الجمعة، 29 نوفمبر 2024

عزة النفس

 

خاطرة الجمعة /475

الجمعة 29 نوفمبر 2024م

(عزة النفس)

 

يقول أحد بائعي الخضار والفاكهة: قبل فترةٍ قصيرةٍ كانت سيدةٌ تأتي كل يومين تسألني عن سعر الموز فأجيبها وتمشي دون أن تشتري، فقلتُ لنفسي ذات يومٍ بعدما ذهبت لابد وأنها ليس معها المال الكافي لتشتري، ونويتُ عندما تأتي في المرة التالية أن أُعطيها كيلوين من الموز من دون أن آخذ منها ليرةً واحدةً. أتت السيدة فعلاً، وكالعادة سألتني عن سعر الموز؛ فأجبتها: "اليوم مجاناً، وهذان كيلوان هديةً مني لكِ"، رفضت ولم تأخذهم، حاولتُ معها بكل الطُرق، لكنها أصرت على الرفض وقالت إنها ليست بحاجةٍ وإن غيرها أولى منها، وشكرتني وغادرت. غابت بعدها لمدة أُسبوعٍ ثم عادت وسألتني نفس السؤال، وأجبتها، وقلتُ في نفسي بالتأكيد ستشتري هذه المرة، إلا أنها فعلت مثل ما تفعل كل مرةٍ؛ شكرتني وذهبت.

هنا قررتُ أن أعرف ما هي قصة هذه السيدة؛ فقمتُ بتتبعها من بعيدٍ دون أن تشعر، رأيتها توقفت عند باب مدرسةٍ وكأنها تنتظر أحداً. خرج من المدرسة ولدٌ صغير يبدو أنه ابنها، اقتربتُ منهما مع حرصي الشديد ألا تشعر بي، سمعتُ ابنها يقول لها ما جعلني أبكي؛ سمعته يقول: "أُمي هل جلبتِ الموز الذي وعدتيني بهِ منذ أُسبوعين؟"، قالت لهُ: "ما جمعته من النقود لا يكفي يا ابني إلا حق طعامٍ؛ فإذا اشتريتُ لك الموز سينام إخوتك جائعين بلا عشاءٍ، وكل يومٍ أسأل عن سعره علَّه يكون أرخص، لكني أوعدك سأشتريه لك هذا الأسبوع، لا تقلق". هنا بكيتُ من (عزة النفس) التي أظهرتها تلك المرأة؛ لأنني عرضتُ عليها أن تأخذ الموز دون مقابلٍ لكنها رفضت، وقالت إن غيرها أحوج منها، مع أنها يبدو عليها أنها أحوجُ الناس. سألتُ عنها اتضح أن زوجها مات منذ سنواتٍ بعد مرضه، وهي تعمل لتُعيل أُسرتها. قررتُ أن أستدل على بيتها، فعلمتُ أين تُقيم، وفي كل أُسبوعٍ أضع لهم على باب بيتهم ما لذَّ وطاب من الفواكه لوجه الله تعالى، وأطمئن أنها تأخذها، وهي للآن لا تعرف من يضع لها هذه الفواكه.

لا أُخفي عليكم أنني منذ أن بدأتُ القيام بهذا العمل ورزقي يزداد وألمس الخير والبركة في عملي ولله الحمد.

 

أحبتي في الله.. عن (عزة النفس) يقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، وفي معنى الآية: ﴿أُحْصِرُوا﴾ حبسهم الجهاد عن التصرف، ﴿ضَرْبًا﴾ ذهاباً وسيراً للتكسّب، ﴿التَّعَفُّفِ﴾ التّنزّه عن السؤال، ﴿بِسِيمَاهُمْ﴾ بهيأتهم الدالّة على الفاقة والحاجة، ﴿إِلْحَافًا﴾ إلحاحاً في السؤال. يقول المفسرون إن بالآية صورةً تستحثُّ المشاعر، وتُحرِّك القلوب والضمائر، لإدراك نفوسٍ عزيزةٍ كريمةٍ، تأبى الهوانَ وتأنف السؤال، مع عظم الحاجة وشدَّة الفاقة. تعفَّفَ قومٌ فأوصى الله بهم خيراً، وألحفَ آخرون فوُكِلوا إلى مسألتهم. ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ﴾ تعرف فقرهم وحاجتهم بما ترى في هيئتهم من آثارٍ تشهد بقلة ذات يدهم؛ أي بأثر الجهد من الفقر والحاجة، بصُفرة وجوههم ورثاثة ثيابهم. يظنهم الجاهل بحالهم أغنياء من أجل تعففهم عن السؤال؛ فأصحاب الأنظار التي تأخذ الأمور بمظاهرها يظنونهم أغنياء، أما أصحاب البصيرة المستنيرة، والحِس المُرهف، والفراسة الصائبة، فإنهم يُدركون ما عليه أولئك القوم من احتياجٍ، وورد في الأثر: "اتَّقُوا فِراسةَ المؤمنِ فإنه ينظرُ بنورِ اللهِ". إنهم ﴿لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً﴾؛ والإلحاف هو الإلحاح بأن لا يُفارق السائل المسئول إلا بشيءٍ يُعطاه منه.

 

وعن (عزة النفس) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللهَ يحبُّ الغَنيَّ الحليمَ المُتَعففَ، ويبغضُ البذيءَ الفاجرَ السَّائلَ الملحَ]. ويقول: [ما يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حتَّى يَأْتِيَ يَومَ القِيَامَةِ ليسَ في وجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ]. كما يقول: [ليسَ المِسْكِينُ الذي يَطُوفُ علَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتَانِ، والتَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ، ولَكِنِ المِسْكِينُ الذي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، ولَا يُفْطَنُ به، فيُتَصَدَّقُ عليه، ولَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ]، وفي هذا الحديث يُبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المسكين المُستحق للصدقة والزكاة ليس هو من يسأل الناس ويرده ويكفيه ما يناله من اللقمة أو اللقمتين، وإنما المسكين كامل المسكنة هو من لا يجد ما يكفي حاجته بأكملها؛ فقد يكون عنده مالٌ لكنه لا يكفيه، ويتعفف عن المسألة، ويمنعه الحياء أن يُخبر الناس بحاله، ولا يسأل الناس إلحافاً؛ باللجاج في المسألة والإلحاح فيها.

 

ونُسب إلى حكيمٍ -قيل إنه سيدنا عليّ رضي الله عنه- قوله: "والله والله مرتين، لَحفرُ بئرين بإبرتين، وكنسُ أرض الحجاز في يوم عاصفٍ بريشتين، وحَملُ ثورين باليدين، ونزعُ طودين شامخين، وغسلُ عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين، ونقلُ بحرين زاخرين بمنخلين، أهونُ عليّ من طلب حاجةٍ من لئيمٍ لوفاء ديْن، ولا وقوفي على بابٍ يضيع فيه ماء العين".

 

ويُقال إن (عزة النفس) هي الارتفاع عن مواضع الإهانة؛ فعزيز النفس لا يسمح لأحدٍ أن يُريق ماء وجهه ليبقى موفور الكرامة، مرتاح الضمير، مرفوع الرأس، شامخاً، مُتحرّراً من الذُل.

 

يقول العارفون: إن أرقى أنواع (عزة النفس) مع الناس أن تمثّل دور المُكتفي من كلّ شيءٍ وأنت بأمسِّ الحاجةِ لكل شيءٍ، وأن لا تطلب الشيء مرتين، ولا تطرق باباً أُغلِق في وجهك يوماً. أما مع الله سبحانه وتعالى فإن الأمر يختلف تماماً حتى يصل إلى العكس؛ فتكون قمة (عزة النفس) في منتهى التذلل لله عزَّ وجلَّ؛ إذ لا تكتمل عبودية المسلم إلا بكمال الذُل والخضوع والانكسار والانقياد، مع كمال المحبة لله تعالى، ويكون الإلحاف في الدُعاء هنا مطلوباً وممدوحاً وليس مستنكراً ولا مذموماً.

 

وعن (عزة النفس) قال الشاعر:

أَرَى الناسَ مَنْ داناهُمُ هانَ عِنْدَهُم

وَمَنْ أكرَمَتْهُ عِزَةُ النَفْسِ أُكْرِما

وقال آخر:

اقْنَعْ وَلا تَطْمَعْ فَإنَّ الفَتى كَمالُهُ في عِزَةِ النَفْسِ

وَإنَما يَنْقُصُ بَدْرُ الدُجى لِأخْذِهِ الضَوْءَ مِنَ الشَمْسِ

وقال ثالث:

يا عِزَةَ النَفْسِ كوني في العُلا قَمَرَاً

فَالْعَيْشُ دونَكِ مِثْلُ الغُصْنِ إنْ مالا

ما قيمَةُ المَرْءِ إنْ ضاعَتْ كَرامَتُهُ

فَضْلُ الكَرامَةِ يَعْلو الجاهَ وَالْمالا

 

أحبتي.. قال أحد الصالحين: هل فَكَّر كلٌ منا أن يبحث عن هؤلاء الذين تعلو وجوههم ابتسامة الرضا بما قسم الله لهم في الحياة الدنيا، غير ناقمين إن قتر عليهم الرزق، تملأ صدورَهم العفةُ ونفوسَهم الكرامةُ والكبرياءُ لدرجةٍ قد تبدو للآخرين غنيً؟ هؤلاء الذين يعلمون ويؤمنون بأن الغني الحقيقي هو غني النفس، وليس المال الذي عادةً ما يكون مآله إلي زوال. إن ملاحظة أحوال المتعفِّفين لمعرفة حاجتهم وسدِّ فاقتهم شأنٌ جليلٌ، ثوابُه جزيلٌ، ولا يفطَنُ إليه إلا موفَّقٌ فطنٌ يُحس بالمحتاج وإن لم ينطِق لسانُه.

ومَن اضطُرَّ فينا إلى أن يسأل الناس فَلَهُ أن يسألَ وعليه أن يُجمل في الطلب؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أيُّها النَّاسُ اتَّقوا اللَّهَ وأجملوا في الطَّلبِ فإنَّ نفسًا لن تموتَ حتَّى تستوفيَ رزقَها]، ويكون طلبه دون إلحاحٍ، وبغير تذللٍ أو مسكنةٍ، أو إهدارٍ للكرامة، إنما يطلب بعزة نفسٍ، واثقاً في أن المُعطي والمانع هو الله سُبحانه وتعالى، وما الشخص المطلوب منه إلا وسيلةٌ لإيصال الذي كُتب لنا؛ فكما يُقال: "اطلُبُوا الحوائِجَ بِعِزَّةِ الأنُفُسِ، فإِنَّ الأمورَ تَجْرِي بالمقادِيرِ".

اللهم اجعلنا أعز الناس إلى خَلْقك، أذل الناس إليك سُبحانك، وأنعم علينا بما يُعيننا على أن نكفي المحتاجين المتعففين ذُل السؤال، واغننا بفضلك عن الاحتياج إلى غيرك، والطلب من سواك.

https://bit.ly/4eWjzTg

ليست هناك تعليقات: