى المطار، وفي صالة التوديع سلَّم عليهم بحرارةٍ، وذهبوا هُم لدخول صالة الصعود إلى الطائرة، لكن أُمه عادت مسرعةً ونادت عليه، فلما سمع نداءها عاد إليها، فقامت باحتضانه لمدةٍ طويلةٍ، وظلت تُقبله وهي تحتضنه، ودموع عينيها تتسابق مع كلمات الوداع، ثم عادت إلينا وغادرنا. تقول شقيقته: "في اليوم التالي لعودتنا إلى «القاهرة» بلغنا نبأ وفاة أخي، الذي عاد من غربته في صندوق، وقمنا بإجراءات دفنه. وظلت أُمي من وقت علمها بوفاة أخي وحتى دفنه غير مصدقةٍ أنه مات، وتحكي لكل من جاء يُعزيها أنها لن تنسى أبداً احتضانها له في المطار. وعندما سألتها عن ذلك قالت: أحسستُ بشيءٍ دفعني لاحتضانه وكأني لن أراه مرةً أخرى!".

 

إنه شعورٌ طاغٍ تشعر به الأُم، ولا تدري ما هو، ولا تعرف له سبباً، ولكنه إحساسٌ بالقلق، غير القلق العادي، يجثم على الصدر. ولا يحدث ذلك إلا مع أقرب الناس إليها، خاصةً أبنائها. ويقوى هذا الحدس أو هذا الشعور -في الغالب- مع الأُمهات اللواتي يكن في علاقةٍ قويةٍ بالله سبحانه وتعالى، وعبارة (قلب المؤمن دليله) لم تأتِ من فراغ؛ فالقلب الذي يكون دليلاً لصاحبه هو قلبٌ قويٌ في إيمانه، صحيحٌ نقيٌ طاهرٌ وسليم؛ إذ يكون مُعلَّقاً بالله عزَّ وجلَّ، ويكون في معيَّته وفي رحابه، يهتدي بهديه، ويسير بنوره، مصداقاً لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم حكايةً عن ربِّ العزة: [ما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ].

 

يقول أهل العلم إن من صفات قلب المؤمن الذي يكون بحقٍّ دليله، أن يكون سليماً؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾، وأن يكون صالحاً؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ]. ومن علامات سلامة القلب وصلاحه: أنَّه يدفع صاحبه للتوبة والإنابة، ولا يفتر عن ذكر ربِّه، ولا يتكاسل عن عبادته، وإذا فاتته عبادةٌ وجد ألماً أشدَّ عليه من ضياع ماله، وأنَّه يجد لذةً في العبادة أشدَّ من لذات الدنيا جميعها. ومن وسائل إصلاح القلوب والوصول بها إلى السلامة والصلاح: التوبة النصوح، وقراءة القرآن بتفكُّرٍ وتدبرٍ، والمداومة على ذِكر الله تعالى، والصيام، وقيام الليل، ومصاحبة الصالحين.

 

أحبتي.. في أحيانٍ كثيرةٍ يكون (قلب المؤمن دليله)، وأوضح ما يكون ذلك في علاقة الأُم بأبنائها، فلنُبادل أُمهاتنا الحُب، ونقوي علاقتنا بهن، ونُكرمهن، ولنتذكر أنهن مصدر الحنان والعطاء في حياتنا، وأن معاملتهن بكل حبٍ واحترامٍ تعود علينا بالخير والبركة؛ فلنجعلهن يشعرن بأنهن محور حياتنا، وأننا نُقدِّر كل لحظةِ اهتمامٍ أو تعبٍ قدَّمنها لنا.

وعلى كل ابنٍ أن يُعامل أُمه بطريقةٍ تليق بمكانتها في قلبه وتُعبر عن محبته لها؛ ومن ذلك: احترم والدتك في كل الأوقات، سواءً في حضورها أو غيابها، اجعلها دائماً تشعر بالتقدير والاحترام. استمع إلى نصائحها وحديثها بتركيزٍ واهتمام. اهتم بصحتها وراحتها، واسألها دائماً عن حالتها الصحية، وتأكد من أنها تحصل على الرعاية اللازمة. تواصل معها بانتظامٍ، سواءً كنتَ قريباً منها أو بعيداً عنها. اتصل بها لتعرف أنك مهتمٌ بها وتفكر بها دائماً. ساعِدها في الأعمال المنزلية وأداء مصالحها قدر إمكانك، قدِّم لها ما تحتاجه، وبادر بالمساعدة دون أن تطلب. لا تتردد في التعبير عن حبك لها؛ عانقها، قبِّل رأسها، قدِّم لها الهدايا، واظهر لها محبتك بشكلٍ دائم. تحلَّ بالصبر والهدوء عند التعامل معها، حتى في الأوقات التي قد تكون فيها غاضبةً أو مُضطربةً. تذكر دائماً التضحيات التي قدمتها وتُقدمها من أجلك، وأظهر لها أنك تُقدِّر كل ما فعلته وتفعله لأجلك. قدِّمها بأفضل صورةٍ أمام الآخرين، واذكر محاسنها وفضلها على حياتك. ولا تنسَ أبداً أن تدعو لها في صلاتك بالصحة والعافية والسعادة.

أما من فقد أُمه فعليه أن يُكثر من الدعاء والاستغفار لها، والتصدق نيابةً عنها، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بها، وإكرام صديقاتها، ويحرص على زيارة من كانت تزورهم، والإحسان إلى من كانت تُحسن إليهم، ومن ثمار هذا العمل أنهم إذا شاهدوا إحسان الابن تذكروا أُمه وأكثروا من الدعاء لها بالخير، وذكروها بما عندها من فضائل، وكل ذلك ما كان ليحدث لولا هذا البر وهذه الصلة.

اللهم اجعلنا من البارين بأُمهاتنا أحياءً وأمواتاً.

 

https://bit.ly/3ARxaxo

 

ليست هناك تعليقات: