الجمعة، 21 مارس 2025

المال الرابح

 

خاطرة الجمعة /491

الجمعة 21 مارس 2025م

(المال الرابح)

 

حدث هذا الموقف في شهر رمضان المُبارك لرجلٍ مصريٍ وزوجته، يعيشان في «كوريا». يروي الرجل ما حدث فيقول: في بداية شهر رمضان المُبارك اشتريتُ مع زوجتي عُلبتَيْ تمرٍ، من نوعين مُختلفين، نُفضِّل نوع وطعم أحدِهما على الآخر، وقُلنا هذا يكفينا طيلة الشهر.. ثم سكنت بجِوارنا أسرةٌ مُسلمةٌ جديدةٌ، ولميكن عندهم تمرٌ؛ فهو غير مُتوفرٍ إلَّا في محلات "الأكل الحلال"، وهي محلاتٌ بعيدةٌ عنَّا؛ فقررنا أن نُقاسِم أفراد هذه الأسرة ما معنا من تمرٍ، ونهدي لهم إحدى عُلبتي التمر، فهَمَّت زوجتي بوضْعِ النوع الذي لا نُفضِّله لهم؛ فأمسكتُ يدها، ووضعتُ لهم النوع الذي نُحبُّه؛ فقالت زوجتي بلهجتنا العاميَّة: "بس أنا بحب ده أكتر"، قلتُ لها مُذكِّراً: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾؛ فابتسمت وقالت: "صدقت". بعدها بيومين، ونحن خارجان من صلاة التراويح كان الإمام يُوَزِّعُ عُلباً من التمر، وأعطى زوجتي عُلبتين، وإذا هُما من النوع السُكَّري القادم من «القَصيم» وهو غير موجودٍ في «كوريا».. فقلتُ لزوجتي: "هذه بِتِلك، أرضيتِ؟!"، فابتسمت وأوْمأَت برأسها أي: نَعم رضيت.

يقول الرجل: سُبحان الله.. إنه (المال الرابح)؛ فمنذ قليلٍ وأنا راجعٌ للبيتِ رآني أحد الجيران وهو يقود سيارته، فأوقفها وناداني، وعندما ذهبتُ إليه أعطاني صندوقاً كبيراً، وقال لي: "كل عامٍ وأنتم بخيرٍ، هذه هديةٌ"، فشكرتُه ومضيتُ لتجدني زوجتي قادماً بصندوقٍ فتحناه فوجدنا به 12 عُلبةً من التمر السُكَّري، من نوعٍ آخر، فنظرتُ إلى زوجتي مرةً أُخرى، وقلتُ: "هذه بِتلك، أَرَضيتِ؟!"، فابتسمت وقالت: "قد رضيتُ، واللهِ قد رضيت".

 

أحبتي في الله.. ذكرني هذا الموقف بقصة أبي طلحة الأنصاري -رضي الله عنه- مع (المال الرابح)؛ فقد كان أكثر الصحابة بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه «بيرحاء» وكانت مُستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيبٌ، فلما نزلت هذه الآية ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله تعالى يقول في كتابه: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ وإن أحب أموالي إليّ «بيرحاء» وإنها صدقةٌ لله أرجو برِها وذُخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئتَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بخٍَ بخٍَ ذَلِكَ مالٌ رابِحٌ] أو قال: [ذَلِكَ مالٌ رابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ ما قُلْتَ فيها، وَإني أرى أنْ تَجْعَلَها في الأقْرَبين]، فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله؛ فقسّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.

 

وكان الصحابي عبد الله بن عُمر -رضي الله عنه- يشتري السُكر، فيتصدق به فيُقال له: "يا أبا عبد الرحمن لو اشتريتَ لهم بثمنه طعاماً كان أنفع لهم من هذا"؛ فيقول: "إني أعرف الذي تقولون: ولكني سمعتُ الله يقول: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ وإن ابن عُمر يحب السُكر".

 

يقول المُفسرون في شرح هذه الآية الكريمة: المعنى أنه لن تنالوا حقيقة البِر، ولن تبلغوا ثوابه الجزيل الذي يوصلكم إلى رضا الله، وإلى جنته التي أعدها لعباده الصالحين، إلا إذا بذلتم مما تُحبونه وتؤثرونه من الأموال وغيرها في سبيل الله، وما تُنفقوا من شيءٍ- ولو قليلاً- فإن الله به عليمٌ، وسيُجازيكم عليه بأكثر مما أنفقتم وبذلتم. وقال كثيرٌ من أهل التأويل أن المقصود بالبِر هو الجنة؛ لأن بِر الرب بعبده في الآخرة وإكرامه إياه يكون بإدخاله الجنة. ورغم أن أول ما يُفهم من هذه الآية هو أن يكون الإنفاق من المال فقط، إلا أنه لا بأس بتعميم لفظ الإنفاق، وتعميم وجوهه؛ من مالٍ أو جهدٍ أو علمٍ وغير ذلك من وجوه الخير والبِر. وكما أن الآية دلّت على أن العبد بحسب إنفاقه للمحبوبات يكون بِره، فإن بِره ينقص بحسب ما نقص من ذلك.

 

قال أحد الصالحين: مع أهمية أن يتصدق المُسلم بكل ما يستطيع، مما يُحب ومما لا يُحب، فإنه ينبغي عليه أن يعمل بهذه الآية ولو مرةً واحدةً، وأن يُخرج مما تُحب نفسه ويتصدق به، فإذا بذل الطيب من المال سخيةً بها نفسُه كان ذلك سبباً في تزكيتها، وتخليصها من الشُح؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾، أضاف الشُح إلى النفس لشدة تمكنه فيها، وجعل الفلاح لمن جاهد شُح نفسه وميلها إلى البُخل، الذي حذّرنا منه بقوله: ﴿وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ﴾ أي يمنعها الأجر والثواب.

 

وعن حُب المال؛ يقول تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾، وعن حُب غير المال؛ يقول سُبحانه: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾، فالإنفاق مما أعطاك الله مما تُحبّ، ومما هو نفيسٌ عندك، تبتغي وجهَ الله، هو من الدَّلائل على كمال البِرِّ، ومن الدَّلائل على كمال الإيمان، ومن الدَّلائل على قوة الرَّغبة فيما عند الله.

 

وعن (المال الرابح) قال أحد التابعين: "إنكم لن تنالوا ما تُحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تُدركون ما تؤملون إلا بالصبر على ما تكرهون".

 

ونذكر في هذا المجال الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ وتعني: يا من آمنتم بي واتبعتم رُسلي أنفقوا من الحلال الطيب الذي كسبتموه، ومما أخرجنا لكم من الأرض، ولا تقصدوا الرديء منه لتعطوه الفقراء، ولو أُعطِيتموه لم تأخذوه إلا إذا تغاضيتم عما فيه من رداءةٍ ونقص، فكيف ترضون لله ما لا ترضونه لأنفسكم؟!

 

أحبتي.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [الرَّجُلُ في ظِلِّ صَدَقَتِهِ]، ويحثنا المولى عزَّ وجلَّ على أن نُنفق ونتصدق بأحب الأموال والأشياء إلى نفوسنا، فهذا هو (المال الرابح)؛ إذ أن إنفاقه ليس تكرماً منا على الغير، بل إنه أفضل ربحٍ يُمكن أن نحققه لأنفسنا؛ يقول تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ﴾، فمن لديه بصيرةٌ يعلم أنه يبني لنفسه داره التي سوف يسكنها، ومقره الذي يصير إليه في جنة الخُلد، فهل من عاقلٍ يبخل على نفسه؟!

اللهم قِنا شُح أنفسنا، وأنر بصائرنا لنتدارك ما فاتنا، ونعمل على عمارة مآلنا في الآخرة بما مكننا فيهربنا سُبحانه وتعالى من أموالٍ وأملاكٍ في الحياة الدنيا.

 

https://bit.ly/4imMCSI

الجمعة، 14 مارس 2025

هجر القرآن

 

خاطرة الجمعة /490

الجمعة 14 مارس 2025م

(هجر القرآن)

 

في إحدى ليالي رمضان، دعت عائلةٌ إمامَ مسجد الحي إلى الإفطار معهم، فلبّى الدعوة بسرور. وبعد أن فرغوا من الطعام، ودَّعهم الإمام وانصرف، وبينما كانت الزوجة تُرتب المائدة، لاحظت اختفاء مبلغٍ من المال كانت قد تركته عليها؛ أخبرت زوجها بذلك، وأكدت له أن الإمام كان الشخص الوحيد الذي دخل المنزل، فساورها الشك فيه، رفض الزوج في البداية اتهام الإمام دون دليلٍ، لكنه مع مرور الأيام قرر التوقف عن الصلاة خلفه وقطع العلاقة به، مُتأثِّراً بكلام زوجته.

مرَّت الشهور، وجاء رمضان من جديد، شعر الزوج بالندم؛ فقال لزوجته: "هذا شهر التسامح، ولا ينبغي أن نُبقي في قلوبنا ضغينةً، لنَدعُ الإمام إلى الإفطار مُجدداً"، وافقت الزوجة، لكنها اشترطت أن يُصارحه الزوج بما حدث في العام الماضي.

عندما انتهوا من الإفطار، جلس الزوج بجانب الإمام وقال له مُعتذراً: "وقعت في قلوبنا شُبهةٌ العام الماضي، وها نحن اليوم نُريد أن نوضح لك الأمر ونتبيّن الحقيقة"، ابتسم الإمام بهدوءٍ، ثم نظر إليهم بحزنٍ وقال: "أعلم ما تُفكرون فيه، ولقد آلمني سوء الظن، لكنني التمستُ لكم العُذر؛ عندما رأيتُ المال على المائدة في ذلك اليوم، خفتُ أن يتعرض للضياع، فوضعتُه بين صفحات مُصحفكم، عند أول سورةٍ، وكنتُ واثقاً أنكم ستجدونه سريعاً مع أول فتحٍ لكم للمُصحف". أسرع الزوج إلى المُصحف، ففتحه ليجد المال كما قال الإمام، عند أولى صفحات المُصحف، عند سورة الفاتحة، نظرت الزوجة إلى الإمام وعيناها تملؤهما الدموع، ثم قالت: "سامِحنا، لقد أخطأنا بحقك"، أجابها الإمام بابتسامةٍ: "المغفرة تُطلب من الله، فهو الذي هجرتم كتابه عاماً كاملاً، ولو كُنتم تقرأونه بانتظامٍ لوجدتم المال في أول يوم".

 

أحبتي في الله.. إن الله سُبحانه وتعالى أنزلَ لَنا خيرَ كُتُبهِ على خَيْرِ رُسُلِهِ في خيرِ الشُّهور وخيرِ الليالي؛ يقول تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾،وأَمَرَنا اللهُ أنْ نتمسَّكَ به لنهتدي؛ يقول علا شأنه: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾.

والقُرآنُ الكريمُ هو حَبْلُ اللهِ الممدودِ مِن السَّماء إلى الأرض؛ قال صلى الله عليه وسلم: [أَلا وإنِّي تَارِكٌ فيكُمْ ثَقَلَيْنِ؛ أَحَدُهُما كتابُ اللهِ عزَّ وجَلَّ، ‌هُوَ ‌حَبْلُ ‌اللهِ، ‌مَنِ اتَّبَعَهُ كانَ على الْهُدَى، ومَنْ تَرَكَهُ كانَ على ضَلالَةٍ].

 

وعن (هجر القرآن) يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾، يقول المفسرون لهذه الآية: لَمَّا هَجَرَ القومُ كتاب الله شَكَاهُم نبيُّنا صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه؛ فقد جعلوا القرآن الكريم متروكاً، وأعرَضوا عنه، ولم يسمعوا له، وفي هذه الشِّكاية تخويفٌ وترهيبٌ عظيمٌ لكلِّ مَن كان هاجراً للقُرآن؛ ففي حِكاية القرآن لهذه الشَّكوى وعيدٌ كبيرٌ للهاجرين بإنزالِ العِقاب بهم إجابةً لشكوى نبيِّهِ. لقد حذَّر الله تعالى مِن الإعراض عن كتابهِ فقال: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾، وتوعَّد مَن فَعَلَ ذلكَ فقالَ: ﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا . مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا . خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا﴾.

 قال رسول الله ﷺ: [إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخَرِب].

 

يقول أهل العلم إنَّ (هجر القرآن) أنواعٌ منها: هَجْرُ تِلاوتِه؛ فاللهُ أمرَ بتلاوةِ كتابهِ فقال: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ﴾، وقال حاكياً قول نبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ . وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾. وحثَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قِراءةِ القُرآنِ فقال: [اقْرَؤُوا القُرآنَ فإنهُ يَأْتِي ‌يومَ ‌القِيامَةِ ‌شَفِيعاً‌ لأصحابهِ]، وأوصى نبيُّنا عليه الصلاة والسلام بتلاوة القرآن؛ فقالَ: [عليكَ ‌بتِلاوَةِ ‌القُرآنِ وذِكْرِ اللهِ، فإنهُ نُورٌ لَكَ في الأرضِ، وذُخْرٌ لَكَ في السَّمَاءِ]، وقالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: [إنَّ للهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ] قالُوا: يا رسولَ اللهِ مَنْ هُمْ؟ قالَ: [هُمْ أَهْلُ القُرآنِ، ‌أَهْلُ ‌اللهِ ‌وخَاصَّتُهُ]، وقالَ عليهِ الصلاة والسلام: [إنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرآنَ وعَلَّمَهُ]، وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: [يُقالُ -يَعْني لصاحِبِ القُرآنِ-: ‌اقْرَأْ ‌وارْتَقِ ورَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنيا، فإنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بها]. ومن (هجر القرآن) هَجْرُ استماعِه والإصغاءِ إليه؛ فاللهُ أَمَرَنا بالاستماع لآياتِ كتابهِ حين تُتلى؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، والاستماع يكون بحضور القلب الَّذي يحصل معه التَّدَبُّر. ومن (هجر القرآن) هَجْر تَدبُّرِه وتَفهُّمِه؛ فإنَّ تدبُّرَ آياتِ القرآنِ وتأمُّلَ معانيهِ وأحكامهِ هو المقصودُ الأعظمُ مِن إنزالهِ؛ يقول تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، وقد وبَّخ الله تعالى مَن تركَ التَّدبُّرَ في القرآنِ؛ يقول سُبحانه: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾، لذا فإن هجر معاني القرآن أعظم مِن هجر ألفاظه، وقراءةُ ما تيسَّر مِن آيات القرآن بتدبُّرٍ وتَمَعُّنٍ أفضلُ مِن قراءته كلِّه مِن غير فهْم؛ فتدبر القرآن أنفعُ للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان وذَوْقِ حلاوة القرآن. كما أن من (هجر القرآن) هَجْرُ العَمَلِ به؛ فإنَّ الغاية العُظمى مِن إنزال القرآن هي العمل به، والعمل به سببٌ لنيل رحمة الله في الدُّنيا والآخرة؛ يقول تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. من هجره كذلك هَجْرُ الاستشفاءِ به والتَّداوي؛ فإنَّ القرآن الكريم شِفاءٌ لجميع أمراض القُلوب والأبدان؛ يقول تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾، وحرفُ الْجَرِّ ﴿مِن﴾: لبيان الجنس، لا للتَّبعيض، أي أنَّ القُرآنَ كُلَّه شِفَاءٌ؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ فالقُرآنُ ‌هوَ ‌الشِّفاءُ ‌التَّامُّ ‌مِن ‌جميعِ ‌الأدواءِ القلْبيَّةِ والبَدَنيَّةِ، وأَدْواءِ الدُّنيا والآخِرَةِ. ومن (هجر القرآن) أيضاً هَجْرُ تحكيمِهِ والتَّحاكُمِ إليه؛ فاللهُ عزَّ وجل َّأنزلَ القرآنَ ليحكم بينَ النَّاسِ فيما اختلفوا فيه، ونهاهم عن تحكيم غيره، أو التَّحاكم إلى سواه مِن القوانين الوضعيَّة، يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾، ويقول تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ . أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾، ولَمَّا أعرضَ كثيرٌ من النَّاس عن تحكيم كتاب الله وحَكَمُوا بغيرِ ما أنزلَ الله، استحقُّوا عُقوبة اللهِ، وحَلَّ بهم سَخَطَهُ، وأذاقهم اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وظَهَرَ فيهم الفقر؛ قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: [ما نَقَضَ قَوْمٌ العَهْدَ إلاَّ سُلِّطَ عليْهِمْ عَدُوُّهُمْ، وما حَكَمُوا بغيرِ ما أَنزلَ اللهُ إلاَّ فَشَا فيهِمُ الفَقْرُ]. ومِن آثارِ هَجْرِ التَّحاكُمِ إلى القُرآنِ وُقوعُ التَّنازع بين النَّاس، حتَّى يُصبح بعضُهم عَدُوَّاً لبعض؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [وما لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بكتابِ اللهِ ويَتَخَيَّرُوا مِمَّا أنزلَ اللهُ إلاَّ جَعَلَ اللهُ بَأْسَهُمْ بيْنَهُمْ].

 

في المقابل يقول تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾، قال المُفسرون: إن القرآن شفاءٌ للنفوس من الأمراض القلبية كالحسد والطمع والهوى ونزغات الشيطان والانحراف عن طريق الحق، وشفاءٌ من الوسوسة والقلق والحيرة والاضطراب، لأنه يصل القلب بالله، فيسكن ويطمئن.

 

والمشروع في حق المسلم أن يُحافظ على تلاوة القرآن، ويُكثر من ذلك حسب استطاعته؛ امتثالاً لعموم قول الله سبحانه وتعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ﴾، وقوله: ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ﴾.

 

أحبتي.. من غير اللائق بالمسلم، الذي أكرمه الله بهذا الدين العظيم وأنزل إليه القرآن الكريم مكرمةً إلهيةً فيها الهداية والنور، أن يُخلي أيامه من التأمل فيه، والتفكر في معانيه، وتلاوة آياته، والمرور على مواعظه، وألا حرم نفسه من خيرٍ كثير. إن (هجر القرآن) أمرٌ عظيمٌ وخطرٌ كبيرٌ؛ فالقرآن ليس كتاباً يوضع على الرف، أو تُزين به المكتبات، إنما هو نورٌ يُضيء القلوب، ورفيقٌ لا يُهجَر؛ فمن جعل القرآن صاحباً، والتزم بتلاوته والإنصات إليه وفهمه وتدبره وجعله منهج حياةٍ له وجد فيه الأمان والهداية.

اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، وقائدنا وسائقنا إلى رضوانك، وإلى جنات النعيم. اللهم ألبسنا به الحُلل، وأسكنا به الظلل، وأسبغ عليه به من النعم، وادفع عنا به من النقم. اللهم اجعلنا ممن يتلوه حق تلاوته، على الوجه الذي يُرضيك عنا. اللهم اجعل القرآن العظيم لقلوبنا جلاءً، ولأبصارنا ضياءً، ولقلوبنا نوراً، ولأسقامنا دواءً، ومن الذنوب مُمحصاً، وعن النار مُخلصاً، وإلى أعلى جناتك قائداً يا رب العالمين. اللهم ذَكِّرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا. اللهم اجعلنا ممن يُقيم حروفه وحدوده، ولا تجعلنا ممن يُقيم حروفه ويُضيِّع حدوده يا رب العالمين. اللهم ارزقنا العمل بكتابك، واجعل تلاوتنا له حجةً لنا لا حجةً علينا. نسألك اللهم أن تُعيننا على تلاوة كتابك وحفظه وفهمه، والعمل بأحكامه، والالتزام به منهج حياةٍ. اللهم تقبل منا صيامنا وصلاتنا وقيامنا ودعاءنا وتلاوتنا لقرآنك يا رب العالمين.

https://bit.ly/41PrehJ

الجمعة، 7 مارس 2025

حقوق الجار

 

خاطرة الجمعة /489

الجمعة 7 مارس 2025م

(حقوق الجار)

 

من المواقف العجيبة التي حدثت في شهر رمضان المبارك، ما يرويه هذا الرجل الذي كان مُعتكفاً بمسجد قريته في العشر الأواخر من الشهر الفضيل، كتب يقول:

بينما كنا نؤدي صلاة التراويح في المسجد، وكنتُ أقف في أقصى يمين الصف الأول، كان بجانبي طفلٌ صغيرٌ، وبينما نحن ساجدون، سمعتُ الطفل يتحدث إلى الله -سُبحانه وتعالى- بفطرةٍ طفوليةٍ قائلاً: "يا رب، والدي مريضٌ اليوم؛ ولم يستطع أن يُصلي التراويح، وقد جئتُ لأُصلي مكانه، فهل لك أن تشفيه؟ أعدك أننا سنُصلي معاً عندما يشفى". وكان الطفل يُردد بعض الأدعية في كل سجدةٍ، مُعبِّراً عن حُبه لوالده، وأنه لم يُغضبه قط. لقد أذهلني جمال ما سمعته من هذا الطفل، وبعد انتهاء الصلاة، أخذته جانباً، وقدمتُ له عُلبة عصيرٍ، ثم سألته: "أخبرني، ما الذي يُعاني منه والدك؟ لقد سمعتك تتحدث إلى الله عنه". فأجاب ببراءة الأطفال: "يا عمي، والدي يأتي دائماً ليُصلي في مكانك هذا، ولا يتخلف عن أي فرضٍ، ولكنه اليوم مريضٌ ولا يستطيع المجيء. فقلتُ له: يا أبي، سأذهب وأقف في مكانك، حتى إذا نظر الله إليّ، يجدني واقفاً محلك"!

أصابتني الدهشة، وأدركتُ أن هذا الطفل هو ثمرة تربية رجلٍ صالحٍ؛ فاستأذنتُ من الشيخ أن أخرج من الاعتكاف لفترةٍ قصيرةٍ لأرى مَن هو هذا الرجل الصالح الذي ربى ابنه بهذه الطريقة، ولأعوده في مرضه. ذهبتُ مع الطفل إلى منزله، وفوجئتُ بأنني أعرف والده جيداً؛ إنه رجلٌ كبيرٌ في السن، يُصلي دائماً معنا، عفيف النفس، لا نسمع له صوتاً، ولم أره قط إلا والمُصحف في يده. سلَّمتُ عليه، وصدمني ما رأيت من حالة منزله المُتدهورة؛ فقد كان المنزل في حالةٍ سيئةٍ للغاية، والغريب أننا نعرف (حقوق الجار)، وكُنا نتفقد أحوال الجيران، ونحصر الحالات الفقيرة في قريتنا، ولم نكن نعلم أن هذا الرجل الطيب هو أكثر مَن يستحق المُساعدة، وتذكرت قول الله تعالى: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾، ومن فضل الله، أنه فينفس الليلة، وبعد صلاة العشاء، أعطاني أحدهم ظرفاً فيه مبلغ 1300 جنيه، زكاة مالٍ، وطلب مني أن أُعطيها لمن يستحق؛ فأعطيتُ الظرف للطفل وقلتُ له ألا يفتحه، وأن يُسلِّمه لوالده بعد أن أُغادر.

الأعجب من ذلك؛ أنني كُنتُ قد كتبتُ منذ فترةٍ منشوراً عن فتاةٍ حدثت والدتها زوجتي عنها، بأنها قوّامةٌ صوّامةٌ، تكاد لا تُفارق كتاب الله لحظةً، حتى أنها تنام والمُصحف في حُضنها، وأن شاباً صالحاً تقدَّم لخطبتها، ولكن ظروف والدها المادية تؤخر زواجهما. المفاجأة أنني علمتُ أن هذه الفتاة هي ابنة ذلك الرجل الطيب! فعدتُ مُسرعاً إلى المسجد، وأخبرتُ شيخي، فلم يُصدِّق أننا كنا غافلين عن رجلٍ بهذا الصلاح والتقوى. اتصل الشيخ بصاحب شركة أجهزةٍ كهربائيةٍ يعرفه، وطلب منه تجهيز جهاز عروسٍ كاملٍ، وعُدنا إلى منزل الرجل الطيب، أنا والشيخ، وعندما أخبرتُ والدة الفتاة عن جهاز العروس، بكت من الفرحة، ولا أستطيع أن أصف لكم كيف احتضنت ابنتها، لكن والدها كان عزيز النفس، ورفض المُساعدة؛ فرأيتُ في وجه شيخي نظرة انكسارٍ، وكان يتذلل للرجل ليقبل جهاز العروس، وألاّ يحرمه من هذا الأجر، نظرةً جعلت الرجل يشعر بأن الشيخ هو الذي يحتاج إلى أجر الصدقة، وليس هو؛ فوافق الرجل بفضل الله بعد إلحاحٍ، فقال له الشيخ: "اذهب لإحضار جهاز العروس، وستجده مدفوع الثمن بفضل الله".

كل هذا -بفضل الله- لم يستغرق أكثر من ساعتين! فسألتُ الرجل الطيب: "ما الذي بينك وبين الله حتى يُسخِّر لك عباده هكذا؟" فأجاب: "إذا انقطعت حبال الناس، فحبل الله موصول"، وكان يُردد طوال الوقت قول الله تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾. وعندما عُدنا إلى المسجد، قال الشيخ بابتسامةٍ جملةً لن أنساها: "لا يترك الله عبداً صابراً حتى يرزقه التعجب من جبره، والفرح بما كان من تأخير رزقه، وأن عطاء الله إذا حلّ يُنسيك ما فقدت".

 

أحبتي في الله.. هذه القصة فيها العديد من المواعظ والعِبَر، اخترتُ منها واحدةً فقط، ألا وهي (حقوق الجار). يقول أهل العلم إن المعنى الاصطلاحي لمفهوم الجار هو المُلاصقة في السكن، ونحوه كالبُستان والمزرعة والسوق ومكان العمل ومقعد الدراسة.

ومن جُملة الوصايا التي أوصى الله تعالى بها عباده المؤمنين الإحسان للجار؛ يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ﴾. و﴿الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ هو جارٌ وقريبٌ في آنٍ واحدٍ، أما ﴿الْجَارِ الْجُنُبِ﴾، فهو جارٌ لا تربطه بجاره صِلة قرابة.

 

وعن (حقوق الجار) يقول أهل العلم إنّ للجار في سُنة النبي صلى الله عليه وسلم حرمةً مصونةً وحُقوقاً وآداباً كثيرةً، لم تعرفها قوانين وشرائع البشر؛ لقد أوصانا النبي بما فيه خيرنا وصلاح أمرنا في دِيننا ودُنيانا وآخرتنا؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [والذي نفْسِي بِيدِهِ، لا يُؤمِنُ عبدٌ حتى يُحِبَّ لِجارِهِ ما يُحِبُّ لِنفسِهِ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [خيرُ الجيرانِ عندَ اللهِ خيرُكم لجارِه]. وقد استمرت الوصية بالجار من جبريل عليه السلام لنبينا صلى الله عليه وسلم حتى ظن أنه سيورثه، وما ذاك إلا لِعِظَم حق الجار؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [ما زال جبريلُ يوصيني بالجارِ حتَّى ظننتُ أنه سيورِّثُه]. وورد أن رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: [الجيرانُ ثلاثةٌ: فمِنهم مَن له ثلاثةُ حُقوقٍ، ومنهم مَن له حَقَّانِ، ومنهم مَن له حَقٌّ، فأمَّا الذي له ثلاثةُ حُقوقٍ: فالجارُ المُسلِمُ القَريبُ، له حَقُّ الجِوارِ، وحَقُّ الإسلامِ، وحَقُّ القَرابةِ، وأمَّا الذي له حَقَّانِ: فالجارُ المُسلِمُ، له حَقُّ الجِوارِ، وحَقُّ الإسلامِ، وأمَّا الذي له حَقٌّ واحِدٌ فالجارُ الكافِرُ، له حَقُّ الجِوارِ].

ومن (حقوق الجار): تَفقُّده وإطعامه إن جاع؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما آمن بي من بات شبعانَ وجارُه جائعٌ إلى جنبِه وهو يعلم به]، وفي روايةٍ: [ليس بمؤمنٍ من بات شبعان وجارُه إلى جنبِه جائعٌ وهو يعلمُ]، وقال لأبي ذرٍ رضي الله عنه: [يا أبا ذَرٍّ إذا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فأكْثِرْ ماءَها، وتَعاهَدْ جِيرانَكَ]. ومن (حقوق الجار) الإحسان إليه؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [أحسِن إلى جارِكَ تَكُن مؤمنًا]، ويقول: [مَن كان يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيُحسِنْ إلى جارِه]. وكذلك إكرام الجار؛ يقول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيُكرِمْ جارَهُ]. وأيضاً المُحافظة على عِرضه وعدم خيانته؛ فعندما سُئلَ رسولُ اللهِ عليه الصلاة والسلام أيُّ الذنبِ عندَ اللهِ أكبرُ؟ كان مما قاله: [أنْ تُزَانِيَ بحَلِيلَةِ جَارِكَ]، ويقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: [لأن يزنيَ الرَّجلُ بعشرِ نسوةٍ أيسرُ عليه من أن يزنيَ بامرأةِ جارِه]، ويقول: [لأن يسرقَ الرَّجلُ من عشرةِ أبياتٍ أيسرُ عليه من أن يسرِقَ من جارِه]. كما أن من (حقوق الجار) كف الأذى عنه؛ يقول صلى الله عليه الصلاة والسلام: [لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوائِقَهُ]، وقيلَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: يا رَسولَ اللهِ! إنَّ فلانةَ تقومُ اللَّيلَ وتَصومُ النَّهارَ وتفعلُ، وتصدَّقُ، وتُؤذي جيرانَها بلِسانِها؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليهِ وسلم: [لا خَيرَ فيها، هيَ من أهلِ النَّارِ].

ومن (حقوق الجار) ما ورد في الأثر: "إذا استَعانَكَ أعَنتَه، وإذا استَقرَضَكَ أقرَضتَه، وإذا افتَقَرَ عُدتَ عليه، وإذا مَرِضَ عُدتَه، وإذا أصابَه خَيرٌ هَنَّأْتَه، وإذا أصابَتْه مُصيبةٌ عَزَّيتَه، وإذا ماتَ اتَّبَعتَ جِنازَتَه، ولا تَستَطِلْ عليه بالبِناءِ تَحجُبْ عنه الرِّيحَ إلَّا بإذْنِه".

 

ومن آداب الجيرة التي نبهنا إليها علماؤنا الأفاضل: ابتداء الجار بالسلام، مع السؤال عن حاله والبشاشة في وجهه. المُسارعة الى إسعافه عند الحاجة. التلطف في مُعاملة أبنائه، والإحسان إليهم، والرفق بهم ونصيحتهم بالمعروف. الإخلاص في مشورته وإرشاده الى ما قد يجهله من أمور دينه ودنياه. بذل النصيحة له. تحمل الأذى منه، والصبر على جفائه، وإعراضه. الصفح عن زلاته وسقطاته، والتغاضي عن تقصيره وسيئاته، ومُعاتبته برفقٍ وأدبٍ على هفواته. خفض صوت المذياع والتلفاز تجنباً لمضايقته، خصوصاً في أوقات راحته. تجنب إيذائه بتضييق الطريق عليه، أو طرح الأقذار قُرب داره. غض البصر عن أهله. تجنب مُتابعة أسراره، والحفاظ على حُرمته. وملاحظة داره عند غيبته.

وكان العرب يفخرون بصيانتهم أعراض الجيران حتى في الجاهلية؛ يقول شاعرهم:

وَأَغَضُّ طَرْفي ما بَدَت لي جارَتي

حَتّى يُواري جارَتي مَأواها

إِنّي اِمرُؤٌ سَمحُ الخَليقَةِ ماجِدٌ

لا أُتبِعُ النَفسَ اللَجوجَ هَواها

وأما في الإسلام فيقول الشاعر:

ما ضرَّ جاريَ إذ أجاوِرُه

أن لا يكونَ لبيتِه سِتْرُ

أَعمى إذا ما جارتي خرجتْ

حتّى يُوَارِيَ جارتي الخِدْرُ

وأَصمُّ عمّا كان بينَهُما

سَمعي، وما بي غيرَه وَقْرُ

 

وحَدُ الجوار أربعون جاراً في كل اتجاهٍ؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [حَقُّ الجارِ أربعونَ دَارًاهَ كَذا وَهكَذا وَهكَذا وَهكَذا؛ يَمينًا وشِمالًا وقُدَّامًا وخَلْفًا]، وحين أتى رجلٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يشكو جاراً له، أمر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعضَ أصحابِه أن يُناديَ: [ألا إنَّ أربعين دارًا جارٌ].

وكلّما كان الجار أقرب كان هذا القُرب أكثر تأكيداً لحقه؛ فعندما سألت السيدة عائشة رضي الله عنها رسول الله: "إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟"، قال: [إلى أقْرَبهِما مِنْكَ بابًا].

 

أحبتي.. يُقال: "الجار قبل الدار"، ويُقال: "على قدر الجار يكون ثمن الدار"، ويُقال: "الجار الصالح من السعادة"، لكن للأسف؛ كثيرٌ من الناس لا يعرف جاره، ولا يسأل عنه أو يتفقد أحواله، والبعض لا يهتم بحقوق جاره عليه، مع أن الإحسان إلى الجار وإكرامه والقيام بحقوقه أمرٌ ثابتٌ بنص ما ورد في كتاب الله عزَّ وجلَّ، وما ورد في سُنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم.

أختم بقول أحدهم: سعادة المجتمع وترابطه وشيوع المحبة بين أبنائه لا تتم إلا بالقيام ب(حقوق الجار) وفقاً لما جاءت به الشريعة الغراء، وإن واقع كثيرٍ من الناس ليشهد قُصوراً شديداً في هذا الجانب؛ حتى إن الجار قد لا يعرف اسم جاره الملاصق له في السكن، وحتى إن بعضهم ليغصب حق جاره، وإن بعضهم ليخون جاره في عِرضه.

نسأل الله أن يُعيننا والمسلمين على القيام بحقوق الجوار، والإحسان إلى جيراننا.

 

https://bit.ly/3Dzv9XM

 

الجمعة، 28 فبراير 2025

لا تُضيِّع صيامك

 

خاطرة الجمعة /488

الجمعة 28 فبراير 2025م

(لا تُضيِّع صيامك)

       

هذا مقالٌ نشره الراحل الدكتور/ مصطفى محمود، يتحدث فيه عن واقعةٍ حدثت قبل حوالي ستين عاماً، عندما كان طفلاً صغيراً. المقال بعنوان: «لماذا لا يحترم الإعلام العربي رمضان؟»، جاء فيه:

لماذا يتحول رمضان إلى شهرٍ ترفيهيٍ بدلاً من شهرٍ روحانيٍ؟ لستُ شيخاً ولا داعيةً، ولكني أفهم الآن لماذا كانت والدتي تُدير التلفاز ليواجه الحائط طوال شهر رمضان.. كنتُ طفلاً صغيراً ناقماً على أُمي التي منعتني وإخوتي من مُشاهدة فوازير رمضان بينما يُتابعها كل أصدقائي.. ولم يشفِ غليلي إجابة والدتي المقتضبة: "رمضان شهرٌ للعبادة، ليس للفوازير!"، لم أكن أفهم منطق أُمي الذي كنتُ كطفلٍ أعتبره تشدداً في الدين لا فائدة منه.. فكيف ستؤثر مُشاهدة طفلٍ صغيرٍ للفوازير على شهر رمضان؟

مرت السنوات وأخذتني دوامة الحياة وغطى ضجيج معارك الدراسة والعمل على همسة سؤالي الطُفولي، حتى أراد الله أن تأتيني الإجابة عن هذا السؤال من رجلٍ مُسنٍ غير مُتعلمٍ في الرُكن الآخر من الكُرة الأرضية، كان ذلك الرجل هو عاملٌ أمريكيٌ في محطة بنزينٍ اعتدت دخولها لشراء قهوةٍ أثناء ملء السيارة بالوقود في طريق عملي، وفي اليوم الذي يسبق يوم الكريسماس دخلتُ لشراء القهوة كعادتي، فإذا بي أجد ذلك الرجل مُنهمكاً في وضع أقفالٍ على ثلاجة الخمور، وعندما عاد لمُحاسبتي على القهوة، سألته وكنتُ حديث عهدٍ بقوانين أمريكا: "لماذا تضع أقفالاً على هذه الثلاجة؟!"، فأجابني: "هذه ثلاجة الخمور، وقوانين الولاية تمنع بيع الخمور في ليلة ويوم الكريسماس، يوم ميلاد المسيح"، نظرتُ إليه مُندهشاً قائلاً: "أليست أمريكا دولةً علمانيةً؟ لماذا تتدخل الدولة في شيءٍ مثل هذا؟"، قال الرجل: "الاحترام؛ يجب على الجميع احترام ميلاد المسيح وعدم شُرب الخمر في هذا اليوم، حتى وإن لم تكن مُتديناً؛ إذا فقد المُجتمع الاحترام فقدنا كل شيءٍ".

الاحترام.. الاحترام.. ظلت هذه الكلمة تدور في عقلي لأيامٍ وأيامٍ بعد هذه الليلة؛ فالخمر غير محرمٍ عند كثيرٍ من المذاهب المسيحية في أمريكا.. ولكن المسألة ليست مسألة حلالٍ أو حرامٍ.. إنها مسألة احترامٍ.. فهُم ينظرون للكريسماس كضيفٍ يزورهم كل سنةٍ ليُذكرهم بميلاد المسيح عليه السلام، وليس من الاحترام السُكْر في معية ذلك الضيف.. فلتسكر ولتعربد في يومٍ آخر إذا كان ذلك أسلوب حياتك.. أنتحرٌ.. ولكن في هذا اليوم سيحترم الجميع هذا الضيف!

 

أحبتي في الله.. أنهى الكاتب مقاله بالقول: أتمنى أن نحترم شهر القرآن، ونعرف ماذا نُشاهد، ومن ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه، قال تعالى: ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾. نحن على قناعةٍ بأن إعلامنا نزع مفردة الاحترام من قاموسه؛ فهل ستتحلى أنتَ بقليلٍ من الاحترام، وتقلب شاشة تلفزيونك؟ أو على أقل تقديرٍ تحذف بعض القنوات وتكتفي بِما يُعزز احترامك لشهر رمضان الفضيل؟

 

 يقول أهل العِلم (لا تُضيِّع صيامك)؛ فإنّ مُشاهدة المُسلسلات التلفزيونية المُشتملة على المُحرمات-كالتبرج والاختلاط ونحو ذلك- في نهار رمضان أو ليله صحيحٌ إنها لا تُبطل الصيام، لكنها تنقص أجره، بل قد تذهب بأجره بالكُلية؛ يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ربَّ صائمٍ ليسَ لَه من صيامِه إلَّا الجوعُ] أَيْلَيْسَ لِصَوْمِهِ قَبُولٌ عِنْد اللَّه فَلَا ثَوَاب لَهُ، ومُشاهدة هذه المُسلسلات دليلٌ على عدم تحقق الغاية التي فُرضمن أجلها الصيام، وهي تقوى الله جلَّ وعلا؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. وليس المقصود من الصيام هو الجوع والعطش ثم يأتي الليل فيسرح الصائم ويمرح كيفما شاء دون رقيبٍ؛ يقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ].

 

ويقول العُلماء إنّ غالب المُسلسلات لا يخلو من مُحرماتٍ؛ كتبرج النساء، والاختلاط المُحرَّم، والموسيقى، وكلمات الغرام والفُحش، ونحو ذلك من تعدٍ على حدود الله، بل وينطوي بعضها أحياناً على أفكارٍ تهدف إلى تغريب المجتمع وسلخه من قيمه وتغيير هويته الإسلامية. والمُسلسلات عربيةٌ كانت، أو غير عربيةٍ، لا تخلو في الغالب من مُتبرجاتٍ كاشفاتٍ حاسراتٍ عن رؤوسهن أو شُعورهن، واضعاتٍ للمكياج والأصباغ، وسائر أنواع الزينة، مما لا يجوز أن تظهر به المرأة أمام الرجال الأجانب عنها، وإنما يختص جواز ذلك بالزوج أو المحارم. وقد يكون الدور التمثيلي يقتضي الاختلاط؛ كمن يُمثل دور أبٍ لفتاةٍ، فإنه يُعاملها وكأنها ابنته، رغم أنها أجنبيةٌ عنه، فرُبما صافحها، أو عانقها. وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة حينما يكون دورها ابنةً أو أُختاً أو أُمّاً أو زوجةً، فيحصل النظر المُحرم من الطرفين، واللمس والتقبيل، وغير ذلك مما لا يجوز.

فلكل ذلك لا تجوز مُشاهدة هذه المُسلسلات، سواءً في رمضان أو غيره، إلا أن قُبح الذنب يزداد عند فعله في الأوقات الفاضلة ومواسم الخير، والتي من أعظمها هذا الشهر المُبارك الذي وصفه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: [إذا كان أولُ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ صُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدةُ الجنِّ، وغُلِّقتْ أبوابُ النارِ فلم يُفتحْ منها بابٌ، وفُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ فلم يُغلقْ منها بابٌ، ويُنادي منادٍ كلَّ ليلةٍ: "يا باغيَ الخيرِ أقبلْ، ويا باغيَ الشرِّ أقْصرْ"، وللهِ عتقاءُ من النارِ، وذلك كلَّ ليلةٍ].

وإذا كان قبيحاً بالعبد أن يغفل عن استثمار هذه الأوقات النفيسة وأن يُضيِّعها فيما لا فائدة فيه وإن كان مُباحاً، فكيف إذا بدَّدها فيما يُغضب الله عزَّ وجلَّ؟! (لا تُضيِّع صيامك)؛ فالصوم ليس مقصوراً على ترك الطعام والشراب والجماع، وإنما حقيقته صوم الجوارح عمّا حرَّم الله، بل ويشمل صوم القلب عن المقاصد السيئة والنوايا الخبيثة وكفه عمّا سوى الله. ومُشاهدة هذه المُسلسلات مُحرمٌ قطعاً، ولا يسع مُسلماً، ولا مُسلمةً يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجلس إلى شاشة التلفاز في وقتٍ تُعرض فيه هذه البرامج، ولا يجوز له السماح بمُشاهدتها لمن تحت يده من أهلٍ وذُرية، بل الواجب على المُسلم غض البصر عما حرَّم الله؛ لقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ . وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ وعليه أن يقي نفسه وذريته أسباب الانحراف، وطُرق الرذيلة والفاحشة؛ وقد قيل: "إذا صُمتَ فليصم سمعك وبصرك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطر كسواء".

وعلى من أدمن على مُشاهدة هذه المُسلسلات أن يمتنع عن ذلك في رمضان وفي غيره، وأن يتوب إلى الله ويستغفره، وهو سُبحانه يقبل توبة العبد مهما أسرف على نفسه؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، بل ويُبدِّل الله عزَّوجلَّ سيئات المُذنب حسناتٍ بشرط التوبة والإيمان والعمل الصالح؛ يقول سبحانه: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾.

لابد أن نعيش في رمضان بروحانياتٍ راقيةٍ تفوح بعبق الإيمان والبُعد عن الإسفاف، نملأ ليالينا بالمُفيد من عبادةٍ وذكرٍ وقراءة قرآن.

 

أحبتي.. ونحن على أعتاب شهر رمضان الفضيل علينا أن نستقبله بكل احترامٍ وتوقيرٍ، ونجعله شهر عباداتٍ وذكرٍ لله سُبحانه وتعالى، لا شهر مُجونٍ وإسفافٍ وابتذالٍ. إنه يأتي مرةً واحدةً في السنة يحمل معه من البركات والخيرات والفيوضات ما لا يوجد في غيره؛ فلتكن نصيحة كلٍ منا لغيره: (لا تُضيِّع صيامك) ولا تُضيّع على نفسك ثواب هذه الأيام الفضيلة، ولنتدبر الدعاء الذي دعا به جبريل عليه السلام، وأمَّن عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين صعِد المنبرَ، فقال: [آمين، آمين، آمين]، فلمَّا نزل سُئل عن ذلك، فقال: [أتاني جبريلُ، فقال: رغِم أنفُ امرئٍ أدرك رمضانَ فلم يُغفرْ له، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين، ...]. إن خير ما نتواصى به في رمضان هو تقوى الله تعالى؛ فهي الثمرة المرجوة من وراء الصوم لا تتحقق إلا بفعل المأمورات، وترك المنهيات، فلنحرص في هذه الأيام المُباركة على الإكثار من كل طاعةٍ تُقربنا إلى الله تعالى، صلاةً وصياماً وقياماً وقراءةً للقرآن، وصدقةً وإنفاقاً ومساعدةً للمُحتاجين. كما أن علينا أن نتجنب كل ما يُغضب الله تعالى من الأقوال والأفعال، لاسيما الغيبة والنميمة، ومُشاهدة ما حرَّم الله من صور النساء والأفلام والمُسلسلات المُشتملة على السُفور والاختلاط؛ فالصوم الحقيقي صوم الجوارح عما حرَّم الله. إن مُتابعة المُسلسلات ذنبٌ، والمجاهرة بمُتابعتها ذنبٌ آخر، أما الترويج لها وحث الناس على مُتابعتها فهو ذنبٌ أكبر. لقد بات الأمر مرهوناً بإرادتنا، والأذكياء فقط هُم من يختارون ما يُفيدهم ولا يضرهم، هُم الذين يستثمرون كل دقيقةٍ في هذا الشهر الفضيل في الطاعة والعبادة، وزيادة رصيدهم من الحسنات.

اللهم تقبل منا صيامنا وصلاتنا وقيامنا وسائر أعمالنا، وثقِّل بها موازيننا، وضاعف لنا أجورنا؛ فأنت سُبحانك أكرم الأكرمين.

 

https://bit.ly/3EWn7sF

الجمعة، 21 فبراير 2025

تارك الصلاة

 

خاطرة الجمعة /487

الجمعة 21 فبراير 2025م

(تارك الصلاة)

 

يقول صاحب القصة: منذ ٣٥ سنةً، وفي أول حياتي العملية، ذهبتُ لإجراء مُقابلةٍ في «السفارة الكويتية» في «القاهرة» للعمل مُعلماً للغة العربية بدولة «الكويت»، أدخلوني إلى صالةٍ كبيرةٍ مليئةٍ بمئات المُتقدمين لشغل هذه الوظيفة في انتظار المثول أمام اللجنة. فجأةً؛ أُذن لصلاة الظهر ونحن ننتظر دورنا؛ فخرج رئيس اللجنة إلى صالة الانتظار، وأُقيمت الصلاة جماعةً فصلى إماماً في بهو الصالة بمُعظم الحاضرين، بينما وقف البعض في شُرفةٍ كبيرةٍ في آخر الصالة دون أن يُصلوا، وظل آخرون جالسين على كراسيهم يقرأون الصحف. انتهت الصلاة وكانت المفاجأة؛ استدار الإمام -رئيس اللجنة - وقال بالحرف الواحد: "كل الجالسين والواقفين في الشُرفة يتفضلوا يروحوا على بيوتهم ولن يدخلوا المقابلة"، ثم أمر المأمومين خلفه الذين صلوا معه أن يُسَلِّموا جوازات سفرهم للسكرتارية لتوقيع العقود واستلام تذاكر الطيران تمهيداً لسفرهم بعد أُسبوع، وبدون عمل مقابلةٍ، ثم قال مُوجهاً كلامه للجميع: "كيف آمن على الناشئة والتلاميذ من أستاذٍ لا يُصلي ولا يحرص على الصلاة؟". انتهى الموقف وسط ذهول الجميع وخيبة أمل الذين لم يُصلوا -وكنتُ منهم- وساقونا إلى خارج السفارة زُمُراً كأعجاز نخلٍ خاويةٍ! ورغم حُزني ساعتها إلا أنني فرحتُ ولم أغضب؛ أن كانت الصلاة هي المُقابلة، وقُلتُ لزملائي الذين نجحوا في هذا الاختبار: "أنجتكم صلاتكم".

 

أحبتي في الله.. هذه القصة تُبين جانباً محدوداً -لكنه مؤثرٌ- مما يضيع من فرصٍ على (تارك الصلاة)، وهي في هذه القصة، كانت فرصة عملٍ يحلم بها جميع المتقدمين، صارت درساً لمن حضر هذا الموقف، وربما كانت سبباً في انتباه المُقصرين في أداء الصلاة على وقتها ليتداركوا أنفسهم. لكن آخرين -في مواقف أُخرى- لا تتوفر لهم فرصة إصلاح أمورهم والعودة إلى الطريق القويم، ومن ذلك القصة التالية التي يرويها أحدهم؛ كتب يقول:

 

كنتُ تاركاً للصلاة.. نصحني أبي وأُمي وإخوتي وأخواتي، لكني لم أكن أعبأ بنصيحة أيٍ منهم.. إلى أنرنّ هاتفي ذات يومٍ فإذا بشيخٍ كبيرٍ -لا أعرف من هو- يسألني وهو يبكي: "«أحمد»؟"، قُلتُ: "نعم!"، قال: "أحسن الله عزاءك في «سالم»؛ وجدناه ميتاً على فراشه صباح اليوم"، صرختُ: "«سالم»؟! لا يُمكن؛ لقد كان معي البارحة!"، بكى الشيخ وقال: "سنُصلي عليه في الجامع الكبير بعد صلاة الظهر". أغلقتُ الهاتف وبكيتُ، وسألتُ نفسي: "كيف يموت «سالم» وهو شابٌ؟"، أحسستُ أن الموت يسخر من سؤالي. دخلتُ المسجد باكياً.. لأول مرةٍ أُصَّلي على ميتٍ، بحثتُ عن «سالم» فإذا هو ملفوفٌ بقطعة قماشٍ.. موضوعٌ على الأرض أمام الصفوف.. لا يتحرك.. صرختُ لما رأيته.. أخذ الناس بالمسجد يتلفتون وينظرون إليّ.. غطيتُ وجهي بغُترتي وخفضتُ رأسي.. حاولتُ أن أتجلد لأبدو متماسكاً.. جرّني أبي إلى جانبه وهمس في أذني: "صلِّ قبل أن يُصلَى عليك"! فكأنما أطلق أبي ناراً لا كلاماً.. أخذتُ أنتفض وأنظر إلى «سالم».. ثم سألتُ نفسي: "لو قام من الموت.. تُرى ماذا سيتمنى؟ سيجارةً؟ صديقةً؟ سفراً؟ أغنيةً؟"، تخيلتُ نفسي مكانه، وتذكرتُ الآية الكريمة: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾. صلينا صلاة الجنازة، ثم انصرفنا إلى المقبرة.. أنزلنا «سالم» في قبره.. أخذتُ أُفكر: "إذا سُئل عن عمله ماذا سيقول؟ عشرون أغنيةً! وستون فيلماً! وآلاف السجائر!"، بكيتُ كثيراً.. لا صلاةً تشفع.. ولا عملاً ينفع.. لم أستطع أن أتحرك.. انتظرني أبي كثيراً.. فتركتُ «سالم» في قبره ومضيتُ أمشي، وهو يسمع قرع نعالي.

ومن القصص بالغة القِصَر عن ترك الصلاة: سألوه: "كيف انتظمتَ في الصلاة؟"؛ فقال: "سمعتُ شيخاً يقول يا (تارك الصلاة) مُصيبتك أعظم من مُصيبة إبليس؛ لأن إبليس رفض أن يسجد لآدم، وأنت ترفض أن تسجد لرب آدم! فما الذي بينك وبين الله حتى تكره لقاءه؟ صلِ قبل أن يُصلى عليك، ما نحن إلا جنائز مؤجلةٌ فاستقم ولا تتبع الهوى".

 

 أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالصلاة في العديد من آيات القرآن الكريم؛ ومنها: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾، و﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾. وتوعد سُبحانه من يتكاسل عن الصلاة بالويل؛ يقول تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾. وترك الصلاة سببٌ في دخول جهنم؛ يقول تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِيسَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾. وعمّن يُضيعون الصلاة يقول تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ فاتحاً برحمته باب التوبة والعودة إلى الإيمان والعمل الصالح أمام هؤلاء.

 

وقد اتفق الفُقهاء على أنّ مَن ترك الصلاة جُحوداً بها، وإنكاراً لها، فهو كافرٌ، خارجٌ عن الملة بالإجماع؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: [بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِيمَانِ تَرْكُ الصَّلاةِ]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ]، ويقول أيضاً: [إِنَّ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ]. أما من ترك الصلاة مع إيمانه بها، واعتقاده بفرضيتها، ولكنه تركها تكاسلاً، أو تشاغلاً عنها، فهو في خطرٍ عظيمٍ.

 

يقول العلماء إن من أعظم البلايا التي تُصيب المرء أن يُملي له الشيطانُ أن يستمر على المعاصي والشهوات التي تهواها النفس فلا يردها ولا يمنعها، ويُملي له أن يترك الأعمال التي أوجبها الله عليه فيستجيب ولا يؤديها! يُسوّل له الشيطان أنه ما دام يقول: "لا إله إلا الله" فهو على خيرٍ، فليس يضر معقول هذه الكلمات أي ذنبٍ؛ فيكون بهذا من أعظم الخاسرين؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾. غفل المسكين عن أن الإسلام ليس كلماتٍ يُرددها المرء بلسانه دون أن يُصدقها بعمله وجوارحه وبعبادته لله جلَّ وعلا. إنه لمن المُضحك المُبكي أن كثيراً من الناس يظن أن الإسلام صِفةٌ يرثها من أبويه فقط؛ فهو مُسلمٌ وإن لم يُصلِ ولم يصم ولم يعمل أي عملٍ تعبديٍ يُخلص به التوجه نحو ربه عزَّ وجلَّ، وإلا فما معنى أن يكون المرء مُسلماً ثم هو لا يستسلم لربه بالخضوع والإنابة والعبادة؟!

 

يقول أحد الشيوخ: كل أولئك الذين لا يُصَلُّون لم يعرفوا للحياة طعماً، لم يعرفوا لاضطراب قلوبهم دواءً، يُكابرون بادعائهم السعادة! كل النجاحات التي جنوها ما هي إلا نجاحاتٌ دُنيويةٌ واهيةٌ، لا تُحقق شيئاً من السعادة؛ فأي سعادةٍ تلك التي يشعر شخصٌ لم يتصل بخالقه ولم يُبح له عمّا في قلبه أو يودعه أُمنياته في سجوده؟! أي سعادةٍ تلك التي سيمتلكها شخصٌ ليس بينه وبين شهواته رادع؟! عن أي سكينةٍ يتحدث وكل تلك النجاحات ما هي إلا كلوحةٍ آسرةٍ لمن ينظر إليها من بعيدٍ، ولا يُدرك ما وراءها من مآسٍ يعلمها بالتأكيد (تارك الصلاة) إذا ما اختلى بنفسه علم أنه مقبوض القلب كئيبٌ، ناجحٌ في الدنيا، خاسرٌ في الآخرة؟

 

وَجَّه أحد الكُتّاب إلى (تارك الصلاة) السؤال التالي: لماذا تترك صلاتك؟ هل من أجل المال؟ والمال رزقٌ من الله يستوجب شكره بالصلاة، واستخدمه في عبادة الله بالطيب من النفقات والزكاة والحج والعُمرة والصدقات، ولا تجعله غايتك ومقصدك في هذه الحياة. أَم لأجل تلفازٍ تود مشاهدة الأفلام والمُسلسلات؟ وهي مُضيعةٌ للوقت، لاهيةٌ لك عن عبادتك من غير فائدةٍ تُذكر.  أَم لأجل نومٍ؟ وما أطول نومك وغفلتك عن قيام الليل والتهجد وصلاة الفجر. ألا تخاف من الله؟ ألا تخشى الموت؟ ألم تعلم بأن من العقوبات التي تلحق (تارك الصلاة) سوء الخاتمة، والمعيشة الضنك؛ لعموم قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾؟ ألم تسمع بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [أولُ ما يُحاسبُ بهِ العبدُ يومَ القيامةِ الصَّلاةُ، فإنْ صَلَحَتْ، صَلَحَ سائِرُ عَمَلِه، وإنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سائِرُ عَمَلِه]؟ ماذا يكون جوابك لربك حين يسألك عن الصلاة؟ لماذا تترك صلاتك؟ أتظن السعادة هي في الراحة الموهومة التي تظن أنك ستحصل عليها؟ وهَبْ أنك حصلتَ عليها؛ فإلى متى ستدوم؟ سبعين سنة؟ ثمانين أو تسعين سنة؟ أفتحرص على سعادةٍ موهومةٍ لمدةٍ محدودةٍ، تورثك يوم القيامة شقاءً حقيقياً قد تخلد فيه أبداً؟! أيحرص عاقلٌ على صفقةٍ هذا مآلها؟!

 

وعن (تارك الصلاة) قال الشاعر:

ناداكَ رَبُكَ لِلِقاءِ بِخَمْسَة ٍ

وَتَقولُ يا رَبِ لَسْتُ بآت ِ

أَكَثيرٌ عَلَىَ مَنْ خَلَقَ الوَرَى دَقائِقٌ

وَعَلَىَ حَبيبَكَ تَهْدِرُ الأَوْقات ِ

أَوَلا تَخافُ مِنَ المَنيةِ بَغْتَة ً

وَتَخافُ أنْ تأخُذَكَ في لَحَظات ِ

فاخْتَر طَريقَكَ في الحَياة فإنِما

أعْمارُنا ساعاتٌ في ساعات ِ

وَاسْمَع نَصيحَةَ مُشْفِق ٍ تَنْجُ بِها

مِنْ بَيْن أَهْوال ٍوَمِنْ كُرُبات ِ

ارْجَع لِرَبِكَ تَرْتَضيهِ تَذَلُلاً

وَابكِ بُحوراً مِنَ العَبَرات ِ

وَاللهَ أسْألَ أنْ يُذيقَكَ لَذْة ً

وَسَكينَة ً تأتيكَ في السَجَدات ِ

فاغْفِر إلَهي ذَنْبَ كُلِ مُقَصِر ٍ

وَارْزُقْنا جِبالاً مِنَ الحَسَناتِ

 

أحبتي.. أختم بنصيحة مُسلمٍ كان قد ترك الصلاة، ثم هداه الله فتاب توبةً نصوحاً كتب بعدها يقول:

الصلاة هي عمود الدِين؛ لا قيام للدِين من دونها؛ إن أقمناها بحقٍ أقمنا ديننا وحفظناه، وإن ضيعناها كُنا لما سواها من الفرائض أضيع؛ فلننتبه لذلك ونتدارك أنفسنا قبل أن يأتي يومٌ لا ينفع فيه ندمٌ، ونحن اليوم في فسحةٍ من العُمر والصحة، وفرصة الإنابة مُتاحةٌ لنا، فإن اغتنمناها سَعِدنا وفُزنا في الآخرة أعظم الفوز، وإن ضيّعناها فإن هذا هو الخُسران المُبين في الدارين؛ في الدنيا تكون حياة الضنك والنكد وضيق الصدر، وفي الآخرة تكون الحسرة والندامة، على ما فرَّطنا في حق أنفسنا وفي حق ربنا.. هذه فرصتنا اليوم لنُراجع أنفسنا ونستدرك ونتوب ونؤوب قبل فوات الأوان وحصول الندم؛ فهيا قُم يا (تارك الصلاة) فتوضأ وتطَّهر للصلاة، واسجد لله عزَّ وجلَّ بخضوعٍ وتذللٍ وانكسارٍ، وقُل بعزيمةٍ صادقةٍ لا تعرف التردد أو الضعف: "ها أنا ذا يا ربِ قد عدتُ إليك فاقبلني، ها أنا ذا قد عدتُ إليك فاغفر لي، ها أنا ذا قد عدتُ إليك فتُب عليّ وثبتني"، وستجد الله سُبحانه وتعالى غفوراً رحيماً؛ يغفر الذنب، ويقبل التوب، يُبدل سيئات التائب الصادق في توبته إلى حسناتٍ، واعداً إياه بالجنة وعظيم الدرجات في الآخرة، وواهباً له رضى النفس وانشراح الصدر في حياته الدنيا.

نسأل الله الهداية والثبات قبل الممات.

الجمعة، 14 فبراير 2025

شر الغفلة

 

خاطرة الجمعة /486

الجمعة 14 فبراير 2025م

(شر الغفلة)

            

سَمِعَت الأُم اضطراباً في بطنها، تلاه ضربٌ مؤلمٌ.. ذهبت إلى الطبيب فزَّف لها البُشرى بأنها حاملٌ في ولدٍ، لم تسع الأرضُ الأُمَ من الفرح، سجدت لله شاكرةً، حمدته بلسانها وجوارحها، رفعت يديها إليه؛ ناجته قائلةً: "اللهم لك الحمد والشكر، اللهم اجعله قرة عينٍ لي ولأبيه". بدأ الجنين بالمعافسة في بطن أُمه.. يتحرك هنا وهناك بكل فرحٍ وحُبورٍ لأنه خارجٌ إلى حياةٍ رحبةٍ، ظاناً أن الدنيا مع سعتها أسعدُ من بطن الأُم مع ضيقه! أما أُمه؛ فعَينها امتزجت بدمع الألم والأمل، والفرح والحُزن، والدمع الحار والبارد.. ألم الحمل وأمل الذرية، فرح الأولاد وحُزن الولادة، دمعها الحار خوفاً عليه من مس السوء، ودمعها البارد لأنه خُيل إليها نجاحه فلا تراه إلا رجلاً يُضرَب به المثل، سنداً للظهر، وعصىً يُتوكأ عليها. جاء اليوم المشهود، وفرِح الوالدُ بالمولود، وخرج الطفل يتنسم عبير الدنيا ويأخذ نفساً عميقاً يَروِي عظمَه الطرِيَّ الغَضَّ.

شبَّ قرنُ الطفل، وبدا مسيرُ الطريق مُخالفاً لما عوّلت عليه أُمه، حلمت أن يُصبح رجلاً صالحاً فأمسى طالحاً، يرى نورَ الطريق فيحيد عنه، وظُلمةَ الشِّعب فيأوي إليه. صار الشاب صاحب العضلات المفتولة والنظارة السوداء، يركب رأسَه ويُخالف الناس، ويمشي مع هواه، يسمع نداء الأذان فلا يُلبي، ويرى الناس تؤم بيت الله وهو صادٍ عنه، أعجبته نفسه، وغرَّته الأماني، وظن أن سعادته فيما يفعل.. ضيَّع نفسه ووقته، وبينما هو يمشي في حَمأة اللهو أصابته حُمَّى شديدةٌ فطرحته للفراش صريعاً، ذهب إلى الطبيب فحذّره وأنذره من اتخاذ الخليلات وشُرب المُسكرات، وليته سمع فوعى؛ فمع كرِّ الليالي وفرِّها، وإقبال الأيام وإدبارها، حان موعد الرحيل، اعترى الشاب ضعفٌ في جسده، تنمّلت أطرافه، خارت قواه، نادى: "أُمّاه أُمّاه".. لبّت النداءَ أُمه تهرول وتقول: "ولدي حبيبي؛ هل أصابك من ضرر؟" ضمته إلى صدرها، نضحت وجهَه بالماء، إلا أن ابنها كان يُصارع شيئاً لا يُشبه المرض، كان بصره شاخصاً إلى السماء؛ كأنه يرتقب ضيفاً مُفزعاً، وبعد شدة هَوْلٍ جاءه الضيف، جاءه ما كان يفر منه، جاءه الموت؛ نزع منه الروح نزعاً شديداً غليظاً كأنه اقتلع جسده كله، وهو يُصارخ ويضطرب، ولا منجى من الموت، قد حان ما كان يحذره. أراد الكلام لكن لم يستطع، كان يُريد القول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾. ذهب مَلَك الموت وترك جسد الشاب المُسجى جثةً هامدةً ساكنةً لا حِراك فيها. كان الشاب تاركاً للصلاة، مُجانباً للطاعات، بعيداً عن أعمال الخير؛ فتحرج أهله من الصلاة عليه، ولم يجدوا بُداً من أن يُلقوه في المقبرة رمياً، كأنه متاعٌ قد استُغني عنه، حملوه على أكتافهم، وهو يسمع قرع نعالهم.

يقول راوي القصة: كأني بهذا الشاب يُنادي فيقول: "أين تذهبون؟ أنا ابنكم وقريبكم، دعوني أُصلي لله ركعاتٍ لعله يغفر لي خطيئتي؛ لقد ضربتُ فلاناً، وشتمتُ فلاناً، وأخطأتُ في حق فلانٍ، أُريد المغفرة منهم"، لكن لا يسمع نداءَه إلا ربُه. اقترب من الحُفرة التي ستكون له مأوىً ومصيراً، رأى سورَ المقبرة كأنه قيدٌ في العُنق يقطع الوريد ويشد الوثاق! رأى المقابر كأنها غابةٌ موحشةٌ لا يأنس بها أحد، كل شيءٍ فيها ذابلٌ حتى النبات، والشجر. كل شيءٍ تبدَّل؛ فقد كان له اسمٌ، أما الآن فهُم يقولون أين "الميت؟"، ويقولون: "ضَعُوا الجنازة". يا الله! ما أكثر ما خُدِع ببريق الدنيا، ثم لم تُمهله حتى رُمِي في حومة الردى.. أنزلوا رأسه أولاً إلى هذه الحفرة الضيقة. يقول الراوي: كأني به يرى ظلاماً عميقاً وقَعراً مُخيفاً فأراد أن يُمسك بيد من يدفنه ليقول: "ناشدتك الله إلا تركتني.. دعني وشأني"، لكن الموت لا يُفيد معه توسلٌ ولا رجاء! استقر الشاب في ظُلمة القبر وأُهيل التراب عليه، ثم وضعوا لبِنةً عليه، ثم أهالوا التراب مرةً أخرى، وما إن فرغوا من توسيده التراب حتى ضربوا أيديهم كفاً على كفٍ يُنفضون الغبار، ثم تفرقوا إلا هو بقي وحيداً، لا يملك من أمر نفسه شيئاً؛ فوقه ترابٌ، وتحته ترابٌ، وعن يمينه ترابٌ، وعن شِماله ترابٌ، فراشه ولِحافه التراب. أين فراشه الناعم؟ أين الديباج والحرير؟ أين الهناء ورغد العيش؟ أين الطعام والشراب؟ أين فلانٌ وفلانةٌ في كل ليلةٍ كان له معهم صولاتٌ وجولاتٌ، يقطعون الوقت بالحديث الماتع، والغناء الماجن، والكلام المؤنس، أين هُم الآن؟ لماذا تخَّلوا عنه وتركوه وحيداً في وقت احتياجه لهم؟!

يقول الراوي: حينذاك يتحقق ما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [تُعادُ روحُهُ في جسدِهِ، ويأتيهِ ملَكانِ فيُجلسانِهِ فيقولانِ له: مَن ربُّك؟ فيقولُ: هاه هاه لا أدري. قال: فيقولان له: ما دِينُك؟ فيقولُ: هاه هاه لا أدري. قال: فيقولان له: ما هذا الرَّجلُ الَّذي بُعِث فيكم؟ فيقولُ: هاه هاه لا أدري، فيُنادي مُنادٍ مِن السَّماءِ: أن كَذِب فأفرِشوه من النَّارِ، وافتَحوا له بابًا إلى النَّارِ، فيأتيه من حَرِّها وسَمومِها، ويُضيَّقُ عليه قبرُه حتَّى تختلِفَ فيه أضلاعُه، ويأتيه رجلٌ قبيحُ الوجهِ، قبيحُ الثِّيابِ مُنتِنُ الرِّيحِ فيقولُ: أبشِرْ بالَّذي يسوءُك، هذا يومُك الَّذي كنتَ تُوعدُ؛ فيقولُ: من أنتَ فوجهُك الوجهُ القبيحُ يجيءُ بالشَّرِّ؟ فيقولُ: أنا عملُك الخبيثُ، فيقولُ: ربِّ لا تُقِمِ السَّاعةَ].

 

أحبتي في الله.. إنه والعياذ بالله التعلق بالدنيا، والانشغال بها، وعدم الاهتمام بالآخرة التي إليها معادنا. هو (شر الغفلة) الذي لو استمر مع الإنسان حتى الموت، حينئذٍ يكون الخُسران المُبين، في وقتٍ لا ينفع معه ندمٌ، ولا تُفيد فيه حسرةٌ؛ يقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، ويقول المُفسرون لهاتين الآيتين: يُخبر الله سُبحانه وتعالى عن حال من حضره الموت من المُفرِّطين، أنه يندم في تلك الحال؛ إذ يرى مآله، ويُشاهد قُبح أعماله، فيطلب الرجعة إلى الدنيا، لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها، وإنما ليعمل عملاً صالحاً؛ يقول: ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ فيكون الرد حاسماً: ﴿كَلَّا﴾ أي: لا رجعة له ولا إمهال، قد قضى الله أنهم إليها -أي: إلى الدنيا- لا يرجعون، و﴿إِنَّهَا﴾ أي: مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا ﴿كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾ أي: مُجرد قولٍ باللسان، لا يُفيد صاحبه إلا الحسرة والندم، وهو أيضاً غير صادقٍ في ذلك، فإنه لو رُدَّ إلى الدنيا لعاد لما نُهي عنه؛ يقول تعالى: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أي: مِن أمامهم وبين أيديهم حاجزٌ بين الدنيا والآخرة، وفي هذا البرزخ، يتنعم المُطيعون، أما العاصون الغافلون فيُعذَبون من موتهم إلى يوم يُبعثون وهذا هو (شر الغفلة).

وفي معنى هذه الآية وردت آياتٌ كثيرةٌ، منها قوله تبارك وتعالى: ﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾.

 

ومَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرٍ دُفن حديثاً، فقال: [رَكْعتانِ خَفيفتانِ بِما تَحقِرُونَ وتَنفِلُونَ يَزيدُهما هذا في عملِهِ أحَبُّ إليه من بقيَّةِ دُنياكُمْ]. يقول شُرَّاح الأحاديث: عندما يموت الإنسان يُدرك قيمة الأشياء على حقيقتها، فيُدرك أن الأعمال الصالحة التي تزيد ثوابه خيرٌ له من متاع الدنيا كله. وفي هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ركعتان خفيفتان"، يعني: قليلتان في القراءة والأذكار، "مما تحقرون"، أي: تستقلون أجرهما، "وتنفلون"، أي: تُصلونهما تطوعاً لله، "يزيدهما هذا في عمله" وكأنه يُشير إلى قبرٍ قد دُفن حديثاً، والمُراد به: الميت الذي في القبر، "أحب إليه"، وهذا يحتمل أن يكون المعنى: أن أجر الركعتين أحب إلى الميت من الدنيا، ويحتمل أن الضمير لله تعالى، وأنه يُحب ما يأتيه العبد من الطاعات، وأنه أفضل لديه من إنفاق الدنيا، "من بقية دنياكم"، يعني: مما بقي في عمرها؛ وذلك لأن قيمة الركعتين في الآخرة، خيرٌ من التمتع بمُتع الدنيا كلها، وأحب إلى الله من المعاصي. وفي الحديث بيان قيمة الطاعات وإن قَلَّت في الدنيا، وعِظَم أجرها في الآخرة.

 

أحبتي.. هلّا أفاق من غيبوبته من كان منا غافلاً عن حقيقة أن الحياة الدنيا مزرعةٌ للآخرة؟ وأنه إذا حرص على أن تكون الجنة هي ثمرة عمله في الدنيا؛ فعليه أن يهتم بزراعة دنياه بالإيمان الصادق، والعمل الصالح؟ ولا يكون ذلك إلا بالتمسك بكتاب الله وسُنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، فَهْماً وتدبراً وعملاً، هذا هو طريق الجنة؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [ألا إن سلعةَ اللهِ غاليةٌ؛ ألا إن سلعةَ اللهِ الجنةُ]، والله الذي لا إله إلا هو إن رسولنا لصادقٌ، وإن الدين لواقعٌ، وإن الرجوع إلى الله ليقينٌ، وإن الحساب لقائمٌ، وإن المآل إما إلى جنةٍ أو إلى نارٍ؛ ولنا الخيار؛ يقول تعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾؛ فليكن خيارنا كلنا جميعاً الجنة؛ فنُقدِّم لها كل [ما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ ] ولنجتهد ولا تفتر عزائمنا؛ فالجنة والخلود فيها هدفنا ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.

اللهم قِنا (شر الغفلة)، وحَبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، وخُذ بيدنا إلى سواء السبيل، سبيل الحق واليقين، وإذا ضَعُفْنا فَرُدَّنا إليك رداً جميلاً، واغفر لنا وارحمنا وأنتَ خير الراحمين.

https://bit.ly/3X3VVOO

الجمعة، 7 فبراير 2025

لا تفريط ولا إفراط

 

خاطرة الجمعة /485

الجمعة 7 فبراير 2025م

(لا تفريط ولا إفراط)

     

حدث إعصارٌ في «ليبيا» قبل نحو سنتين، كان كارثةً وصفتها إحدى الصحف بأنها حوّلت «درنة» من مدينةٍ تغسل قدميها في «البحر الأبيض المتوسط»، إلى عالَمٍ من الجثث والرُكام والثكل العابر للشوارع والبيوت، وصار يوم حدوث ذلك الإعصار يؤرخ للموج الغاضب، ولقنبلة الماء التي حوّلت المدينة الشاطئية إلى بحرٍ من الآلام غرقت فيه الشوارع والمنازل؛ إذ أن عماراتٍ كاملةً ألقى بها الفيضان في مياه البحر، وطغى ماء السدود والفيضانات على البنايات العالية، والتقى مع مياه الأمطار وأمواج البحر على أمرٍ قد قُدِر، ولم يكن من جاريةٍ ولا ذات ألواحٍ ودُسر لإنقاذ الغارقين. كانت أصوات الفيضانات مُخيفةً جداً، يشقها صوت الصُراخ، وخصوصاً أصوات النساء اللواتي تقاذفهن الموج مع أطفالهن وأُسرهن كما يطفو الزبد فوق الموج الهادر. جَرَف الماء كل ما في طريقه، وارتقى إلى المنازل الشاهقة، بعد أن ارتفعت أمواج البحر إلى أكثر من ثلاثين متراً، وقضت على أحياء وعائلاتٍ، قبل أن تعود القهقرى، تاركةً علامات الموت في طُرقات «درنة» الدامية، فضلاً عن مئات السيارات التي تحولت إلى قبورٍ مُغلقةٍ على أصحابها، بسبب محاولات أعدادٍ هائلةٍ من الأُسر الفرار في سياراتهم خلال اللحظات الأولى للكارثة، مما أربك حركة المرور، وقلَّل فرص النجاة، حيث شاءت الأقدار أن تجرفهم السيول جميعهم وهُم في سياراتهم نحو حوض الميناء البحري، وإلى أعماق المياه. حوالي ٨% من سكان المدينة باتوا في عِداد الموتى والمفقودين، أما النازحون من المنازل المهدمة فقد فاقوا أربعين ألف شخصٍ، يُعبِّر كل واحدٍ منهم عن قصةٍ من الرُعب والحُزن واليُتم والثكل؛ فَيَدُ الموج الغاضب ضربت بعنفٍ كل بيتٍ بالمدينة، ومزقت جدار كل صبرٍ منيع.

وهذه قصَّةٌ روتها واحدةٌ من الفتيات الناجيات من الإعصار، أنقلها باختصارٍ، كتبت تقول:

في ذلك اليوم استيقظتُ فجراً كما أُحب دائماً، صليتُ وقرأتُ أذكاري ووِردي، إلى أن حان موعد صلاة الضُحى فقمتُ وصليتُ. ومضى يومنا جميلاً هادئاً حتى وقت الغروب؛ حين لاحظتُ -بعد أن صليتُ- أن السماء بدأت تُمطر بغزارةٍ، وهذا أمرٌ غير مُعتادٍ في هذا الوقت من السنة. انتابني شعورٌ بأن ثمة شيءٍ غريبٍ سيحدث! صليتُ العشاء وقلتُ في نفسي أنام ثم استيقظ الرابعة فجراً لقيام الليل. قرأتُ أذكاري ونمتُ ساعتين، وصوت المطر يعلو، والرياح أصبحت شديدةً جداً لدرجةٍ لا توصف! الرعد والبرق في تزايد؛ استيقظتُ بقلبٍ يرتجف، قلتُ: "يا ويح نفسي؛ أأنام وآيات الله أراها عياناً حولي؟!". توضأتُ وقضيتُ ساعةً بين صلاةٍ واستغفارٍ وتلاوةٍ للقرآن. أصوات الرياح تزداد؛ تحولت من رياحٍ عادِيّةٍ إلى رياحٍ عاتيةٍ شديدة الهبوب، ثم بدأ الماء يدخل إلى المنزل بالتدريج. خرج أخي ليطمئن على سيارته أنها لم تغرق؛ فهي أغلى ما يملك! أُمي تطمئن على أن السِجاد لم يتبلل! أُختي رأت أن تذهب لتنام في الطابق السُفلي بعيداً عن ضجيج العائلة وصوت المطر! أما أنا فبقيتُ جالسةً على سجادة الصلاة أبكي وأتضرع: "إن كان بلاءً فيا ربِ خفِّف، وإن كان مُجرد مطرٍ فيا ربِ أنزل السكينة والطُمأنينة على قلبي"؛ فقد كنتُ أُعاني حينها من ضربات قلبٍ شديدةٍ زادت تخوفي! خرجتُ من غُرفتي فرأيتُ أخي يُريد النزول ليطمئن على سيارته وعندما فتح باب المنزل كانت الصدمة؛ الماء يتدفق بغزارةٍ داخل المنزل، وأُختي نائمةٌ في الطابق السُفلي؛ فنزل أخي مُسرعاً ليوقظها، وصرخات أُمي تُنادي عليها! سمِعت أُختي صراخنا فأرادت الخروج من باب الشقة السفلية وإذا بباب المنزل ينقلع من مكانه ويأتينا سيلٌ من الماء، من رحمة ربي أن انقلاع الباب لم يأتِ بصورةٍ مُستقيمةٍ وإلا ماتت أُختي حينها، أرسل أخي يده فتشبثت أُختي بها بسرعةٍ، وفي لمح البصر وصل الماء إلى الطابق الثاني! ذهبنا مُسرعين إلى الطابق الثالث، ثم خرجنا إلى سطح المنزل! الماء يعلو، والأمطار تتزايد. صعِدنا لأعلى قُبةٍ في المنزل بجوار خزان الماء. السماء فوقنا مُباشرةً، وسيول الماء تعلو تحتنا، ويعلو صراخنا: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، الرجال كالنساء؛ الكل يبكي وبشدةٍ، فالموت أمامنا لا محالة! حينها كنتُ أتذكر أعمالي، وبماذا سألاقي ربي؟ ماذا أعددتُ لهذه اللحظة؟ هل ربي راضٍ عنّي؟ ماذا عن حجابي؟ هل كان كما يُحبّ الله؟ لم أمنح في حياتي للقرآن وقت اًكثيراً؛ هل سأموت شهيدةً ويتقبلني ربي من الشُهداء؟ وقفزت إلى ذهني الآيات التي تحكي قصة طوفان نوح عليه السلام. ومَن كان منزله مِن طابقٍ واحدٍ انجرف تحت السيل العارم وكان من المُغرقين! رأيتُ الأهوال كأنها أهوال يوم القيامة، وفي تلك الساعة أصبح الجميع يلهج بالشهادتين: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله". الجميع يستغفر ويتوب من شدة ما رأى. لم اهتم بأبي ولا أُمي ولا أخوتي، فنفسي وحدها كانت شُغلي الشاغل! وتذكرتُ: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ . لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ وصدق الله العظيم؛ فقد كان لي شأنٌ يُغنيني، فإما جنةٌ أو نارٌ! ثلاث ساعاتٍ قضيناها تحت هذا الرُعب، يعجز اللسان عن وصف ما فيها من خوفٍ ورجاء، وكلنا بين ساجدٍ ومُتضرعٍ يناجي ربه، وأصبحت أصواتنا تعلو نُنادي: ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾، فما رفعتُ رأسي من السجود إلا وسمعتُ جارنا الذي يعلونا بطابقٍ يقول: "منسوب المياه قلّ"؛ فحمدنا الله وشكرناه، وسألناه أن يُسخِّر لنا من يأتي لإنقاذنا. كبَّر المؤذن لصلاة الفجر، صلينا الفجر على سطح المنزل تحت المطر الخفيف. بكيتُ كثيراً لأنها كانت أول مرةٍ أصعد فيها إلى سطح المنزل المكشوف دون خِمار! دعوتُ ربي بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى أن يسترني دُنيا وآخرة، وأن يرفع عنا البلاء، وأن يغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا، وأن يشملنا بعفوه ورضاه؛ وأن يُحسن خاتمتنا، ويتقبل منا أعمالنا الصالحة، ويغفر لنا زلاتنا. ناجيتُه بكل عملٍ صالحٍ قدمتُه، وتذكرتُ ذنوبي فاستحييتُ منها ومسني الخجل، فسألته المغفرة وأن يُعاملنا بما هو أهلٌ له، ولا يُعاملنا بما نحن أهلٌ له. كان لديّ يقينٌ تامٌ أن الله سُبحانه وتعالى مُنجينا، وأنّ خلف هذا البلاء حكمةً ربانيةً عظيمةً! لكني كنتُ خائفةً من نفسي التي بين جنبيّ أكثر من أي شيءٍ آخر؛ خفتُ أن أكون ممن يذكر الله خالصاً وقت الشدة وينساه وقت الرخاء؛ فيا ويحَ نفسي إن هي عادت للتقصير في حق الله! أتممنا صلاة الفجر وانتظرنا الشروق.. توقف المطر، ومنسوب المياه قلَّ، وتوقفت الرياح، وأنا أُردد: "اللهم برداً وسلاماً، اللهم شمساً مُشرقةً". وفعلاً أشرقت الأرض بنور ربها؛ وسُجّل ذلك اليوم على أنه يومٌ لا يُنسى، ولم يُرَ مثيلاً له من قرونٍ عدة! نزلنا من القبة العالية بجوار خزان المياه إلى سطح المنزل فنظرتُ إلى شارعنا ورأيتُ الدمار؛ وكأن آية ربّي في قوم عادٍ تحققت فينا: ﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾، فلم أرَ حينها سوى بعض المساكن، ولم يسلم بيتٌ واحدٌ من الغرق والخراب. ذهبت سيارة أخي الفاخرة فوق الشجرة، وسيارات الجيران كل واحدةٍ في مكان، والأرض مليئةٌ بجثث الموتى، حتى أن الطابق الأول من منزلنا وجدنا فيه جثتين لفتاتين شابتين! كل البيوت تهدمت، كل المُمتلكات ضاعت! والسعيد الوحيد هو ذاك الذي رأى نفسه وأهله جنبه ولم يغرق أحدٌ منهم! ذهب التعلق بالدنيا وذهب حُبها من قلبي! المدينة تهدمت، الأحياء القريبة من الوادي الذي انفجر تهدمت بالكامل واستوت مع الأرض! كل شيءٍ تحول لونه بنياً كلون الطين! خرجنا هاربين من منازلنا خوفاً من انهيارها فوق رؤوسنا، لم اهتم بملابسي ومُقتنياتي ولا بجوالي الذي كان يُرافقني أينما كنت! المهم عندي كان نقابي ولباسي الشرعي؛ أُريد الستر لا أكثر. سِرنا حُفاةً نُصارع الأرض المُبللة والطين.. مررنا بجانب بيت جارنا الذي مات كل أفراد أُسرته بالكامل. دموعٌ تُذرف وقلوبٌ ترتجف، والحال لا يوصف! ودَّعنا كل شيءٍ، ودَّعنا الأحياء والأموات، ودَّعنا الذكريات؛ ودَّعتُ غُرفتي ونافذتها التي تُطل على ما كانت نباتاتٍ خضراء! ودَّعتُ كُتبي وأقلامي وذكريات الطفولة، ودَّعتُ سَكَني ومسكني وملاذي الآمن، ودَّعتُ سجّادة صلاتي ومُصحفي! لم يتبقَ لي شيءٌ، إلا العمل الصالح وأهلي!

 

الآن انتهت الحكاية، وأُسْدِل الستار على المدينة والحيّ الذي كنتُ أسكن فيه! ورحم الله تعالى الأموات، وربط على قلوب ذويهم، والحمد لله رب العالمين، اللهم أجرنا في مصيبتنا هذه، واخلف لنا خيراً منها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

أحبتي في الله.. القصة مليئةٌ بالدروس والعِبر، لكن أكثر ما لفت انتباهي قول الراوية: "ذهب التعلق بالدنيا وذهب حُبها من قلبي"، وأثار هذا القول فكرة الاعتدال، والوسطية، والموازنة بين الدنيا والآخرة، وتذكرتُ العبارة المشهورة (لا تفريط ولا إفراط)، كما تذكرت قول الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، وقوله سُبحانه: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. تذكرتُ أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ، جَمَعَ اللهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ. وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يُؤْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ]. وهذه جميعها نصوصٌ توضح وبجلاء أن ديننا الحنيف لا يدعو المؤمن إلى ترك الدنيا بالكُلية وراء ظهره ويتفرغ لأعمال الآخرة، كما أنه لا يُجيز أبداً إهمال ما يُفيد المُسلم في آخرته الأبدية واهتمامه فقط بأمور دنياه الزائلة، بل ومع فكرة الموازنة بين الدنيا والآخرة، ومقولة (لا تفريط ولا إفراط) فإن المُفلحين والفائزين هُم مَن يُقدِّمون حرث الآخرة على حرث الدنيا؛ يقول تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾، ويقول سُبحانه: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى﴾. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا]. ونهياً عن التعلق بحُب الدنيا ونسيان الآخرة؛ يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.

 

يرى أهل العلم أن على المسلم أن يأخذ بالأسباب ويبذل الوِسعَ في تحصيل الرزق الحلال، ويُعمِّر الأرض بما يُرضي الله جلَّ وعلا، يستمتع بدنياه استمتاعاً لا يضر بدينه ولا بآخرته بغير تفريطٍ ولا إفراط؛ ومَنْ جعَل همَّه الأكبر الآخرة والعمل لها كفاه اللهُ هَمَّ دنياه، ومن استولت عليه الدنيا واستولت على قلبه وجعلها همَّه عاش عبداً أسيراً لها مُشتتَ البالِ، لا يقنع بقليلٍ ولا يسعد بكثير؛ فالإسلام يمزُج في تعاليمه بين دعوته إلى تحقيق مصالح الدين وتحقيق مصالح الدنيا، ويجعل هاتين المصلحتين مُتلازمتين لزوم الروح للجسد، غير أنه وضع ضوابط لطلب الدنيا، تتلخص هذه الضوابط في طلبها لغاياتٍ ساميةٍ نبيلةٍ، منها: أن يصون الإنسان نفسه عن الحاجة، وينأى بنفسه عن المسألة، ويوفر لعياله ما يحتاجون إليه، ويتوفر عنده ما يُمكِّنه مِن مَدِّ يد العون والمُساعدة إلى مَن كان في حاجةٍ إلى معونته ومُساعدته، وأن يكون طلبها من طريقٍ حلالٍ مشروعٍ، وألا يكون للتفاخر والتكاثر فحسب، فإن توافرت تلك الضوابط كان طلب الدنيا حينئذٍ عبادةً يُثاب عليها المرء أحسن مثوبةً عند الله عزَّ وجلَّ.

 

أحبتي.. المُتبصِّر في حال البعض اليوم يجد منهم تفريطاً في أعمال الآخرة، وإفراطاً شديداً في حب الدنيا والانشغال بها، هواهُم في نَيْلِها، وغايةُ مُناهم في السعي لها، فلا هَمَّ عندهم إلا هذه الدنيا، لكن العاقل هو مَن كان شعاره (لا تفريط ولا إفراط)؛ فيتخذ مِن حياته مزرعةً لآخرته، لا يُغلِّب عليها دنيا، ولا يُقدِّم عليها شهوةً ولا هوى؛ مُتدبراً قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾، مُنتبهاً إلى ما ينفعه في آخرته وإلى قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، وقول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: [كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ]؛ فلا يكون مُفرِّطاً تُلهه دنياه عن آخرته، ولا يكون مُهملاً شئون دنياه إهمالاً تاماً فيكون قد خالف شريعة ربه وسُنة نبيه. إن ديننا دين الوسطية والاعتدال، ونهجنا هو (لا تفريط ولا إفراط).

 

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

https://bit.ly/4hJsvxd