خاطرة الجمعة /469
الجمعة 18 أكتوبر 2024م
(فرَج الله)
قصةٌ
واقعيةٌ وحقيقيةٌ؛ تقول امرأةٌ: توفيت أُمي عندما كنتُ في سن الرابعة؛ فتزوج والدي
من امرأةٍ أُخرى، بعد وفاة أُمي بعامٍ تقريباً. وكنتُ أنا الوحيدة التي أنجبتها
أُمي رحمة الله عليها.. وكان لدى المرأة التي تزوجها والدي ثلاثة أولادٍ ذُكور،
سمح لهم والدي بأن يعيشوا معنا في المنزل، وتكفل برعايتهم معي، وكان يُعاملهم كما
لو كانوا أبناءه، ولم أرهُ يوماً يُميِّز أحدنا عن الآخر؛ فرغم أني ابنته الوحيدة،
ومن لحمه ودمه، فإن والدي لم يكن يُفرق بيني وبينهم أبداً.
تُوفي
والدي بعد خمس سنواتٍ، وكشف رحيله الأقنعة التي كان يرتديها الجميع؛ حيث تغيرت
مُعاملتهم لي، وأصبحتُ أتعرض للسب والضرب بكل قسوة.. لقد كانت زوجة أبي قاسية
القلب، حتى أنها منعتني من التعليم، وجعلتني خادمةً لها، ولم تكن تسمح لي بالخروج
واللعب مع صديقاتي، وإذا رفضتُ لها طلباً تجعلني أنام دون طعامٍ ليومين متتالين!
عندما
أصبحتُ في عُمر الخامسة عشرة، قامت زوجة والدي بتزويجي من شابٍ فقيرٍ جداً، دون أن
تسأل عن أوضاعه أو ماذا يعمل، أو إن كان شخصاً يتحمل المسؤولية، ولم تسأل عن
أخلاقه ونسبه وأصله، لقد كان كل همها هو إبعادي عن المنزل؛ حتى تستولي عليه بأكمله
وعلى وِرثي عن والدي. حينها لم أُعارض؛ خوفاً من أن تؤذيني، ففوضتُ أمري إلى الله
وتوكلتُ عليه ودعوته أن يجعل هذا الشاب تقياً رحيماً وحنوناً وودوداً بي؛ فأنا
ضعيفةٌ ووحيدةٌ في هذه الدنيا. تزوجتُ، ولم تُقِم لي زوجة والدي مراسم زفافٍ مثل
غيري من الفتيات! عوضني ربي عن ذلك كله بزوجٍ مؤمنٍ ملتزمٍ يتقي الله، انتقلتُ معه
إلى منزله، وكان المنزل جميلاً جداً وكبيراً ومُرتباً؛ فاستغربتُ وتساءلتُ في
نفسي: "كيف يملك كل هذا وهو فقيرٌ؟"، وبعد مرور عامٍ واحدٍ تفاجأتُ به
يُخبرني أننا سننتقل إلى منزلٍ آخر، فسألته: "وماذا عن هذا المنزل؟ أليس هو
مِلكك؟"، أجاب: "إنه ليس مِلكي، وإنما مِلك صديقٍ لي يعيش في الخارج،
وسيعود الآن هو وأُسرته للعيش في منزله!"، فقلتُ: "لا مشكلة". في
اليوم التالي انتقلنا إلى المنزل الحقيقي، لكني صُدمتُ حين رأيتُ المنزل؛ حيث كان
عبارةً عن خرابةٍ ومنزلٍ حيطانه من القُماش والكراتين! نظرتُ إلى زوجي فوجدته
يبكي، فسألته: "لماذا تبكي يا عزيزي؟"، فقال: "لأنني لم أُخبرك
بالحقيقة منذ البداية أن ذلك المنزل ليس منزلي. كنتُ أُريد إخبارك بالحقيقة، لكني
خِفتُ أن تتركيني وتعودين إلى منزلك"، فقلتُ له: "لا مشكلة لديّ أن نعيش
في خرابةٍ، ما دُمنا سعيدين معاً". مرت الأيام، وبدأتُ أتأقلم على العيش في
ذلك المنزل، وصبرتُ على هذا الوضع، وأدعو الله في كل صلاةٍ أن يُفرِّج عنا ما نحن
فيه. مرَّت عدة سنواتٍ عشنا فيها بهذا المنزل المُتهدم غير الصالح للعيش، أنجبتُ
خلالها أربع فتياتٍ، وكانت أوضاعنا تزداد سُوءاً يوماً بعد يومٍ؛ فقد أصبح زوجي لا
يعمل، ويعود أغلب الأيام من الخارج فارغ اليدين، ومع ذلك كُنا صابرين، ندعو الله
أن يفك كربنا، ويُفرِّج همنا. وفي ليلةٍ لا أنساها، كُنا نائمين بأمانٍ، فإذا
بعاصفةٍ شديدةٍ، وبرقٍ ورعدٍ يخلع القلوب، وأمطارٍ تهطل بغزارةٍ مصحوبةً بريحٍ
قويةٍ جداً، لم يتحملها منزلنا الضعيف فانهار وسقط فوق رؤوسنا، لكن -والحمد لله-
لم نتعرض لأية إصابةٍ، لكننا صِرنا بلا مأوى وأصبحنا في العراء.. انتظرنا حتى توقف
سقوط الأمطار وهدأت الريح وصفت السماء وأشرقت الشمس، وقُمنا بمحاولة إعادة المنزل
إلى الحالة التي كان عليها قبل العاصفة، لكنه صار أسوأ كثيراً من حالته السابقة،
صَبَرنا ولم نيأس من (فرَج الله) الذي يعد به عباده الصابرين. ليلةٌ أخرى لا
تُغادر ذاكرتي أبداً؛ عندما عاد زوجي من الخارج حزيناً، ففهمتُ من تعابير وجهه أنه
لا يمتلك المال لشراء الطعام، فقلتُ له: "لا تحزن يا عزيزي؛ يوجد لدينا بقية
طعامٍ من وجبة الغداء"، ولأنه كان ينقصنا الخبز؛ لبستُ نقابي وذهبتُ أبحث عند
الجيران عمن يُعطينا بعض كِسراتٍ من الخبز أو يُقرضنا المال لنشتري الخبز، فطرقتُ
جميع أبواب الجيران، ولكن لا فائدة؛ فالكل كان يعتذر. شعرتُ وقتها أن قلبي يتمزق
قهراً على أطفالي؛ خاصةً أن إحدى بناتي مريضةٌ؛ فجلستُ أمام المنزل من الخارج،
وانفجرتُ بالبكاء، بكيتُ حتى جفت دموعي ثم دخلتُ، وعندما رأيتُ أطفالي ينظرون إليّ
على أمل أن أكون قد عدتُ إليهم بالخبز؛ لم أستطع أن أحبس دموعي، فبكيتُ وقلتُ لهم:
"سامحوني يا بناتي؛ لم أستطع توفير الخبز لكم، إنني أعتذر؛ سوف تنامون الليلة
دون عَشاء". لم أكد أُنهي حديثي وإذا بشخصٍ يطرق الباب، فخرج زوجي وتحدث معه،
وبعد ثوانٍ عاد زوجي وقال لي: "هيا بنا سوف نذهب"، فسألته: "إلى
أين؟ ما المشكلة؟"، فقال: "زوجة أبيك تُوفيت منذ ثلاثة أيامٍ، وأراد
أولادها الثلاثة بيع المنزل، وبما أنهم لا يملكون وصيةً من أبيكِ أو أوراقاً
قانونيةً تُثبت أنهم مالكو المنزل الذي يُحاولون بيعه؛ فقد تم القبض عليهم
وإيداعهم بالسجن، وهذا جارٌ لكم يُريد منكِ أن تذهبي لاسترداد المنزل الذي هو حقك
ووِرْثك من أبيك"، بكيتُ فرحاً، وذهبنا وتسلمتُ الوِرْث، وانتقلنا للمعيشة في
المنزل الذي عِشتُ فيه طفولتي. وكان لدى والدي أرضٌ بجانب المنزل؛ فقمتُ ببيعها،
وعملتُ مشروعاً صغيراً لزوجي، وأدخلتُ بناتي إلى المدرسة، وقمتُ بمعالجة ابنتي
المريضة، وتحسنت حالتنا خلال أيامٍ قليلة، والحمد لله رب العالمين.
أحبتي
في الله.. إنه (فرَج الله).. يأتي بعد الصبر والشكر والقناعة والرضا بالقليل،
ويأتي بالإخلاص في الدعاء وحُسن الظن بالله، واليقين التام بتحقق وعده لعباده
الأتقياء. وكم من آيةٍ في كتاب الله تُبشر بالأمل؛ يقول الله سُبحانه وتعالى:
﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾. ويقول تعالى:
﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾. ويقول سُبحانه: ﴿لَا
تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ:
﴿أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾. ويقول أيضاً: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ﴾. كما يقول: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ
عُسْرٍ يُسْرًا﴾. ويقول كذلك: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، وعن هذه الآية تحديداً يقول المفسرون إنها بشارةٌ عظيمةٌ؛
فكُلما وُجد عُسرٌ فإن اليُسر يُقارنه ويُصاحبه، حتى لو دخل العُسر جُحر ضَبٍ لدخل
عليه اليُسر فأخرجه، وتعريف "العُسر" يدل على أنه واحدٌ، وتنكير
"اليُسر" يدل على تكراره، فلن يغلب عُسرٌ يُسرين.
يقول
النبي صلى الله عليه وسلم: [تعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يعرِفْك في
الشِّدَّةِ، واعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ على ما تكرهُ خيرًا كثيرًا، واعلَمْ أنَّ
النَّصرَ مع الصَّبرِ، وأنَّ الفرَجَ مع الكرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا]. ويقول
عليه الصلاة والسلام: [يقولُ اللَّهُ تَعالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي]. وورد
في الأثر "انتظارُ الفرجَِ من اللهِ عبادةٌ".
إنه
الفرَج بعد الشدة؛ الذي يصفه أحد العلماء بقوله: بعد الجوع شبعٌ، وبعد الظمأ ريٌّ،
وبعد السهر نومٌ، وبعد المرض عافيةٌ. سوف يصل الغائب، ويهتدي الضالّ، ويُفَكّ
العاني، وينقشع الظلام. بشِّر الليل بصبحٍ صادقٍ سوف يُطارده على رؤوس الجبال
ومسارب الأودية، بشِّر المهموم بفرجٍَ مُفاجئٍ يصل في سرعة الضوء ولمح البصر،
بشِّر المنكوب بلطفٍ خفيٍّ وكَفٍّ حانيةٍ وادعة. إذا رأيتَ الصحراء تمتد وتمتد،
فاعلم أن وراءها رياضاً خضراء وارفة الظلال. إذا رأيتَ الحبل يشتد ويشتد، فاعلم
أنه سوف ينقطع. مع الدمعة بسمةٌ، ومع الخوف أمنٌ، ومع الفزع سكينةٌ. فلا تُضق
ذَرعاً، فمن المُحال دوام الحال، والأيام دُوَلٌ، والدهر يتقلّب، والليالي حُبلى،
والغيب مستورٌ، والعُسر قادمٌ بعد كل عُسر.
وقال
الشاعر:
وَلَرُبَّ نازِلَةٍ يَضيقُ لَها الفَتى
ذَرعاً وَعِندَ اللَهِ مِنها المَخرَجُ
ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها
فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ
وقال
آخر:
لطائفُ اللهِ وإن طالَ المدى
كلمحةِ الطَّرفِ إذا الطَّرفُ سجى
كم فَرَجٍ بَعْدَ إياسٍ قد أتى
وكمْ سرورٍ قد أتى بَعْد الأسى
وقال
ثالث:
عَسى فرَجٌ يكونُ عَسى
نُعللُ النَفْسَ بِعَسى
فلا تَجْزَع إنْ حُمِّلتَ
هَمّاً يَقطعُ النَفَسا
فأقربُ ما يكونُ المَرءُ
مِن فرَجٍ إذا يئِسا
أحبتي..
أختم بهذا الاقتباس: "إن الشدائد –مهما تعاظمت وامتدت- لا تدوم على أصحابها،
ولا تخلد على مُصابها، بل إنها عندما تكون أقوى ما تكون اشتداداً وامتداداً
واسوداداً، تكون في الواقع أقرب ما تكون انقشاعاً وانفراجاً وانبلاجاً، عن يُسرٍ،
وفرَجٍ وهناءةٍ، وحياةٍ رخيَّةٍ مُشرقةٍ وضّاءة، فيأتي العون من الله والإحسان عند
ذُروة الشدة والابتلاء والامتحان، وهكذا فإن نهاية كل ليلٍ غاسقٍ هي البداية لفجرٍ
صادق".
صدق
من قال: "ما بينِ غمضةِ عَيْنٍ وانتباهتها، يُغيّرُ اللهُ من حالٍ إلى حالِ".
اللهم يا
مُغيِّر الأحوال غيِّر أحوالنا إلى أحسن حالٍ، واكتب لنا حُسن المآل. اللهم اجعلنا
من المُتقين الصابرين عند ابتلائك، الشاكرين عند نِعَمَك وآلائك، الذين يُحسنون
الظن بك، ويُوقنون بصدق وعدك، ورحمتك ولُطفك بعبادك المُحسنين، وفرَجك لهم.
https://bit.ly/3Y9PoBK
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق