خاطرة الجمعة /476
الجمعة 6 ديسمبر 2024م
(قبل فوات الأوان)
تقول القصة إنه في أحد الأيام، وقبل شروق الشمس، وصل صيادٌ إلى النهر،
وبينما كان على ضفته تعثَّر بشيءٍ ما وجده على ضفة النهر، وعندما نظر إليه وجد أنه
كيسٌ مملوءٌ بالحجارة الصغيرة، فحمل الكيس ووضع شبكته جانباً، وجلس ينتظر شروق
الشمس ليبدأ عمله. حمل الصياد الكيس بتكاسل وأخذ منه حجراً ورماه في النهر؛ فأحبّ
صوت اصطدام الحجر بالماء، فرأى أن هذا يُسليه حتى شروق الشمس، وهكذا أخذ يرمى
الأحجار التي في الكيس حجراً بعد الآخر حتى سطعت الشمس وانتشر الضوء، وكان الصياد
قد رمى كلّ الحجارة إلا حجراً واحداً بقي في كف يده، وحين أمعن النظر فيه لم
يُصدِّق ما رأت عيناه؛ لم يكن ما تبقى في يده حجراً عادياً، وإنما كان قطعة ماسٍ
رائعةٍ! يا الله كم قطعة ماسٍ كانت تملأ الكيس رماها بنفسه في النهر؟! لو كان يدري
ما كان رماها، ولو عَلِمَ قيمتها لحافظ عليها (قبل فوات الأوان).
وهذا موقفٌ يحكي عنه أحدهم؛ قال: كنتُ أمشي في الطريق، حين وقَعَتْ عيناي
قدراً على شيخٍ وقورٍ طاعنٍ في السن يجلسُ على كُرسيٍّ مُتحرّكٍ وبجانبه خادمه،
فاقتربتُ من الشيخ وقبّلتُ رأسه، ثم قلتُ له: "أدعُ لي يا عم"، فسألني:
"هل والدك موجود؟"، قلتُ: "نعم"، قال: "هل والدتك
موجودة؟"، قلتُ: "نعم"، فابتسم ابتسامةً ممزوجةً بأسى العُمرِ
وأحزان الأيام، ثم قال: "إذن أنتَ تاجرٌ كبيرٌ، حافِظ على تجارتك يا ولدي،
فأولادي قد ضيّعوا تجارتهم". أحسستُ بقشعريرةٍ في بدني، وهزّةٍ في كياني،
ونغزةٍ في قلبي، فقبّلتُ رأسَهُ ثانيةً ثم انصرفتُ عنه وأنا أُتمتم بلساني:
"حافِظ على تجارتك يا ولدي، تلك حقاً هي التجارة الرابحة". يقول صاحب
هذا الموقف: راجعوا تجارتكم مع أُمهاتكم وآبائكم (قبل فوات الاوان)؛ يقول النبي
صلى الله عليه وسلم عن الأُم عندما جاءه أحد الصحابة يستشيره في الغزو: [هل لَكَ
مِن أمٍّ؟] قالَ: نعَم، قالَ: [فالزَمها فإنَّ الجنَّةَ تحتَ رِجلَيها]، ويقول عن
الوالد: [الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ، فإنْ شِئتَ فأضِعْ ذلك البابَ أو
احفَظْه]؛ فهل أغلى من الجنة سلعةً نتاجر فيها؟!
أحبتي في الله.. هذه القصة وهذا الموقف، ومثلهما كثيرٌ، قصصٌ ومواقف تحكي
عن غفلة البعض مع أنفسهم، أو غفلتهم في علاقاتهم مع غيرهم من البشر، إنها مؤلمةٌ
بلا شك، تُصيب الإنسان بالإحساس بالذنب وبالندم على ما فات ولا يمكن تعويضه. لكن
الأشد إيلاماً هو غفلة البعض في علاقته بربه سُبحانه وتعالى، هنا تكمن أعظم
المخاطر؛ فالبعيد عن ربه، السادر في غيه، اللاهي عن آخرته، المُفَرِّط في حقوق
الله وطاعته، المفتون بدنياه كأنه خالدٌ فيها، الذي يُسوِّف توبته وعودته إلى
الطريق المستقيم كما لو كان يضمن عمره، هذا في خطرٍ عظيمٍ، عليه أن يتدارك نفسه
(قبل فوات الأوان).
عن هذا المعنى يقول أهل العلم إن الله عزَّ وجلَّ يُحذرنا في أكثر من آيةٍ
كريمةٍ، ويُنبهنا إلى أن الساعة ستأتي بغتةً؛ يقول تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا
يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا
تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾، ومع ذلك نعيش وتمر الأيام وكأننا لا نهتم. متى نعلم
أننا في دارٍ ليست للبقاء؛ مهما امتد العمر وطال فإن النهاية حتميةٌ وآتيةٌ لا
محالة؟ بل كيف لا ندري أن هذه الدنيا أيامها معدودةٌ، وساعاتها قليلةٌ، والمرء لا
شك سيرحل عنها يوماً ما؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ
الْغُرُورِ﴾؛ فإن أنت عصيتَ وأبيتَ وأعرضتَ وتوليتَ عن ذِكر الله وطريقه ونهجه
وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اعلم أنه سيُفاجئك يوماً الأجل، وحينها ستعلم يوم
الحساب مَن عصيتَ، وستبكي دماً على قُبح ما جنيتَ؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ
يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾، وتندم وقت لا ينفع ندم.
ولو استعرضنا آيات الندم التي وردت في القرآن الكريم لوجدنا أن معظمها كان
التعبير فيها بلفظ "ليت" ومُشتقاته، ومن ذلك: ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾، ﴿يَا لَيْتَنِي كُنتُ
مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾، ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ
بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ
بِرَبِّي أَحَدًا﴾، ﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾،
﴿لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾، ﴿يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ
وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا﴾، ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾، ﴿يَا
لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾، ﴿يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾، و﴿يَا
لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾. جميعها أُمنيات الأموات التي لا يُمكنهم إدراكها
الآن؛ فلنتداركها نحن ما دُمنا أحياء (قبل فوات الأوان).
يتساءل أحد العُلماء: متى ننتبه؟ متى نفوق من غفلتنا؟ متى نكون من
المهتدين؟ هل نكون من الخاسرين الذين يصفهم الله سُبحانه وتعالى في الآية الكريمة
بقوله: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ
النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ۚ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾؟، متى نتدارك أنفسنا؟ هل مع انتهاء
أعمارنا بعد فوات الأوان؟! علينا الانتباه من فورنا الآن، وأن نفوق من غيبوبتنا،
وأن نعتبر من سُرعة تتابع الأيام وتقارب الزمان؛ يقول النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ،
فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونَ
الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ
كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ].
إن الموت قادمٌ لا محالة، ولو كان لبشرٍ الخلود في الأرض لكان أولى الناس
بذلك حبيب الرحمن سيد الخلق نبينا صلى الله عليه وسلم، الذي يقول: [أتاني جبريلُ
عليه السَّلامُ فقال: يا مُحمَّدُ! عِشْ ما شئتَ فإنَّك ميِّتٌ، وأحبِبْ من شئتَ
فإنَّك مفارقُه، واعمَلْ ما شئتَ فإنَّك مَجزِيٌّ به]. كلنا يحيا في الدنيا مرةً
واحدةً فقط، فلا نفوِّت الفُرصة على أنفسنا؛ إن يوم الحساب قريبٌ، وعمرنا في
الدنيا قصيرٌ؛ يقول تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا
عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾، ولا يدري الإنسان متى يموت؛ قد يُصبح ولا يُمسي، أو
يُمسي ولا يُصبح، ولهذا كان علينا أن نُحسن العمل، وأن نستغل فُرصة محيانا ووجودنا
على ظهر الأرض (قبل فوات الأوان).
ويُوجهنا صلى الله عليه وسلم إلى طريق النجاة؛ فيقول: [الكَيِّسُ مَن دان
نفسَه وعمِل لما بعدَ الموتِ، والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها وتمنَّى على اللهِ
الأمانِيَّ].
وورد في الأثر: "ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعةٍ مرت بهم لم يذكروا
الله فيها". كما ورد: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم
قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى
مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾، وإنما يَخف الحساب يوم القيامة على مَن حاسَب نفسه في
الدنيا". ويُقال: "إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما".
ويُقال أيضاً: "يا ابن آدم إنما أنت أيامٌ، فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضُك".
كما يُقال: "ما من يومٍ ينشق فجرُه إلا ويُنادي: يا ابن آدم أنا خلقٌ جديد،
وعلى عملك شهيد، فتزوّد مني فإني إذا مضيتُ لا أعود إلى يوم القيامة".
ويقول الشاعر:
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ
إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني
فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها
فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثاني
ويقول آخر:
وَالوَقْتُ أَنْفَسُ ما عُنيتَ بِحِفْظِهِ
وَأراهُ أسْهَلَ ما عَلَيْكَ يَضيعُ
ويقول ثالث:
وَكَمْ مِنْ صَحِيْحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ
وَكَمْ مِنْ عَلِيْلٍ عَاشَ حِيْناً مِنَ الدَّهْرِ
فَكَمْ مِنْ فَتًى أَمْسَى وَأَصْبَحَ ضَاحِكًا
وَقَدْ نُسِجَتْ أَكْفَانُهُ وَهُوَ لاَ يَدْرِِي
ويُروى أن أحد التابعين حفر لنفسه قبراً في بيته، فكان ينزل فيه أحياناً ثم
يتلو: ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ﴾.. ثم
إذا قام يقول مُخاطباً نفسه: "ها قد رجعتِ فجِدِّي واعملي".
أحبتي.. تمر بنا الأيام سريعةً، دون أن ندري أو ننتبه أو نشعر بأن كل يومٍ
يمر إنما يُحسَب من أعمارنا ويُنقِص منها. والحقيقة التي لا مِراء فيها هي أننا
نقترب من النهاية يوماً بعد يومٍ، بل ساعةً بعد ساعةٍ؛ فلننتبه (قبل فوات الأوان)،
ونُصحح علاقتنا بالله سُبحانه وتعالى؛ فنُكثِر من ذِكره، ونلتزم بأوامره، ونتجنب
ما نهى عنه، ونؤدي الفروض والعبادات بخشوعٍ وإخلاصٍ، ونزيد من النوافل ومن أعمال
الخير دون رياءٍ أو نفاق.
ولنصوِّب علاقتنا مع خَلْق الله، نبدأ بإرجاع حقوق الغير إليهم، أو
الاستبراء منها؛ خاصةً حق الدم والعِرض والمال والظُلم والغيبة وغيرها. ثم إصلاح
ما انقطع من صلاتٍ -خاصةً صلة الرحم- وما تهدم من علاقاتٍ مع الأقارب والجيران
وغيرهم. ثم التوقف عن الإساءات الفعلية والقولية التي تؤذي الغير. حتى نصل إلى
درجة الإحسان ولُطف المعاملة وحُسن الظن والرفق واللين والتجاوز عن الزلات والعفو
والصفح؛ يقول تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَكُم﴾، ويقول: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾.
إن كل يومٍ يمر من أعمارنا، هو نذيرٌ لنا كي ننتبه (قبل فوات الأوان).
اللهم أنِر حياتنا بنور الهداية، وطهِّر نفوسنا، وأيقظ قلوبنا من الغفلة،
واجعلنا من عبادك الصالحين.
https://bit.ly/3Be0hes
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق