خاطرة الجمعة /489
الجمعة 7 مارس 2025م
(حقوق الجار)
من المواقف العجيبة التي حدثت في شهر رمضان المبارك، ما يرويه هذا الرجل
الذي كان مُعتكفاً بمسجد قريته في العشر الأواخر من الشهر الفضيل، كتب يقول:
بينما كنا نؤدي صلاة التراويح في المسجد، وكنتُ أقف في أقصى يمين الصف
الأول، كان بجانبي طفلٌ صغيرٌ، وبينما نحن ساجدون، سمعتُ الطفل يتحدث إلى الله
-سُبحانه وتعالى- بفطرةٍ طفوليةٍ قائلاً: "يا رب، والدي مريضٌ اليوم؛ ولم
يستطع أن يُصلي التراويح، وقد جئتُ لأُصلي مكانه، فهل لك أن تشفيه؟ أعدك أننا
سنُصلي معاً عندما يشفى". وكان الطفل يُردد بعض الأدعية في كل سجدةٍ،
مُعبِّراً عن حُبه لوالده، وأنه لم يُغضبه قط. لقد أذهلني جمال ما سمعته من هذا
الطفل، وبعد انتهاء الصلاة، أخذته جانباً، وقدمتُ له عُلبة عصيرٍ، ثم سألته:
"أخبرني، ما الذي يُعاني منه والدك؟ لقد سمعتك تتحدث إلى الله عنه".
فأجاب ببراءة الأطفال: "يا عمي، والدي يأتي دائماً ليُصلي في مكانك هذا، ولا
يتخلف عن أي فرضٍ، ولكنه اليوم مريضٌ ولا يستطيع المجيء. فقلتُ له: يا أبي، سأذهب
وأقف في مكانك، حتى إذا نظر الله إليّ، يجدني واقفاً محلك"!
أصابتني الدهشة، وأدركتُ أن هذا الطفل هو ثمرة تربية رجلٍ صالحٍ؛ فاستأذنتُ
من الشيخ أن أخرج من الاعتكاف لفترةٍ قصيرةٍ لأرى مَن هو هذا الرجل الصالح الذي
ربى ابنه بهذه الطريقة، ولأعوده في مرضه. ذهبتُ مع الطفل إلى منزله، وفوجئتُ بأنني
أعرف والده جيداً؛ إنه رجلٌ كبيرٌ في السن، يُصلي دائماً معنا، عفيف النفس، لا
نسمع له صوتاً، ولم أره قط إلا والمُصحف في يده. سلَّمتُ عليه، وصدمني ما رأيت من
حالة منزله المُتدهورة؛ فقد كان المنزل في حالةٍ سيئةٍ للغاية، والغريب أننا نعرف
(حقوق الجار)، وكُنا نتفقد أحوال الجيران، ونحصر الحالات الفقيرة في قريتنا، ولم
نكن نعلم أن هذا الرجل الطيب هو أكثر مَن يستحق المُساعدة، وتذكرت قول الله تعالى:
﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾، ومن فضل الله، أنه
فينفس الليلة، وبعد صلاة العشاء، أعطاني أحدهم ظرفاً فيه مبلغ 1300 جنيه، زكاة
مالٍ، وطلب مني أن أُعطيها لمن يستحق؛ فأعطيتُ الظرف للطفل وقلتُ له ألا يفتحه،
وأن يُسلِّمه لوالده بعد أن أُغادر.
الأعجب من ذلك؛ أنني كُنتُ قد كتبتُ منذ فترةٍ منشوراً عن فتاةٍ حدثت
والدتها زوجتي عنها، بأنها قوّامةٌ صوّامةٌ، تكاد لا تُفارق كتاب الله لحظةً، حتى
أنها تنام والمُصحف في حُضنها، وأن شاباً صالحاً تقدَّم لخطبتها، ولكن ظروف والدها
المادية تؤخر زواجهما. المفاجأة أنني علمتُ أن هذه الفتاة هي ابنة ذلك الرجل
الطيب! فعدتُ مُسرعاً إلى المسجد، وأخبرتُ شيخي، فلم يُصدِّق أننا كنا غافلين عن
رجلٍ بهذا الصلاح والتقوى. اتصل الشيخ بصاحب شركة أجهزةٍ كهربائيةٍ يعرفه، وطلب
منه تجهيز جهاز عروسٍ كاملٍ، وعُدنا إلى منزل الرجل الطيب، أنا والشيخ، وعندما
أخبرتُ والدة الفتاة عن جهاز العروس، بكت من الفرحة، ولا أستطيع أن أصف لكم كيف
احتضنت ابنتها، لكن والدها كان عزيز النفس، ورفض المُساعدة؛ فرأيتُ في وجه شيخي
نظرة انكسارٍ، وكان يتذلل للرجل ليقبل جهاز العروس، وألاّ يحرمه من هذا الأجر،
نظرةً جعلت الرجل يشعر بأن الشيخ هو الذي يحتاج إلى أجر الصدقة، وليس هو؛ فوافق
الرجل بفضل الله بعد إلحاحٍ، فقال له الشيخ: "اذهب لإحضار جهاز العروس،
وستجده مدفوع الثمن بفضل الله".
كل هذا -بفضل الله- لم يستغرق أكثر من ساعتين! فسألتُ الرجل الطيب:
"ما الذي بينك وبين الله حتى يُسخِّر لك عباده هكذا؟" فأجاب: "إذا
انقطعت حبال الناس، فحبل الله موصول"، وكان يُردد طوال الوقت قول الله تعالى:
﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي
الْمُؤْمِنِينَ﴾. وعندما عُدنا إلى المسجد، قال الشيخ بابتسامةٍ جملةً لن أنساها:
"لا يترك الله عبداً صابراً حتى يرزقه التعجب من جبره، والفرح بما كان من
تأخير رزقه، وأن عطاء الله إذا حلّ يُنسيك ما فقدت".
أحبتي في الله.. هذه القصة فيها العديد من المواعظ والعِبَر، اخترتُ منها
واحدةً فقط، ألا وهي (حقوق الجار). يقول أهل العلم إن المعنى الاصطلاحي لمفهوم
الجار هو المُلاصقة في السكن، ونحوه كالبُستان والمزرعة والسوق ومكان العمل ومقعد
الدراسة.
ومن جُملة الوصايا التي أوصى الله تعالى بها عباده المؤمنين الإحسان للجار؛
يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ﴾.
و﴿الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ هو جارٌ وقريبٌ في آنٍ واحدٍ، أما ﴿الْجَارِ
الْجُنُبِ﴾، فهو جارٌ لا تربطه بجاره صِلة قرابة.
وعن (حقوق الجار) يقول أهل العلم إنّ للجار في سُنة النبي صلى الله عليه
وسلم حرمةً مصونةً وحُقوقاً وآداباً كثيرةً، لم تعرفها قوانين وشرائع البشر؛ لقد
أوصانا النبي بما فيه خيرنا وصلاح أمرنا في دِيننا ودُنيانا وآخرتنا؛ يقول صلى
الله عليه وسلم: [والذي نفْسِي بِيدِهِ، لا يُؤمِنُ عبدٌ حتى يُحِبَّ لِجارِهِ ما
يُحِبُّ لِنفسِهِ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [خيرُ الجيرانِ عندَ اللهِ خيرُكم
لجارِه]. وقد استمرت الوصية بالجار من جبريل عليه السلام لنبينا صلى الله عليه
وسلم حتى ظن أنه سيورثه، وما ذاك إلا لِعِظَم حق الجار؛ يقول عليه الصلاة والسلام:
[ما زال جبريلُ يوصيني بالجارِ حتَّى ظننتُ أنه سيورِّثُه]. وورد أن رسول اللهِ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: [الجيرانُ ثلاثةٌ: فمِنهم مَن له ثلاثةُ حُقوقٍ،
ومنهم مَن له حَقَّانِ، ومنهم مَن له حَقٌّ، فأمَّا الذي له ثلاثةُ حُقوقٍ:
فالجارُ المُسلِمُ القَريبُ، له حَقُّ الجِوارِ، وحَقُّ الإسلامِ، وحَقُّ
القَرابةِ، وأمَّا الذي له حَقَّانِ: فالجارُ المُسلِمُ، له حَقُّ الجِوارِ،
وحَقُّ الإسلامِ، وأمَّا الذي له حَقٌّ واحِدٌ فالجارُ الكافِرُ، له حَقُّ
الجِوارِ].
ومن (حقوق الجار): تَفقُّده وإطعامه إن جاع؛ يقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: [ما آمن بي من بات شبعانَ وجارُه جائعٌ إلى جنبِه وهو يعلم به]، وفي روايةٍ:
[ليس بمؤمنٍ من بات شبعان وجارُه إلى جنبِه جائعٌ وهو يعلمُ]، وقال لأبي ذرٍ رضي
الله عنه: [يا أبا ذَرٍّ إذا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فأكْثِرْ ماءَها، وتَعاهَدْ
جِيرانَكَ]. ومن (حقوق الجار) الإحسان إليه؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [أحسِن إلى
جارِكَ تَكُن مؤمنًا]، ويقول: [مَن كان يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيُحسِنْ إلى
جارِه]. وكذلك إكرام الجار؛ يقول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [مَن كان يُؤمِنُ
باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيُكرِمْ جارَهُ]. وأيضاً المُحافظة على عِرضه وعدم
خيانته؛ فعندما سُئلَ رسولُ اللهِ عليه الصلاة والسلام أيُّ الذنبِ عندَ اللهِ
أكبرُ؟ كان مما قاله: [أنْ تُزَانِيَ بحَلِيلَةِ جَارِكَ]، ويقول صلى الله عليه
وسلم لأصحابه: [لأن يزنيَ الرَّجلُ بعشرِ نسوةٍ أيسرُ عليه من أن يزنيَ بامرأةِ
جارِه]، ويقول: [لأن يسرقَ الرَّجلُ من عشرةِ أبياتٍ أيسرُ عليه من أن يسرِقَ من
جارِه]. كما أن من (حقوق الجار) كف الأذى عنه؛ يقول صلى الله عليه الصلاة والسلام:
[لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوائِقَهُ]، وقيلَ للنَّبيِّ
صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: يا رَسولَ اللهِ! إنَّ فلانةَ تقومُ اللَّيلَ وتَصومُ
النَّهارَ وتفعلُ، وتصدَّقُ، وتُؤذي جيرانَها بلِسانِها؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى
الله عليهِ وسلم: [لا خَيرَ فيها، هيَ من أهلِ النَّارِ].
ومن (حقوق الجار) ما ورد في الأثر: "إذا استَعانَكَ أعَنتَه، وإذا
استَقرَضَكَ أقرَضتَه، وإذا افتَقَرَ عُدتَ عليه، وإذا مَرِضَ عُدتَه، وإذا أصابَه
خَيرٌ هَنَّأْتَه، وإذا أصابَتْه مُصيبةٌ عَزَّيتَه، وإذا ماتَ اتَّبَعتَ
جِنازَتَه، ولا تَستَطِلْ عليه بالبِناءِ تَحجُبْ عنه الرِّيحَ إلَّا
بإذْنِه".
ومن آداب الجيرة التي نبهنا إليها علماؤنا الأفاضل: ابتداء الجار بالسلام،
مع السؤال عن حاله والبشاشة في وجهه. المُسارعة الى إسعافه عند الحاجة. التلطف في
مُعاملة أبنائه، والإحسان إليهم، والرفق بهم ونصيحتهم بالمعروف. الإخلاص في مشورته
وإرشاده الى ما قد يجهله من أمور دينه ودنياه. بذل النصيحة له. تحمل الأذى منه،
والصبر على جفائه، وإعراضه. الصفح عن زلاته وسقطاته، والتغاضي عن تقصيره وسيئاته،
ومُعاتبته برفقٍ وأدبٍ على هفواته. خفض صوت المذياع والتلفاز تجنباً لمضايقته،
خصوصاً في أوقات راحته. تجنب إيذائه بتضييق الطريق عليه، أو طرح الأقذار قُرب
داره. غض البصر عن أهله. تجنب مُتابعة أسراره، والحفاظ على حُرمته. وملاحظة داره
عند غيبته.
وكان العرب يفخرون بصيانتهم أعراض الجيران حتى في الجاهلية؛ يقول شاعرهم:
وَأَغَضُّ طَرْفي ما بَدَت لي جارَتي
حَتّى يُواري جارَتي مَأواها
إِنّي اِمرُؤٌ سَمحُ الخَليقَةِ ماجِدٌ
لا أُتبِعُ النَفسَ اللَجوجَ هَواها
وأما في الإسلام فيقول الشاعر:
ما ضرَّ جاريَ إذ أجاوِرُه
أن لا يكونَ لبيتِه سِتْرُ
أَعمى إذا ما جارتي خرجتْ
حتّى يُوَارِيَ جارتي الخِدْرُ
وأَصمُّ عمّا كان بينَهُما
سَمعي، وما بي غيرَه وَقْرُ
وحَدُ الجوار أربعون جاراً في كل اتجاهٍ؛ يقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: [حَقُّ الجارِ أربعونَ دَارًاهَ كَذا وَهكَذا وَهكَذا وَهكَذا؛ يَمينًا
وشِمالًا وقُدَّامًا وخَلْفًا]، وحين أتى رجلٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
يشكو جاراً له، أمر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعضَ أصحابِه أن يُناديَ:
[ألا إنَّ أربعين دارًا جارٌ].
وكلّما كان الجار أقرب كان هذا القُرب أكثر تأكيداً لحقه؛ فعندما سألت
السيدة عائشة رضي الله عنها رسول الله: "إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟"،
قال: [إلى أقْرَبهِما مِنْكَ بابًا].
أحبتي.. يُقال: "الجار قبل الدار"، ويُقال: "على قدر الجار
يكون ثمن الدار"، ويُقال: "الجار الصالح من السعادة"، لكن للأسف؛
كثيرٌ من الناس لا يعرف جاره، ولا يسأل عنه أو يتفقد أحواله، والبعض لا يهتم بحقوق
جاره عليه، مع أن الإحسان إلى الجار وإكرامه والقيام بحقوقه أمرٌ ثابتٌ بنص ما ورد
في كتاب الله عزَّ وجلَّ، وما ورد في سُنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم.
أختم بقول أحدهم: سعادة المجتمع وترابطه وشيوع المحبة بين أبنائه لا تتم
إلا بالقيام ب(حقوق الجار) وفقاً لما جاءت به الشريعة الغراء، وإن واقع كثيرٍ من
الناس ليشهد قُصوراً شديداً في هذا الجانب؛ حتى إن الجار قد لا يعرف اسم جاره
الملاصق له في السكن، وحتى إن بعضهم ليغصب حق جاره، وإن بعضهم ليخون جاره في
عِرضه.
نسأل الله أن يُعيننا والمسلمين على القيام بحقوق الجوار، والإحسان إلى
جيراننا.
https://bit.ly/3Dzv9XM
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق