الجمعة، 28 فبراير 2025

لا تُضيِّع صيامك

 

خاطرة الجمعة /488

الجمعة 28 فبراير 2025م

(لا تُضيِّع صيامك)

       

هذا مقالٌ نشره الراحل الدكتور/ مصطفى محمود، يتحدث فيه عن واقعةٍ حدثت قبل حوالي ستين عاماً، عندما كان طفلاً صغيراً. المقال بعنوان: «لماذا لا يحترم الإعلام العربي رمضان؟»، جاء فيه:

لماذا يتحول رمضان إلى شهرٍ ترفيهيٍ بدلاً من شهرٍ روحانيٍ؟ لستُ شيخاً ولا داعيةً، ولكني أفهم الآن لماذا كانت والدتي تُدير التلفاز ليواجه الحائط طوال شهر رمضان.. كنتُ طفلاً صغيراً ناقماً على أُمي التي منعتني وإخوتي من مُشاهدة فوازير رمضان بينما يُتابعها كل أصدقائي.. ولم يشفِ غليلي إجابة والدتي المقتضبة: "رمضان شهرٌ للعبادة، ليس للفوازير!"، لم أكن أفهم منطق أُمي الذي كنتُ كطفلٍ أعتبره تشدداً في الدين لا فائدة منه.. فكيف ستؤثر مُشاهدة طفلٍ صغيرٍ للفوازير على شهر رمضان؟

مرت السنوات وأخذتني دوامة الحياة وغطى ضجيج معارك الدراسة والعمل على همسة سؤالي الطُفولي، حتى أراد الله أن تأتيني الإجابة عن هذا السؤال من رجلٍ مُسنٍ غير مُتعلمٍ في الرُكن الآخر من الكُرة الأرضية، كان ذلك الرجل هو عاملٌ أمريكيٌ في محطة بنزينٍ اعتدت دخولها لشراء قهوةٍ أثناء ملء السيارة بالوقود في طريق عملي، وفي اليوم الذي يسبق يوم الكريسماس دخلتُ لشراء القهوة كعادتي، فإذا بي أجد ذلك الرجل مُنهمكاً في وضع أقفالٍ على ثلاجة الخمور، وعندما عاد لمُحاسبتي على القهوة، سألته وكنتُ حديث عهدٍ بقوانين أمريكا: "لماذا تضع أقفالاً على هذه الثلاجة؟!"، فأجابني: "هذه ثلاجة الخمور، وقوانين الولاية تمنع بيع الخمور في ليلة ويوم الكريسماس، يوم ميلاد المسيح"، نظرتُ إليه مُندهشاً قائلاً: "أليست أمريكا دولةً علمانيةً؟ لماذا تتدخل الدولة في شيءٍ مثل هذا؟"، قال الرجل: "الاحترام؛ يجب على الجميع احترام ميلاد المسيح وعدم شُرب الخمر في هذا اليوم، حتى وإن لم تكن مُتديناً؛ إذا فقد المُجتمع الاحترام فقدنا كل شيءٍ".

الاحترام.. الاحترام.. ظلت هذه الكلمة تدور في عقلي لأيامٍ وأيامٍ بعد هذه الليلة؛ فالخمر غير محرمٍ عند كثيرٍ من المذاهب المسيحية في أمريكا.. ولكن المسألة ليست مسألة حلالٍ أو حرامٍ.. إنها مسألة احترامٍ.. فهُم ينظرون للكريسماس كضيفٍ يزورهم كل سنةٍ ليُذكرهم بميلاد المسيح عليه السلام، وليس من الاحترام السُكْر في معية ذلك الضيف.. فلتسكر ولتعربد في يومٍ آخر إذا كان ذلك أسلوب حياتك.. أنتحرٌ.. ولكن في هذا اليوم سيحترم الجميع هذا الضيف!

 

أحبتي في الله.. أنهى الكاتب مقاله بالقول: أتمنى أن نحترم شهر القرآن، ونعرف ماذا نُشاهد، ومن ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه، قال تعالى: ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾. نحن على قناعةٍ بأن إعلامنا نزع مفردة الاحترام من قاموسه؛ فهل ستتحلى أنتَ بقليلٍ من الاحترام، وتقلب شاشة تلفزيونك؟ أو على أقل تقديرٍ تحذف بعض القنوات وتكتفي بِما يُعزز احترامك لشهر رمضان الفضيل؟

 

 يقول أهل العِلم (لا تُضيِّع صيامك)؛ فإنّ مُشاهدة المُسلسلات التلفزيونية المُشتملة على المُحرمات-كالتبرج والاختلاط ونحو ذلك- في نهار رمضان أو ليله صحيحٌ إنها لا تُبطل الصيام، لكنها تنقص أجره، بل قد تذهب بأجره بالكُلية؛ يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ربَّ صائمٍ ليسَ لَه من صيامِه إلَّا الجوعُ] أَيْلَيْسَ لِصَوْمِهِ قَبُولٌ عِنْد اللَّه فَلَا ثَوَاب لَهُ، ومُشاهدة هذه المُسلسلات دليلٌ على عدم تحقق الغاية التي فُرضمن أجلها الصيام، وهي تقوى الله جلَّ وعلا؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. وليس المقصود من الصيام هو الجوع والعطش ثم يأتي الليل فيسرح الصائم ويمرح كيفما شاء دون رقيبٍ؛ يقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ].

 

ويقول العُلماء إنّ غالب المُسلسلات لا يخلو من مُحرماتٍ؛ كتبرج النساء، والاختلاط المُحرَّم، والموسيقى، وكلمات الغرام والفُحش، ونحو ذلك من تعدٍ على حدود الله، بل وينطوي بعضها أحياناً على أفكارٍ تهدف إلى تغريب المجتمع وسلخه من قيمه وتغيير هويته الإسلامية. والمُسلسلات عربيةٌ كانت، أو غير عربيةٍ، لا تخلو في الغالب من مُتبرجاتٍ كاشفاتٍ حاسراتٍ عن رؤوسهن أو شُعورهن، واضعاتٍ للمكياج والأصباغ، وسائر أنواع الزينة، مما لا يجوز أن تظهر به المرأة أمام الرجال الأجانب عنها، وإنما يختص جواز ذلك بالزوج أو المحارم. وقد يكون الدور التمثيلي يقتضي الاختلاط؛ كمن يُمثل دور أبٍ لفتاةٍ، فإنه يُعاملها وكأنها ابنته، رغم أنها أجنبيةٌ عنه، فرُبما صافحها، أو عانقها. وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة حينما يكون دورها ابنةً أو أُختاً أو أُمّاً أو زوجةً، فيحصل النظر المُحرم من الطرفين، واللمس والتقبيل، وغير ذلك مما لا يجوز.

فلكل ذلك لا تجوز مُشاهدة هذه المُسلسلات، سواءً في رمضان أو غيره، إلا أن قُبح الذنب يزداد عند فعله في الأوقات الفاضلة ومواسم الخير، والتي من أعظمها هذا الشهر المُبارك الذي وصفه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: [إذا كان أولُ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ صُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدةُ الجنِّ، وغُلِّقتْ أبوابُ النارِ فلم يُفتحْ منها بابٌ، وفُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ فلم يُغلقْ منها بابٌ، ويُنادي منادٍ كلَّ ليلةٍ: "يا باغيَ الخيرِ أقبلْ، ويا باغيَ الشرِّ أقْصرْ"، وللهِ عتقاءُ من النارِ، وذلك كلَّ ليلةٍ].

وإذا كان قبيحاً بالعبد أن يغفل عن استثمار هذه الأوقات النفيسة وأن يُضيِّعها فيما لا فائدة فيه وإن كان مُباحاً، فكيف إذا بدَّدها فيما يُغضب الله عزَّ وجلَّ؟! (لا تُضيِّع صيامك)؛ فالصوم ليس مقصوراً على ترك الطعام والشراب والجماع، وإنما حقيقته صوم الجوارح عمّا حرَّم الله، بل ويشمل صوم القلب عن المقاصد السيئة والنوايا الخبيثة وكفه عمّا سوى الله. ومُشاهدة هذه المُسلسلات مُحرمٌ قطعاً، ولا يسع مُسلماً، ولا مُسلمةً يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجلس إلى شاشة التلفاز في وقتٍ تُعرض فيه هذه البرامج، ولا يجوز له السماح بمُشاهدتها لمن تحت يده من أهلٍ وذُرية، بل الواجب على المُسلم غض البصر عما حرَّم الله؛ لقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ . وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ وعليه أن يقي نفسه وذريته أسباب الانحراف، وطُرق الرذيلة والفاحشة؛ وقد قيل: "إذا صُمتَ فليصم سمعك وبصرك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطر كسواء".

وعلى من أدمن على مُشاهدة هذه المُسلسلات أن يمتنع عن ذلك في رمضان وفي غيره، وأن يتوب إلى الله ويستغفره، وهو سُبحانه يقبل توبة العبد مهما أسرف على نفسه؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، بل ويُبدِّل الله عزَّوجلَّ سيئات المُذنب حسناتٍ بشرط التوبة والإيمان والعمل الصالح؛ يقول سبحانه: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾.

لابد أن نعيش في رمضان بروحانياتٍ راقيةٍ تفوح بعبق الإيمان والبُعد عن الإسفاف، نملأ ليالينا بالمُفيد من عبادةٍ وذكرٍ وقراءة قرآن.

 

أحبتي.. ونحن على أعتاب شهر رمضان الفضيل علينا أن نستقبله بكل احترامٍ وتوقيرٍ، ونجعله شهر عباداتٍ وذكرٍ لله سُبحانه وتعالى، لا شهر مُجونٍ وإسفافٍ وابتذالٍ. إنه يأتي مرةً واحدةً في السنة يحمل معه من البركات والخيرات والفيوضات ما لا يوجد في غيره؛ فلتكن نصيحة كلٍ منا لغيره: (لا تُضيِّع صيامك) ولا تُضيّع على نفسك ثواب هذه الأيام الفضيلة، ولنتدبر الدعاء الذي دعا به جبريل عليه السلام، وأمَّن عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين صعِد المنبرَ، فقال: [آمين، آمين، آمين]، فلمَّا نزل سُئل عن ذلك، فقال: [أتاني جبريلُ، فقال: رغِم أنفُ امرئٍ أدرك رمضانَ فلم يُغفرْ له، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين، ...]. إن خير ما نتواصى به في رمضان هو تقوى الله تعالى؛ فهي الثمرة المرجوة من وراء الصوم لا تتحقق إلا بفعل المأمورات، وترك المنهيات، فلنحرص في هذه الأيام المُباركة على الإكثار من كل طاعةٍ تُقربنا إلى الله تعالى، صلاةً وصياماً وقياماً وقراءةً للقرآن، وصدقةً وإنفاقاً ومساعدةً للمُحتاجين. كما أن علينا أن نتجنب كل ما يُغضب الله تعالى من الأقوال والأفعال، لاسيما الغيبة والنميمة، ومُشاهدة ما حرَّم الله من صور النساء والأفلام والمُسلسلات المُشتملة على السُفور والاختلاط؛ فالصوم الحقيقي صوم الجوارح عما حرَّم الله. إن مُتابعة المُسلسلات ذنبٌ، والمجاهرة بمُتابعتها ذنبٌ آخر، أما الترويج لها وحث الناس على مُتابعتها فهو ذنبٌ أكبر. لقد بات الأمر مرهوناً بإرادتنا، والأذكياء فقط هُم من يختارون ما يُفيدهم ولا يضرهم، هُم الذين يستثمرون كل دقيقةٍ في هذا الشهر الفضيل في الطاعة والعبادة، وزيادة رصيدهم من الحسنات.

اللهم تقبل منا صيامنا وصلاتنا وقيامنا وسائر أعمالنا، وثقِّل بها موازيننا، وضاعف لنا أجورنا؛ فأنت سُبحانك أكرم الأكرمين.

 

https://bit.ly/3EWn7sF

ليست هناك تعليقات: