الجمعة، 31 يناير 2025

فضل الصلاة على النبي

 خاطرة الجمعة /484

الجمعة 31 يناير 2025م

(فضل الصلاة على النبي)

 

عند خروجهما من المسجد بعد صلاة الفجر ألقى على جاره السلام فلم يرد عليه؛ فاستغرب وقال فينفسه: "لماذا لم يرد عليّ السلام رغم قوة العلاقة بيننا؟"،  لكنه استدرك حين رأى وجه جاره يشي بأنه مهمومٌ مشغول البال، وسرحان؛ فاقترب منه وسأله: "خير إن شاء الله؛ ما الأمر؟!"، فقال: "صاحب العمارة طلب مني أن أُغادر الشقة لعدم دفعي للإيجار، وأنا والله لا أملك المال"، فقال له جاره: "سأسعى لتدبر الأمر إن شاء الله". يقول هذا الجار: قبل صلاة العصر بخمس دقائق جاءني هاجسٌ بأن أذهب للصلاة في مسجد "عُكاشة بن محصن"، وهو يقع في حارةٍ ليست ببعيدةٍ عنا، ولا أدري لماذا جاءني هذا الهاجس! صلينا وبعد أن انتهينا من صلاتنا، وهممنا بالخروج إذا بصديقٍ لي لم أره منذ مُدةٍ طويلةٍ فسلمتُ عليه، أخبرني بأنه يسكن في مكانٍ بعيدٍ، لكنه كان مدعواً على طعام الغداء عند قريبٍ له يسكن في هذه المنطقة فقرر أن يُصلي في هذا المسجد! وخلال الحوار بينهما إذا بذاك الصديق الذي التقاه بغير ترتيبٍ يسأل صاحبنا -ودون أية مناسبة-: "هل تعرف أسرةً فقيرةً لا تجد مأوىً لها؟"، فقال صاحبنا: "ولماذا تسأل؟!"، فقال: "أنا مسؤولٌ عن وقفٍ صغيرٍ نذره صاحبه لله تعالى، وفيه عشرون شقةً، بالأمس خرج أحد الساكنين بسبب تحسن ظروفه المادية؛ فقرر أن يُتيح المكان لمن هو أَحْوَج منه"، فصرخ صديقنا: "عندي عندي عندي.. أعطني رقم هاتفك، وإياك ثم إياك أن تتصرف به"، فقال الصديق: "لا عليك.. اعتبره تحت تصرفك.. وعموماً.. من ستأتي به لن يدفع مليماً واحداً وإلى الأبد؛ لأنه وقفٌ لله".

 يقول صديقنا: "خلال عودتي لحارتنا مُتجهاً لأُبشِّر جاري، بدأتُ أُفكر في سيْر الأحداث العجيبة؛ بدايةً من لقائي معه بعد صلاة الفجر ثم معرفتي بحالته عندما سألته عن حاله.. وكيف أنني توجهتُ لأداء صلاة العصر في مسجدٍ لم أُصَلِ فيه في حياتي، في حارةٍ لم أزرها منذ سنين لألتقي قدراً بصديقٍ لم أره منذ عشر سنواتٍ -بل ولا حتى أحتفظ برقم هاتفه- ليُخبرني أن لديه شقةً مُتاحةً لأسرةٍ فقيرةٍ؛ إذاً لابد وأن صاحبنا له كرامةٌ عند ربه أو خبيئةٌ كبيرةٌ أو أنه عمل عملاً عظيماً فرَّج الله به كربته.

عندما وصل صاحبنا إلى حارته انطلق نحو بيت جاره الفقير فبشره؛ وإذا به يبكي من شدة الفرح.. بل إنه جلس على الأرض إذ لم تحمله قدماه؛ فسأله صاحبنا: "ما الذي فعلتَه منذ أن تركتُك بعد صلاة الفجر حتى الآن؟!"، فقال الجار الفقير: "واللهِ لم أفعل شيئاً.. ولكن عند عودتي من صلاة الفجر رأتني زوجتي مهموماً؛ فاقترحت عليّ أن نعكف سوياً على الصلاة على النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، ودون توقفٍ حتى غياب الشمس على نية أن يُفرِّج الله سُبحانه وتعالى علينا.. وها أنتَ الآن تأتيني بالخبر السعيد، وصدقني لم نفعل شيئاً غير الصلاة على النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم".

يقول راوي القصة: القصة حقيقيةٌ، وقد وقفتُ عليها بنفسي وأعرف أطرافها معرفةً جيدةً. إنه (فضل الصلاة على النبي) وتاللهِ يا قوم؛ ما ذلَّ ولا زلَّ ولا قلَّ مَن على محمدٍ صلَّى.

 

أحبتي في الله.. أمَر الله سُبحانه في كتابه العزيز عباده المؤمنين بالصلاة على نبيه وصفوته من خلقه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقال جلَّ ثناؤه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾، والصلاة من الله رحمته ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن الأمة الدعاء والتعظيم لأمره. ويقول تعالى: ﴿لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾، ومعنى توقير النبي تشريفه وتكريمه وتعظيمه، والصلاة عليه من أعظم أنواع التوقير والتشريف له.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [رَغِم أنْفُ رجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ علَيَّ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [البخيلُ مَن ذُكرت عِندَه فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَا مِن أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلا رَدَّ اللهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيهِ السَّلَامَ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللهَ وَكَّل بقَبْري مَلَكًا أعطاه أسماعَ الخلائقِ فلا يُصَلِّي عليَّ أحَدٌ إلى يومِ القيامةِ إلَّا أبلَغَني باسمِه واسمِ أبيه؛ هذا فلانُ بنُ فلانٍ قد صلَّى عليك]. وقال صلى الله عليه وسلم: [أَكثِروا الصَّلاةَ عليَّ يومَ الجمعةِ وليلةَ الجمعةِ فمن صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللَّهُ عليْهِ عشرًا]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ أولى النَّاسِ بي يَومَ القيامةِ أَكْثرُهُم عليَّ صلاةً]. وقال صلى الله عليه وسلم: [صلُّوا عليَّ وسَلِّمُوا، فإنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حيثُمَّا كنتُمْ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن ذُكرتُ عِندَه فَنَسِيَ الصَّلاةَ عليَّ؛ خَطِىءَ طَريقَ الجنَّةِ].

 

يقول العُلماء إن (فضل الصلاة على النبي) صلى الله عليه وسلم كبيرٌ وواسعٌ وشاملٌ، يتضمن طاعةً لله وامتثالاً لأمره؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، فينال المسلم أجر وثواب طاعة الله سبحانه، ويقتدي به في الصلاة على النبي، كما أن في الصلاة على النبي تعظيماً له صلى الله عليه وسلم، وتكميلاً للإيمان، وزيادةً في الحسنات، وتكفيراً للسيئات. والصلاة على النبي من أعظم أنواع الذِكر والعبادة لله، ولو لم يكن للذِكر إلا هذا الفضل لكفى به شرفاً. والصلاة على النبي سببٌ في استجابة الدُعاء ومغفرة الذنوب والتخلُص من الهُموم؛ فقد قال أحد الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم: أَجْعَلُ ثُلُثَ صَلاتِي عليكَ؟ قال: [نَعَمْ إنْ شِئْتَ]، قال: الثُّلُثَيْنِ؟ قال: [نَعَمْ]، قال: فَصَلاتِي كلَّها؟ قال رسولُ اللهِ: [إذا يَكْفيكَ اللهُ ما أَهَمَّكَ من أَمْرِ دُنْياكَ وآخِرَتِكَ] في هذا الحديث سأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقدار الذي يأمره به للصلاة عليه في دعائه: هل يجعل ثلث دعائه أو ثلثيه؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأن الزيادة في الصلاة عليه خيرٌ لهو أفضل، حتى قال الرجل: "فصلاتي كلها؟"، أي: أصرف دعائي لك بالصلاة من الله جميع الزمن الذي كنتُ أدعو فيه لنفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا يكفيك الله ما أهمك، من أمر دنياك وآخرتك"، أي: إذا صرفتَ جميع زمن دعائك في الصلاة عليّ كُفيت ما يهمك من أمر دينك ودنياك؛ ويُنجز لك كل أمورك؛ وذلك لأن الصلاة عليه مشتملةٌ على ذِكر الله، وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، واشتغال المرء بأداء حق النبي صلى الله عليه وسلم عن أداء مقاصد نفسه.

 

والصلاة على النبي علامةٌ من علامات الإيمان؛ لحديث النبي عليه الصلاة والسلام: [لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُم حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن والِدِهِ ووَلَدِهِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ]، والمحبّة المُطلقة للنبي تكون باتّباع بكل ما أمر به، والابتعاد عن كُلّ ما نهى عنه. وقد بينت العديد من الأحاديث عِظم الصلاة على النبي؛ ومنها ما يحفّز المُسلم على الإكثار من الصلاة على النبي، ويكون سبباً في صلاة الله على من يُصلّي على النبي ورفع الدرجات في الجنة يوم القيامة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: [مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى اللَّهُ عليهِ عشرَ صلواتٍ، وحُطَّت عنهُ عَشرُ خطيئاتٍ، ورُفِعَت لَهُ عشرُ درجاتٍ]، فالسعيد من لازم الصلاة على النبي. والصلاة على النبي بمثابة رد الجميل له، وحقٌ من حقوقه على أمّته مُقابل الخير العظيم الذي قدّمه لهم، وسببٌ من أسباب إجابة الدعاء عند ختمه بالصلاة على النبي. كما أنه سببٌ في نيل شفاعة النبي يوم القيامة، وتُزكّي النفس وتُطهّرها، وينال المصلي على النبي البركة في عمله، والرحمة من الله، وتنفي الحسرة والندامة عن المجلس الذي يُصلَى فيه على النبي.

 

وقد جاءت أحاديث كثيرةٌ في (فضل الصلاة على النبي)؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [صَلُّوا عَلَيَّ، فإنَّه مَن صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عليه بها عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الوَسِيلَةَ، فإنَّها مَنْزِلَةٌ في الجَنَّةِ، لا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدٍ مِن عِبادِ اللهِ، وأَرْجُو أنْ أكُونَ أنا هُوَ، فمَن سَأَلَ لي الوَسِيلَةَ حَلَّتْ له الشَّفاعَةُ]. ويقول: [جاءني جبريلُ فقالَ: أما يُرضيكَ يا محمَّدُ أن لاَ يُصلِّي عليْكَ أحدٌ من أمَّتِكَ إلاَّ صلَّيتُ عليْهِ عشرًا، ولاَ يُسلِّمَ عليْكَ أحدٌ من أمَّتِكَ إلاَّ سلَّمتُ عليْهِ عشرًا].

 

والصلاة على النبي ينبغي قولها قبل الدعاء وبعد حمد الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: [إذا صلَّى أحدُكُم فليَبدَأ بتَمجيدِ ربِّهِ جلَّ وعزَّ والثَّناءِ علَيهِ، ثمَّ يصلِّي علَى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، ثمَّ يَدعو بَعدُ بما شاءَ]، بمعنى: إذا أراد أحدكم أنْ يَدْعُوَ، فلْيَبدَأْ دُعاءَه بتَمْجيدِ ربه أي: بتعظيمِ ربِّهِ جَلَّ وعَزَّ والثَّناءِ عليه بما هو أَهْلُه، ثُمَّ يُصلِّي على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ يَدْعو بَعْدُ، أي: بَعْدَ ذلك بما شاء مِن خيرِ الدُّنيا والآخِرَةِ.

 

وأكمل الصيغ للصلاة على النبي هي ما أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ].

 

وفي إشارةٍ إلى (فضل الصلاة على النبي) يقول الشاعر:

يا مَنْ شَكَوَتَ تَعاسَةً وهُموما

ورَجَوْتَ مِنْ بَعْدِ الشَقاءِ نَعيما

اللهُ يَكْفي هَمَّ مَنْ صَلوا عَلَى

طِبِّ القُلوبِ وسَلَّموا تَسْليما

وقال غيره:

صَلّوا عَلَى المَبْعُوثِ فينا رَحْمَةً

تُكْتَبْ لَكُمْ عَشْراً لَدى الرَحْمَن

صلَّىَ عَلَيْكَ اللهُ يا خَيْرَ الوَرى

ما ضَجَّت الآفاقُ بالأَذان

وقال ثالثٌ:

يا شاكيًا ضيقَ الحَياةِ وهَمَّها

هَلْ تَرْتجي لِلْهَمِّ أنْ يَتَبَدَّدا

إنَّ الدَواءَ بِكَلِمَةٍ لَوْ قُلْتَها

لَمَا استَطاعَ الهَمُّ أنْ يَتَمَرَدا

اجْعَل لِسانَك دائمًا يَشْدو بِها

وهيَ الصَلاةُ عَلَى النَبيِّ مُحَمْدًا

 

أحبتي.. الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست مجرد كلماتٍ تُقال، بل هي عبادةٌ تُصلِح القلب، وتُعلي المنزلة، وتُوثق الصلة بالحبيب المصطفى، وهي من أعظم العبادات وأجلِّ القُربات فهي تجمع بين طاعة الله تعالى وحُبِّ الرسول صلى الله عليه وسلم. فلنجعل ألسنتنا رطبةً دائماً بالصلاة والسلام على نبينا الكريم خاصةً عند ذِكره صلى الله عليه وسلم، ويوم الجمعة وليلتها، وعند كل دعاء، وفي بداية مجالسنا وختامها.

اللهم تقبل منا، وثقِّل بصلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم موازين حسناتنا.

 

https://bit.ly/3Eiy0V7

الجمعة، 24 يناير 2025

بلغوا عني ولو آية

 

خاطرة الجمعة /483

الجمعة 24 يناير 2025م

(بلغوا عني ولو آية)

       

يقول أحد الأخوة: منذ فترةٍ طويلةٍ كنتُ أُصلي إماماً بالناس في صلاة العشاء، وبعد ما انتهيتُ من الصلاة جاء رجلٌ لا أظن أن عُمره يقل عن سبعين عاماً، أتذكر شكله جيداً، لحيته بيضاء، ظهره فيه انحناءٌ خفيفٌ، يلبس طاقيةً على رأسه، ملابسه عاديةٌ، ويستند على عكازٍ، قال لي: "أود أن أتكلم كلمتين يا بُني؟"، قلتُ له: "تفضل يا والدي"، فأمسك بالميكروفون ووجهه للناس، وبدأ يشرح سورة الإخلاص شرحاً لم أسمعه من قبلُ في حياتي كلها؛ تكلم فيه عن: أنواع التوحيد، الربوبية، الأُلوهية، الأسماء والصفات، تكلم فيها عن عظمة الله، تكلم فيها عن إفك النصارى أن لله الولد، تكلم عن الفارق بين التوحيد عند المُسلمين والتثليث عند النصارى، وتكلم عن فضل سورة الإخلاص. صوت هذا الرجل الشيخ الكبير كان صوتاً مُتهالكاً ضعيفاً يكاد لا يُسمع، إلا أن أسلوبه جعل الناس يستمعون إليه بإنصاتٍ، لم يقم منهم واحدٌ، ولم يتحرك منهم أحدٌ؛ لجمال أسلوبه.

‏‏ يقول الأخ: مرّت على هذه الحادثة حوالي 17 سنةً تقريباً، وفي إحدى الليالي، بعد صلاة العشاء، جاء نفس الرجل على نفس الهيئة، إلا أن تقدمه في العُمر جعله أكثر وهناً، وبدلاً من استناده على عكازٍ، كان يستند على أحد أولاده، جاءني بعد الصلاة وطلب الكلمة؛ فأعطيته الميكروفون؛ فقال نفس ما قاله منذ 17 سنةً بالضبط وبالحرف الواحد في تفسير سورة الإخلاص! انتهى الرجل من كلمته، ثم صلّينا السُنّة، وبعد أن انتهينا قلتُ لولده باستغرابٍ شديدٍ: "الحاج من 17 سنةً تقريباً كان عندنا هنا في نفس المسجد، وقال نفس الكلام الذي قاله اليوم بالضبط، أليس عنده كلامٌ غير تفسير سورة الإخلاص؟"، قال لي: "نعم، والدي له أكثر من خمسين سنةً يدعو إلى الله بتفسير سورة الإخلاص فقط لا غير!"، قلتُ له: "معقول؟!"، قال: "نعم والله"؛ فدمعت عيناي وتذكرتُ حينها قصة الرجل الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي بالناس دائماً بسورة الإخلاص، فلما رفعوا أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الرجل: "هي صفة الرحمن وأُحب أن أقرأ بها"، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [حُبُّكَ إيَّاها أدْخَلَكَ الجَنَّةَ]. ومن حوالي شهرٍ تقريباً، التقيتُ ابن هذا الرجل وأخبرني أن أباه مات في إحدى المستشفيات، وقال لي: "لما كان على فراش الموت وحوله الأطباء، قال لهم: ألا أقول لكم شيئاً؟ فقالوا له: قُل يا والدي!! فأخذ يشرح لهم سورة الإخلاص، وما إن انتهى منها حتى فاضت روحه ومات".

يقول راوي القصة: وقتها تذكرتُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ ماتَ على شيءٍ بَعثَهُ اللهُ عليْهِ]. مات الرجل ولم أعرف اسمه، ولا يعرفه الكثيرون، مجهولٌ لدينا، لكنه معروفٌ في السماء عند الله سبحانه وتعالى؛ لذلك حسنت خاتمته؛ عاش على مبدأ (بلغوا عني ولو آية) ومات على التوحيد، فاللهمّ نسألك الإخلاص وحُسن الخاتمة.

 

أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة بمثيلةٍ لها، تكاد تتطابق معها؛ يقول الراوي: في إحدى القُرى، وفي بيتٍ من بيوت الله، بعد أن أُديتُ فريضةً من فرائض الله، قام أحد الدُعاة يُحدِّث المُصلين عن فضل ذِكر الله، لم يزلْ الشيخ مُتنقلاً بين آيات الكتاب الكريم وأحاديث السُنة المُطهرة وأحوال السلف الصالح لترغيب عباد الله في ذِكر الله، والناس يُنصتون إليه في لهفةٍ وشوقٍ، كان ممن يجلس بين المصلين رجلٌ كبيرٌ في السن، أُميٌ لا يقرأ ولا يكتب، أقبل بوجهه وقلبه على كلام الشيخ، حتى بلغ الشيخ ما جاء عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ علَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ]، ما إن سمع هذا الحديث حتى حفظه عن ظهر قلبٍ، ووقع في نفسه أيما موقعٍ حتى استقر في قلبه، وأحب أن يكون ممن استجابوا لقول النبي صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية). خرج من المسجد وهو يُردد هذه الكلمات المُباركات، ولم يزل كذلك حتى وصل بيته فنظر في حال أهله فوجد أنهم في إقبالٍ على الدنيا وإدبارٍ عن الآخرة، فنادى في أهله: "إني لكم ناصحٌ أمينٌ، أنتم ها هنا في لهوٍ ولعبٍ وكأنكم لم تسمعوا بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: وما الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؟، فساق لهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم أردف قائلاً: "يا زوجتي ويا أبنائي ويا بناتي؛ أدركوا أنفسكم قبل فوات الأوان، طهروا قلوبكم وثقِّلوا موازينكم بهاتين الكلمتين [سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ]"؛ فاستجاب أهله لندائه، ورطبتْ ألسنتهم بذِكر الله. كان الرجل يخرج بعد صلاة العصر فيغشى الناس في أسواقهم ومجالسهم، نظر إلى أحوال قومه فوجد أنهم في شُغلٍ عن ذِكر الله فنادى فيهم: "يا قومي؛ هل أدلكم على ما ينفعكم؟"، قالوا: "نعم"، فساق لهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يزل في قومه مُلِحّاً عليهم، داعياً إياهم إلى ترطيب ألسنتهم وتطهير قلوبهم بذِكر الله عزَّ وجلَّ؛ فاستجاب له قومه وأهله. عاش الرجل مُستمسكا بهذا الذِّكر، لم يكدْ لسانه يفتر عنه، لم يكن يقابل أحداً إلا أقرأه حديث النبي الكريم، ودعاه إلى ذِكْرِ الله؛ لقد امتلأ قلبه بنور هذا الذِّكر، وفاض هذا الحب على اللسان، أراد هذا الرجل لكل من عرفه أن يشعر باللذة التي شعر بها، وأراد للناس أن يأنسوا بذِكر الله كما أنِس، وتطمئن قلوبهم كما اطمأن قلبه. ومضت بِضع سنين والرجل على حاله، لا يُغيِّر ولا يُبدِّل، حتى إذا داهمه المرض وأُدخل المُستشفى لم يعد يقدر على شيءٍ، غير أن لسانه لم يزل مُتلذذاً بالكلمات المُباركات [سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ]؛ كان يدخل عليه الأطباء وفريق التمريض من العرب والعجم فيُنادي فيهم ويُرغبهم في الذِّكر الذي اجتمع حبه في قلبه، حتى إذا جاءت اللحظات الأخيرة، والطبيب عند رأسه، وكان الطبيب على دين النصارى؛ فناداه الرجل: "يا دكتور"، قال الطبيب: "نعم يا عم"، قال الرجل: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: [كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ علَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ]، ثم فاضت روحه إلى بارئها، عندها ذُهل الطبيب ورقَّ قلبه؛ لقد شاهد في حياته العملية حالات احتضارٍ كثيرةٍ، غير أن هذا المرة لم تكن كسابقاتها، لقد مات الرجل المُسن وهو يتحدث بكل ثقةٍ وثباتٍ وهدوءٍ، لم يتردد الطبيب كثيراً فما هي إلا أيامٌ حتى أخذ قراره الحكيم؛ فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. 

تأملوا: سمع هذا الرجل بحديثٍ واحدٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعاه وبلغه كل من رأته عيناه! تأملوا: كيف ترجم قول النبي صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية) فصلُحت حياته بحديثٍ واحدٍ وحسُنت خاتمته بحديثٍ واحدٍ، وصدق رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام حين قال: [لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فإنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أنْ يُبَلِّغَ مَن هو أوْعَى له منه].

 

هاتان القصتان تُظهران لنا كيف أن كلمةً واحدةً، أو آيةً واحدةً، يمكن أن تكون سبباً في تغيير حياة إنسان، وأن تُحدث تأثيراً كبيراً في حياة الأشخاص؛ لم يكن هذان الرجلان عالِميْن أو من الدُعاة المشهورين، لكنهما فَهِما أن عليهما واجب التبليغ، ولو بكلماتٍ قليلةٍ، ففعلا ما استطاعا.

 

يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، وهذا استفهامٌ تقريريٌّ؛ أي: لا أحد أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله مع العمل الصالح الذي يُصدِّق قوله، ومع استسلامه لله تعالى مُنكِراً ذاته، فتصبح دعوته خالصةً لله تعالى، ليس له فيها إلا التبليغ. ويقول سُبحانه: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾.

ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَن دَلَّ علَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ]، كما يقول: [بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَة]، قال شُرّاح الأحاديث إن الشريعة المُطهرة حثت على تبليغ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، كلٌ بحسب استطاعته وعِلمه، بشرط تحري الصحة والصدق فيما يُبلَّغ عن الله عزَّ وجلَّ ورسوله صلى الله عليه وسلم. والمقصود هو: أخبروا الناس وعلموهم بكل ما جاء عني وبلغتكم به، من قرآنٍ أو سُنةٍ، واقتُصر هنا على الآية؛ ليُسارع كل سامعٍ إلى تبليغ ما وقع له من الآيات والعِلم، ولو كان قليلاً، ولو كان آيةً واحدةً؛ بشرط أن يُبلغ الآية صحيحةً على وجهها. وقوله: [آيَةً] يشمل القرآن الكريم والحديث النبوي الصحيح؛ لأن الحديث في حُكم الآية القرآنية من حيث إنه وحيٌ من الله عزَّ وجلَّ؛ يقول الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾؛ فالمسلم مطالَبٌ بتبليغ ما وصل إليه من القُرآن والأحاديث النبوية إلى غيره ممن لم يبلغه، ولو كانت آيةً قصيرةً من القُرآن. وقال بعض أهل العلم: قال: [وَلَوْ آيَةً]، ولم يقل: ولو حديثاً؛ لأنَّ الأمر بتبليغ الحديث يُفهَم من هذا بطريق الأَوْلَوية، فإنَّ الآياتِ مع انتشارها وكثرة حَمَلَتِها، وتَكَفُّل الله سُبحانه بحفظها، وصوْنها عن الضياع والتحريف، إذا كانت واجبةَ التبليغ، فالحديث الذي لا شيء فيه مما ذُكر أَوْلى. 

 

قال العُلماء إنه في عصرنا الحالي، حيث التواصل بين الناس أصبح أسهل من أي وقتٍ مضى، يمُكننا جميعاً أن نكون مثل هذين الرجلين؛ ننقل الخير ولو بتفسير آيةٍ واحدةٍ أو سورةٍ قصيرةٍ أو حديثٍ نبويٍ صحيحٍ، سواءً عبر الكلام المباشر، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو حتى بسلوكنا وتعاملنا مع الآخرين؛ فقد تكون كلمة خيرٍ نقولها، أو موقفٌ إيجابيٌ نفعله، سبباً في هداية شخصٍ، وهذا هو جوهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَة]، إن تبليغ رسالة الإسلام وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يُمكن أن يكون لها تأثيرٌ إيجابيٌ على الأفراد والمجتمع ككل. إنها دعوةٌ لنشر الخير والسلام، والتأكيد على أهمية تبليغ رسالة الله، حتى ولو كان ذلك بآيةٍ واحدةٍ أو حديثٍ نبويٍ شريفٍ واحد.

 

كما قال العُلماء؛ فإن الدعوة إلى الله تعالى من أيسر الأمور، يُمْكِننا مُمارستها في كل أحوالنا؛ فإنها لا تشترط أن يقوم بها المختصون أو مَن وظيفتُهم الدعوة؛ بل يُمكن أن يقوم بها كل مُسلمٍ حتى لو قام بنشر آيةٍ واحدةٍ أو حديثٍ أو ذِكرٍ، فإنه يؤجر على ذلك. ومن الحكمة اتباع أفضل وأسهل الطُرق للوصول إلى الناس، وليس هناك أفضل ولا أسهل من مواقع التواصل الاجتماعي للاستجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية)، وللوصول إلى البشر حول العالم دون عناءٍ؛ حيث إن شبكة الإنترنت قد صارت من ضروريات الحياة للكثير من الناس في هذا العصر، وصار الإنسان أسيراً لها، فعلى كل مُسلمٍ مُخلصٍ أن يُسخِّر ذلك في تبليغ دعوة ربِّه ونشر دين الله بين سائر البشر. إن استثمار وسائل التواصل الاجتماعي في الدعوة إلى الله تعالى صار ضرورةً؛ حيث يسعى أصحاب الهوى والضلال للسيطرة عليها بكل جِدٍّ، وجعلها مُستنقعاً للشر وكل الموبقات من القاذورات الفكرية والنفسية، ولا يسع الدُعاة والصالحين اعتزال هذه الوسائل؛ دفعاً للباطل ورحمةً بأبناء المسلمين الذين سيتأثرون حتماً بالباطل إن لم يجدوا فيها من ينشر الخير؛ فيجب على الدُعاة استثمار هذه الوسائل واستخدامها في نشر الدعوة إلى الله، وعدم تركها لأهل الباطل يتحكَّمُون فيها، ويُدمِّرون العالم بنشر الشر والفساد، وهذه مسؤولية الأمة، ومسؤولية كل مُسلمٍ يستطيع الإسهام في نشر الخير ولو بتبليغ آية.

وإن مجال الدعوة عبر وسائل التواصل مفتوحٌ لكل مُخلصٍ يُريد أن يقوم بالدعوة إلى الله، مهما كان علمه، كثيراً أو قليلاً؛ فإن في الدعوة إلى الله: تذكيرٌ ووعظٌ للغافلين، وتعليمٌ للجاهلين، وأمرٌ بالمعروف، وحقٌ على الطاعات، ونشرٌ للفضائل ومكارم الأخلاق، ونهيٌ عن المنكر، وزجرٌ عما نهى الله عنه، ودعوةٌ لغير المسلمين إلى الإسلام. 

 

أحبتي.. السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا فعلنا عندما وصلتنا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية)؟ ماذا قدمنا للدعوة في سبيل الله؟ هل استخدمنا وسائل التواصل الاجتماعي في سبيل الدعوة إلى الله؟ إن كُنا قد فعلنا؛ فنحن ممن وصفهم الله سُبحانه وتعالى بالمُفلحين. وإن كُنا قد قصَّرنا؛ فما تزال أمامنا فرصةٌ لتدارك ما فرَّطنا فيه، ولنبدأ بالتخلية قبل التحلية؛ فنترك كل ما لا لزوم لنشره من أفلامٍ وأغانٍ وصورٍ، وكلامٍ فاحشٍ أو بذيء، ونربأ بأنفسنا أن ننسب إلى الله عزَّ وجلَّ أو إلى نبينا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ما هو باطلٌ أو موضوع، وأن لا ننشر ما فيه ظلمٌ للغير أو افتراءٌ عليهم، وأن نتثبت ونتأكد من صحة ما نود نشره قبل النشر. ثم تبدأ مرحلة التحلية بنشر كل ما هو صحيحٌ مفيدٌ، وأن نحرص على أخذ العلم من مصادره الموثوقة قبل أن ننقله للآخرين. 

وفقنا الله جميعاً لخدمة دينه، وعباده، وسهَّل لنا سُبل تعلم العلم الشرعي وتعليمه. اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وارزقنا علماً تنفعنا به.

https://bit.ly/3CoKVnY

الجمعة، 17 يناير 2025

عاقبة الغضب وخيمة

 

خاطرة الجمعة /482

الجمعة 17 يناير 2025م

(عاقبة الغضب وخيمة)

 

تقول إحداهن: في ذات يومٍ طلبتُ من زوجي قبل ذهابه إلى العمل أن يُحضر لي غرضاً عند عودته من العمل، ونبهتُ عليه أن لا ينسى. وعندما عاد زوجي من العمل، كانت يداه فارغتين، ولم يُحضر لي الغرض الذي طلبته منه، فانزعجتُ جداً، وزاد من غضبي أنني كنتُ قد نبهتُ عليه أن لا ينسى، لم أستطع أن أُسيطر على غضبي فقمتُ بالصراخ عليه وبدأتُ أتشاجر معه، وصار صوتي عالياً، وكلما أراه صامتاً لا يرد، كنتُ أزداد غضباً، لقد تجاهلني وكان لا ينظر إلى وجهي، وهذا ما جعلني أنفعل بشدةٍ وفي ذروة غضبي طلبتُ منه ‏الطلاق، وأصررتُ على ذلك، لكنه لم يبالِ بطلبي للطلاق، بل تركني ودخل إلى غرفة النوم، فلحقتُ به وأمسكتُه من قميصه وقلتُ له وأنا في قمة الغضب: "إن كنتَ رجلاً طلقني".  فجأةً تغيرت ملامح وجهه، وعرفتُ أن كلمتي أثَّرت فيه، لكني لم أُعطِ أي اهتمامٍ لذلك، ثم قال لي: "حسناً؛ خُذي ابنتك واذهبي إلى بيت والدك، وسوف أُرسل لكِ ورقة الطلاق". أخذتُ ابنتي الصغيرة، وذهبتُ إلى بيت أبي، وحالته المادية ضعيفةً؛ فنحن فقراء، لكنه العناد. كان معي بعض المال جمعته من مصاريفي اليومية، أنفقتها على نفسي وابنتي وعلى أهلي. بعد يومين جاء زوجي وأعطاني ورقة الطلاق في كيسٍ صغيرٍ، وذهب ولم يُعطني أية أموالٍ كنفقةٍ مُستحقةٍ لي ولابنته، شعرتُ بالغضب وأخذتُ الورقة ثم وضعتها في حقيبتي دون أن أقرأها. بعد عشرة أيام نفد المال الذي كان معي وصارت حالتنا أسوأ بكثيرٍ، لم يعد يوجد شيءٌ في المطبخ نأكله، وكنتُ حاملاً في الشهر السابع. دخلتُ إلى غُرفتي فشدني الفضول بشأن تلك الورقة، فقمتُ بإخراج الكيس الصغير من حقيبتي ثم فتحته، وكانت الصدمة أكبر مما كنتُ أتصور! لقد وجدتُ بداخله مالاً يكفي لمصاريف شهر، ثم فتحتُ الورقة فإذا هي رسالةٌ من زوجي وليست ورقة الطلاق! كتب في الرسالة: "زوجتي العزيزة كيف حالك؟ وكيف حال طفلتي؟ لقد اشتقتُ لكما كثيراً، أنا آسفٌ لأني لم أُحضر لكِ طلبكِ ليس لأني نسيتُ، بل لأني كنتُ أُرتب لكِ مُفاجأةً بأن نخرج معاً ونأكل في أحد المطاعم، ثم تشترين بنفسك كل ما تريدين، لكن عندما رأيتك منزعجةً وغاضبةً، سكتُّ، ليس خوفاً أو ضعفاً، بل كنتُ أخشى عليكِ أن تتعبي وخصوصاً أنكِ حامل، فمنعتُ نفسي من الرد على كلماتك الجارحة، ثم انسحبتُ ودخلتُ إلى غُرفة نومنا، خوفاً من أن أفقد سيطرتي وأفقد أعصابي فتشتعل النار أكثر، لكن حين قلتِ: "إن كنتَ رجلاً طلقني"، تمالكتُ أعصابي وسيطرتُ على نفسي؛ نعم أنا رجلٌ، لكن هذا لا يعني أن أُظهر رجولتي تحت تأثير غضبك وأستجيب لطلبك.. ورأيتُ أن أُعطيكِ درساً في كظم الغيظ وعدم التسرع، وأن في العجلة الندامة.. نعم عزيزتي لقد جرحني كلامك، ولكن ستبقينَ زوجتي الحبيبة، وأم أولادي، وقد وضعتُ لكِ ‏مالاً يكفيكِ لمصاريف شهر، حتى لا تحتاجين لأي شيءٍ، وإذا كنتِ تريدين أن تعودي فمرحباً بكِ، ستنورين بيتك، وإذا كنتِ ما زلتِ غاضبةً مني وتُريدين البقاء في منزل والدك، فكما تُحبين". تقول السيدة: ‏"كنتُ أقرأ الرسالة ودموعي تتساقط؛ لقد شعرتُ بالندم، وعرفتُ خطئي، ثم قمتُ على الفور أجمع وأُجهز أغراضي، ثم اتصلتُ بزوجي وأنا أبكي، واعتذرتُ له عما فعلته به، لقد قتلني بلطفهِ، وتصرفه الهادئ، لقد كنتُ أحترق وأنا أقرأ كلماته الرقيقة. بعد ساعةٍ طرق زوجي الباب وفتحتُ له، وأنا أبكي قبَّلتُ رأسه، وطلبتُ منه السماح، ثم قام زوجي بوضع مالٍ في يدي لأُعطيه لوالدي، وعُدنا إلى المنزل. منذ تلك الحادثة وحتى اليوم، لا أرفع صوتي على زوجي، ولا أطلب منه أيشيءٍ، بل كان حين يخرج يسألني: "هل تحتاجين شيئاً؟"، كنتُ أرد عليه: "لا أحتاج أي شيءٍ سوى عودتك سالماً مُعافىً". لقد تعلمتُ كيف أن (عاقبة الغضب وخيمة).

 

أحبتي في الله.. هذه القصة تُذكرني بقصةٍ أخرى مُشابهةٍ؛ امرأةٌ مُتزوجةٌ تقول: في لحظة غضبٍ قلتُ لزوجي: "يا ليتني لم أتزوجك"، توقعتُ أنه سيصرخ أو سيقوم بتعنيفي، لكنه صمت وخرج من البيت وعاد بعد ثلاث ساعاتٍ، ومنذ عودته أحسستُ أني مُتزوجةٌ برجلٍ آخر، رجلٍ ليس مثل زوجي، هذا ليس زوجي! صامتٌ، لا يتكلم، لا يناقش، لا يُجادل، لا يفرح، ولا يغضب، يقوم بواجباته المنزلية فقط. لقد مرَّت أربع سنواتٍ على هذه الحالة، وفهمتُ ما معنى أن تُخرب بيتك بكلمةٍ واحدةٍ، ومعنى أن (عاقبة الغضب وخيمة)؛ ففي لحظة غضبٍ خسرتُ نفسي وخسرتُ زوجي وخسرتُ سعادتي.

 

إنه الغضب، الذي مدح الله عزَّ وجلَّ مَن فعل عكسه بأن يغفر بدلاً من أن يغضب؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ وجعل سُبحانه ذلك من صفات المؤمنين.

هو الغضب، الذي لم يسلم منه بشر؛ فهذا سيدنا موسى عليه السلام تَمَلَّكَهُ الغضب: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا﴾، ثم سكت عنه: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ﴾. وهذا سيدنا يونس عليه السلام جعله الغضب يترك قومه لكُفرهم ويذهب عنهم: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا﴾.

هو الغضب، الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ]، ونهانا عليه الصلاة والسلام عن الغضب فقال لرجلٍ طلب منه أن يوصيه: [لا تَغْضَبْ] وَرَدَّدَ مِراراً: [لاَ تَغْضَبْ]، وأعطانا صلى الله عليه وسلم وصفةً للتخلص من الغضب؛ فقال: [إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ] وبرَّر ذلك بقوله: [إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ]. كما قال عليه الصلاة والسلام: [إذا غَضِبَ أحدُكم فلْيسكتْ]، وقال عن رجلٍ غاضبٍ: [إِنِّي لأَعْرِفُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ: أَعُوذُ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ]. وقال كذلك: [إذا غضبَ أحدُكم وهو قائمٌ فلْيجلسْ، فإن ذهبَ عنه الغضبُ وإلاَّ فلْيَضْطَجِعْ]؛ لأن القائم الواقف أكثر استعداداً للبطش والتمادي في الغضب، وأما القاعد فهو أقل حركةً وأقل استعداداً للبطش، وكذلك الراقد أو المضطجع؛ فإنه لا يقدر على ذلك. ومدح-عليه الصلاة والسلام- صفة التحكم في النفس؛ فقال: [ليسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ].

وورد في الأثر: "اتَّقوا الغضَبَ؛ فإنَّه جَمرةٌ على قلبِ ابنِ آدَمَ".

كما ورد عن الغضب واختلاف الناس في سُرعة غضبهم وسُرعة رجوعهم عنه: "منكم مَن يكونُ سَريعَ الغضَبِ، سَريعَ الفَيءِ، ومنكم مَن يكونُ بَطيءَ الغضَبِ بَطيءَ الفَيءِ، وخيارُكم مَن يكونُ بَطيءَ الغضَبِ سَريعَ الفَيءِ، وشِرارُكم مَن يكونُ سَريعَ الغضَبِ، بَطيءَ الفَيءِ".

 

وللوالدين دورٌ كبيرٌ في مُعالجة الغضب عند أبنائهما؛ فهذا أبٌ فكَّر بطريقةٍ مُبدعةٍ كيف يمنع ابنه من الغضب؛ فقد كان ابنه عصبياً يفقد صوابه كلما غضب، فأحضر له والده كيساً مملوءاً بالمسامير وقال له: "يا بُني؛ أُريدك أن تدق مسماراً في سياج حديقتنا الخشبي كلما اجتاحتك موجة غضبٍ وفقدتَ أعصابك". بدأ الولد بتنفيذ نصيحة والده فدَّق في اليوم الأول ثلاثين مسماراً، ولم يكن إدخال المسمار في السياج سهلاً؛ فقرر أن يتمالك نفسه عند الغضب. ومع مرور الأيام كان يدق مسامير أقل، وفي أسابيع قليلة تمكن من ضبط نفسه، وتوقف عن الغضب وعن دق المسامير، وأخبر والده بإنجازه؛ ففرح الأب بهذا التحول، وقال له: "عليك الآن يا بُني استخراج مسمارٍ في كل يومٍ يمر عليك لم تغضب فيه"، بدأ الولد فيخلع المسامير في الأيام التي لا يغضب فيها، حتى انتهى من خلع جميع المسامير من السياج، وأخبر والده بإنجازه مرةً أخرى، فأخذه والده إلى السياج وقال له: "أحسنتَ صُنعاً يا بُني، ولكن انظر الآن إلى تلك الثقوب في السياج، هذا السياج لن يعود كما كان أبداً"، وأضاف: "عندما تقول كلاماً جارحاً وقت الغضب فإنه يترك آثاراً في نفوس الآخرين مثل هذه الثقوب، تظل موجودةً مهما اعتذرتَ، فلا تغضب".

 

وعن معنى أن (عاقبة الغضب وخيمة) قيل:

من أطاع غضبه أضاع أدبه.

أول الغضب جنونٌ وآخره ندم.

الغضب هو جنونٌ مؤقت.

 

وقال الشاعر:

وَلَمْ أَرَ فَضْلاً تَمَّ إِلّا بِشيمَةٍ

وَلَمْ أَرَ عَقْلاً صَحَّ إِلّا عَلى أَدَبِ

وَلَمْ أَرَ في الأَعْداءِ حينَ خَبَرْتُهُم

عَدُوّاً لِعَقْلِ المَرْءِ أَعْدَى مِنَ الغَضَبِ

 

أحبتي..  من منا لا يغضب؟ لا أحد؛ كلنا نغضب، فإن كان غضبنا إيجابياً غيرةً على الدين، أو نُصرةً لمظلوم، أو إظهاراً لحقٍ فهذا غضبٌ محمود.

أما إن كان غضبنا سلبياً، نفقد فيه أعصابنا في علاقاتنا الخاصة، فنؤذي الغير بأقوالنا أو أفعالنا، ثم نندم وقت لا ينفع الندم، ونكتشف بعد فوات الأوان أن (عاقبة الغضب وخيمة)، فعلينا أن نلتزم بما ورد في سُنة النبي عليه الصلاة والسلام كعلاجٍ للغضب. كما أن علينا أن نُدرّب أنفسنا وأبناءنا على ‏فضيلة كظم الغيظ وأن نحث أحباءنا على ذلك؛ فهي من صفات المُحسنين الذين يُحبهم الله؛ يقول تعالى: ‏‏﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.

اللهم اجعلنا ممن يملكون أنفسهم وقت الغضب، ويسِّر لنا القدرة على كظم الغيظ، وحبِّب إلى نفوسنا العفو والصفح والتسامح.

 

https://bit.ly/3ClcX3y

 

الجمعة، 10 يناير 2025

خُلُق الشهامة

 

خاطرة الجمعة /481

الجمعة 10 يناير 2025م

(خُلُق الشهامة)

 

يقول راوي القصة: قبل عدة سنواتٍ، قمتُ بتغيير سيارتي واشتريتُ سيارةً جديدة. كانت السيارة القديمة تُضيء مصباح البنزين بشكلٍ مبكرٍ جداً، بمعنى أنه قد يكون هناك 10 لترات من البنزين متبقيةً فيخزان السيارة، ومع ذلك يُضيء المصباح، مما يُتيح لي القيادة لأكثر من 100 كيلومتر إضافية، أما السيارة الجديدة، فكان المصباح يُضيء متأخراً، قبل 40 أو 50 كيلومتر فقط من نفاد الوقود. في أول شهرٍ بعد شرائي للسيارة، كنتُ في طريقي إلى اجتماعٍ مهمٍ جداً ومتأخراً عليه، وفجأةً أضاء مصباح البنزين. قلتُ لنفسي: "لا مشكلة، سأذهب إلى الاجتماع أولاً ومن ثمَّ أملأ الوقود". انتهى الاجتماع في الساعة الثالثة عصراً، وهو وقت ازدحام المرور بمدينة «القاهرة» بسبب انصراف الموظفين. كنتُ في الطريق، مشغولاً بتفاصيل الاجتماع ونتائجه، فجأةً، وأنا في ذُروة زحمة المرور، والسيارة تتجه نحو «كوبري أكتوبر» ذي الحارتين، نفد الوقود وتوقفت السيارة، وفي أقل من دقيقةٍ، توقف الطريق تماماً؛ فقد سددتُ حارةً من الحارتين، نظر الناس إليّ بنظراتٍ غير لطيفةٍ، مُتعجبين كيف توقفت هذه السيارة الجديدة اللامعة بهذا الشكل! المشكلة أن السيارة أوتوماتيكية، فلا يُمكن دفعها ولا يُمكن تركها واقفةً بهذا الشكل في هذا المكان.

 كنتُ واقفاً مُتحيراً لا أعلم ماذا أفعل، وخائفاً من تركها والذهاب لجلب الوقود. فجأةً، توقفت سيارةٌ قديمةٌ جداً أمامي، ونزل منها رجلٌ وسألني: "ما الأمر؟" قلتُ له: "نفد الوقود"، بدون كثيرٍ من الكلام، فتح حقيبة سيارته وأخرج حبلاً سميكاً وربطه بسيارته وسيارتي ثم قال لي: "اركب وركز معي". جرّني مسافةً طويلةً حتى وصلنا إلى إحدى محطات الوقود، لم يكتفِ بذلك، بل عرض أيضاً أن يدفع لي ثمن الوقود، ولكني طمأنته أن معي المال. بعد أن شكرته، سألته: "ألم تكن خائفاً من أن تتأذى سيارتك؟ أو يحدث شيءٌ للمحرك؟ أو تتأخر عن مواعيدك؟" رد بابتسامةٍ بسيطةٍ وقال: "أبداً، ما فكرتُ فيه هو أنه لو كنتُ مكانك كنتُ أتمنى أن أجد من يقف معي ويساعدني، وهذا هو ما قمتُ به؛ أحببتُ لك ما أحببتُ لنفسي". علمتُ منه أنه من أحد الأقاليم، ولديه شركة دعايةٍ صغيرةٍ، وجاء إلى «القاهرة» للتعاقد مع مطبعة، قلتُ له: "أنا أعرف صاحب مطبعةٍ جيدةٍ، يُمكنني أن أكلمه وأوصيه عليك"، أعطيته بياناته، وأنهينا لقاءنا بتبادل أرقام هواتفنا.

مرت سنتان، ونسيتُ الموضوع تماماً، ويوماً ما، تلقيتُ مكالمةً منه، بعد التحية قال لي: "أردتُ أن أطمئن عليك، وأخبرك أن صاحب المطبعة الذي عرَّفتني به صار شريكي، ومن مكاسب السنة الأولى فتحنا فرعاًفي «مدينتي» واشترينا ماكينة طباعةٍ جديدة، أردتُ أن أشكرك على هذا المعروف". أنهيتُ المكالمة وأنا مُندهشٌ؛ فهو يرى أن ما حدث كان معروفاً مني، ولكن الحقيقة أنه هو الذي علّمني درساً كبيراً، علّمني أن الرزق ليس مجرد حساباتٍ وأرقامٍ، الرزق الذي يأتيك دائماً يكون أعظم من الرزق الذي تسعى إليه، ما تفعله بصدقٍ وإخلاصٍ بدون انتظار مكسبٍ، هو الذي يجلب لك الخير غير المتوقع، وأن (خُلُق الشهامة) ليس كلاماً يُقال وإنما هو أفعالٌ تتسم بالمبادرة، تُقدَم للمُحتاج دون طلب.

 

أحبتي في الله.. من مواقف الشهامة التي وردت في القرآن الكريم؛ يقول تعالى عن سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَمَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ۝ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾، قال المفسرون عن هذا الموقف إن موسى تحركت فيه عوامل الشهامة، وسقى لهما، وأدلى بدلوه بين دِلاء الرجال حتى شربت ماشيتهما.

 

ولأن الشيء يُعرف بضده؛ فإن ضد صفة الشهامة، تكون صفة الخذلان. وخذلان المسلم لأخيه المسلم أمرٌ تُنكره الشريعة؛ يقول علماؤنا إنه من الصفات الذميمة التي تستجلب الذُل والهوان؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي قائِمَةً بأمرِ اللهِ، لا يَضُرُّهُم مَن خَذَلَهُم، وَلا مَن خالَفَهُم، حَتى يأتي أمْرُ اللهِ، وَهُم ظاهِرُونَ عَلى الناسِ]، "مَن خَذَلَهُم" أي: مَن ترك عَوْنَهم ونَصْرَهم. وقد حثّ النبي على نُصرة المُسلم لأخيه المُسلم؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا]، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، هذا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكيفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قالَ: [تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ] بمعنى منعه من الظلم.

 

عودةً إلى (خُلُق الشهامة) يقول أهل الاختصاص إنه خُلُقٌ عظيمٌ يُعبر عن النُبل، والإحسان، ومُساعدة الآخرين. وهو واحدٌ من الخلال الحميدة يتميز بها من يمتلك العزيمة، الكرامة، العدالة، الاستقامة، المسؤولية؛ والحرص على تقديم يد العون للآخرين في الأوقات الصعبة؛ إذ يستجيب لمبادئه وقيَمه، ويتصرف بسرعةٍ وإيجابية دون طلب. والشهامة صفةٌ من صفات الكرم والشجاعة والمروءة، تدل على الرفعة في التعامل مع الآخرين. إنها سمةٌ تعكس القوة النفسية والقدرة على اتخاذ القرارات الصائبة في اللحظات الحاسمة، كما تعني الاستعداد لمساعدة الآخرين والوقوف بجانبهم وقت الحاجة. إن الشخص الشهم هو الذي يتمتع بشجاعةٍ أخلاقيةٍ، وقدرةٍ على القيام بالتصرفات النبيلة التي تعكس روح الفروسية الحقيقية، دون انتظار مقابل.

 

ومن المواقف التي تُبين معنى ومفهوم الشهامة: مُساعدة الجيران إذا تعرض أحدهم لمشكلة، الدفاع عن الضعفاء والمظلومين ومساعدتهم للحصول على حقوقهم، والإيثار والتضحية بتقديم مصلحة الآخرين على المصلحة الشخصية. وتظهر الشهامة في المواقف التي تتطلب تدخلاً فورياً لحل مشكلةٍ أو مُساعدة شخصٍ في حاجةٍ، سواءً في الأوقات العادية أو في المواقف الطارئة، وتشمل العديد من الجوانب في الحياة اليومية؛ كما في الأوقات الصعبة كالأزمات أو الكوارث، وفي المواقف التي يكون فيها أحدٌ بحاجةٍ للمُساعدة تكون الشهامة بتقديم المساعدة سواءً كانت ماديةً أو معنويةً.

 

ومن فوائد الشهامة وآثارها على الشخص الشهم: أنه يحظى بالاحترام والتقدير من الآخرين؛ ما يؤدي إلى بناء سمعةٍ طيبةٍ له في المجتمع، وينال احترام الآخرين وتقديرهم، مما يُعزز ثقته بنفسه، ويزيد من مكانته الاجتماعية. والشهامة ومساعدة الآخرين والوقوف بجانبهم يبعث في نفس الشخص الشهم شعورا ًبالسلام الداخلي والراحة النفسية، كما أنه يجد نفسه مُحاطاً بالأصدقاء والمُحبين ويُحقق النجاح في علاقاته الاجتماعية ويُسهم في بناء جسور الثقة والتعاون بينه وبين غيره من الأفراد، كما أن مُساعدة الآخرين تجلب البركة في الرزق، وتعود بالنفع على الشخص الشهم بطرقٍ غير متوقعة.

 

أما فوائد الشهامة وآثارها على المجتمع فأهمها تعزيز التماسك الاجتماعي حيث يكون أفراد المجتمع مُتعاونين، يتعاملون بعضهم مع بعضٍ بالشهامة، مما يقوي العلاقات بينهم، ويُقلل من المشكلات الاجتماعية، ويُسهم في مكافحة الفقر بتقديم المُساعدة المادية للفقراء والمُحتاجين، وفي ذلك تعزيزٌ لقيم التعاون والاحترام المتبادل، ودعمٌ للعدالة بالدفاع عن حقوق الآخرين وشجب الظلم.

 

أحبتي.. الشهامة تقوم على الشجاعة والمُبادرة لنجدة الآخرين، والكرم لإعانة أصحاب الحاجات، والتضحية بالجهد والوقت والمال لخدمة الغير دون مقابل. والسؤال الآن هو: كيف نُربي أبناءنا على الشهامة؟ إن تربية الأبناء على الشهامة تتطلب تنمية مجموعةٍ من القيم والمهارات التي تُساعدهم على غرس وتنمية هذه الصفة في شخصياتهم؛ ويكون ذلك أولاً بأن نكون نحن قدوةً حسنةً لأبنائنا من خلال إظهار سلوك الشهامة في تصرفاتنا اليومية؛ فهم يتعلمون من أفعالنا أكثر من كلماتنا. ثم إن علينا تعليم أبنائنا قيمة العطاء ومُساعدة الآخرين سواءً بمُساندة الجيران أو التبرع بالمال أو الملابس للفقراء، مما يُعزز من (خُلُق الشهامة) لديهم، وعلينا أن نغرس فيهم مفاهيم الشجاعة والإقدام بالوقوف إلى جانب الحق والدفاع عن المظلومين. ومما يُساعد في غرس وتنمية قيمة الشهامة في نفوس أبنائنا أن نقص عليهم قصص الأبطال الشجعان والقصص التي تحكي عن شخصياتٍ تحلت بالشهامة، وأن نُشركهم في الأنشطة الاجتماعية والتطوعية والخيرية ليتعلموا كيفية تقديم المُساعدة للآخرين، ثم إن علينا أن نُشجعهم ونُكافئهم عندما يُظهرون سلوكاً شهماً، ونُحفزهم من خلال مكافآتٍ معنويةٍ وكلمات تقدير.

اللهم أعنّا على أن نكون من عبادك الذين يتسمون ب (خُلُق الشهامة)، وأن نربي أبناءنا على أن يتخلقوا بهذا الخُلُق النبيل.

https://bit.ly/40dl3mY

الجمعة، 3 يناير 2025

الظلم ظلمات

 

خاطرة الجمعة /480

الجمعة 3 يناير 2025م

(الظلم ظلمات)

 

يحكي شابٌ مصريٌ قصته قائلاً: في عام 2017م كان خالي يُعاني من سرطان الدم، وتم احتجازه في معهد الأورام بمدينة «القاهرة». ذهبتُ معه كمرافقٍ، وبقينا هناك لمدة خمسة عشر يوماً حتى توفاه الله. خلال تلك الفترة، كان خالي في غرفةٍ تحتوي على ثلاثة أَسِرّة، تفصل بينها ستائر. كان معه في الغُرفة رجلٌ يُدعى عم «أحمد»، يُعاني من سرطان الرئة، وكان لا ينام ولا يدعنا ننام بسبب بكائه المستمر طوال الليل. كان كلما نام حوالي ربع ساعةٍ استيقظ مفزوعاً. في إحدى الليالي، استيقظنا مفزوعين من شدة بكائه وصراخه، واجتمع الناس حوله يحاولون التخفيف عنه، وعندما انفضوا اقتربتُ منه وهو يبكي وقلتُ له: "تماسك يا عم «أحمد» وتحمَّل الكيماوي، أنا أعلم أن الكيماوي ألمه صعبٌ ومُتعِبٌ، لكن لابد منه حتى يكتب لك الله الشفاء"، ضحك الرجل ضحكةً مُمتلئةً بالدموع وقال: "يا بُني، هل تظن أنني أبكي من الكيماوي؟ لا.. أنا أُعاني من ألمٍ لا يُطاق، ألمٍ لا يتحمله بشر"، قلتُ له: "قُل لي يا عم «أحمد»، افتح لي قلبك، ما الذي يُسبب لك كل هذا الألم؟"، قال: "يا بُنيّ، إنه ألم الحسرة والندم في وقتٍ لا ينفع فيه الندم.. أسأل نفسي في كل لحظةٍ: هل يمكن أن يُسامحني الله؟"، قلتُ له: "مما يُسامحك يا عم؟"، قال: "من ظُلمٍ فادحٍ أنا نادمٌ عليه الآن؛ فقد كان لديّ شريكٌ في تجارةٍ، وكان له نصيبٌ مثلي في وكالةٍ أنشأناها سوياً، من حُسن نيته وطيبته، سلَّم لي التجارة كاملةً لأُديرها، لعب الشيطان بعقلي، وأغرتني الدنيا، فأخرجته من التجارة وأكلتُ حقه، بل وجعلته مديوناً، حاول الرجل كثيراً استعادة حقه، لكنني كنتُ قد رتبتُ الأوراق جيداً، مما اضطره لبيع بيته لسداد ديونه، لم أرحمه ولم يَرِق له قلبي. خرج الرجل من البلدة مع زوجته وأولاده الثلاثة وبنتيه، وقبل أن يُغادر، مرَّ عليّ في الوكالة وقال لي: "أنا مُغادرٌ الآن بسبب ظلمك لي، وستكون خصيمي يوم القيامة، يوم أن نقف جميعاً أمام الله سُبحانه وتعالى، حسبي الله ونعم الوكيل". لم أهتم لما قاله، ولم يهز كلامه شعرةً واحدةً في رأسي.

بعد أن غادر، بدأت الدنيا تُعطيني بسخاءٍ، وزادت ثروتي، وظننتُ أن المال مالي، وأديتُ فريضة الحج أكثر من مرةٍ، واعتمرتُ مراتٍ عديدةٍ! كبر أولادي وتعلموا، وعمل بعضهم معي في التجارة، إلى أن بدأ المرض يرافقني، عندها، تركني أولادي في البيت مثل الكلب. قلتُ لهم يوماً إن هناك شخصاً له دَيْنٌ عندي وأُريد سداده، كان ردهم: "عندما تقابله يوم القيامة، سدِّد له دَيْنه!". زاد المرض عليّ؛ فأحضروني إلى هنا، ولم يعد أحدٌ منهم يسأل عني، ولا حتى زوجتي للأسف. يا بُنيّ، منذ أن حضرتُ إلى هنا، كلما نمتُ جاءني شريكي في المنام وقال لي: "هانت، لم يبقَ إلا القليل، وحقّي سآخذه منك"، يتكرر الأمر كلما أغمضتُ عينيّ؛ لهذا السبب أقوم مفزوعاً ولا أستطيع النوم. إنه عذابٌ شديد، ألمه أكثر بكثيرٍ من ألم العلاج الكيماوي"، قاطعته قائلاً: "هوِّن عليك"، فاستطرد يقول كأنه لم يسمعني: "سألتُ عن شريكي فعلمتُ أنه مات، وأن أولاده قد فتح الله لهم أبواب الرزق وأصبحوا أغنياء جداً، ذهبتُ إليهم، وطلبتُ منهم أن يُسامحوني، كان ردهم: لو أن دخولك الجنة يتوقف على سماحنا فلن نُسامحك أبداً". ثم صرخ الرجل بأعلى صوته وقال لي جملةً اقشعر منها جلدي واهتز لها كياني كله: "يا بُنيّ، منذ أكثر من شهرٍ كلما أُغمض عينيّ أرى مقعدي في جهنم!". مات خالي، وبعد أيامٍ ذهبتُ لزيارة عم «أحمد» فعلمتُ أنه مات في المستشفى وحيداً ليس معه أحد.

هذا أَكَلَ مال شخصٍ واحدٍ بالحرام، فما بالك بمن ظلم الكثير من الناس أو أكل حقوقهم؛ ألا يعلم أنهم سيكونون كلهم جميعاً خصومه يوم القيامة؟

المُرعب في حكاية عم «أحمد»، وفي غيرها من حكايات الظلم، أن الظالم عاش عمره كله في نعيمٍ وصحةٍ ومكسبٍ ونجاحٍ ومالٍ وفيرٍ وأولادٍ وشهرةٍ، وهذا ما يجعل الكثير من الظالمين يعتقدون أنهم على حق!

 

أحبتي في الله.. (الظلم ظلمات)، وفي القرآن الكريم آياتٌ كثيرةٌ تتحدث عن الظلم وتُبين آثاره وعواقبه الوخيمة؛ وعن الظالمين وما ينتظرهم من عذابٍ، ومن تلك الآيات آيةٌ تقشعر لها أبدان المؤمنين؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾ ولا تركنوا بمعنى لا تميلوا ولا حتى بقلوبكم، يقول المُفسرون: إن كان مُجرَّد الرضا بأعمال الظَّلَمة يستوجب مسيسَ النار، فما ظنُّك بمَن يُشاركُهم ظلمَهم؟ لا يَهلِكُ بالظلمِ فاعلُه فحسب، بل يَهلكُ معه مُوافقُه، والمطمئنُّ إليه، قيل: "لا تُصاحب ظالماً؛ فلا أمان في صُحبة الظالمين، ولا نصر يُرتجى لمائلٍ إليهم؛ فمآلُ الظالمين خسارة الدنيا والآخرة"؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَعَنَتِ الوُجوهُ لِلحَيِّ القَيّومِ وَقَد خابَ مَنحَمَلَ ظُلمًا﴾، ويقول كذلك: ﴿وَلا تَحسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمّا يَعمَلُ الظّالِمونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُم لِيَومٍ تَشخَصُ فيهِ الأَبصارُ ۝ مُهطِعينَ مُقنِعي رُءوسِهِم لا يَرتَدُّ إِلَيهِم طَرفُهُم وَأَفئِدَتُهُم هَواءٌ﴾، ويقول أيضاً: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾.

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إن الله لَيُمْلي للظالم فإذا أخذهُ لم يُفْلِتْهُ] ثم قرأ: ﴿وَكَذلِكَ أخْذُ رَبِّكَ إذَا أخَذَ الْقُرَى وَهِي ظَالِمَةٌ إنَّ أخْذَهُ ألِيمٌ شَديدٌ﴾. وعَنه فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: {يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا}. ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَن كَانَتْ له مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أَوْ شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قَبْلَ أَنْ لا يَكونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيه]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يَومَ القِيامَةِ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلى أهْلِها يَومَ القِيامَةِ، حتَّى يُقادَ لِلشّاةِ الجَلْحاءِ، مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [مَن ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأرْضِ طُوِّقَهُ مِن سَبْعِ أرَضِينَ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فإنَّهَا ليسَ بيْنَهَا وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [ثلاثٌ لا تُرَدُّ دعوتُهُم]، وذكر منهم [دعْوةُ المظلومِ؛ تُحمَلُ علَى الغَمامِ، وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ، ويقولُ اللهُ تباركَ وتعالى: وعزَّتي وجلالي لأنصرَنَّكَ ولَو بعدَ حينٍ].

 

وتحدث كثيرٌ من أهل العلم عن أن (الظلم ظلمات)؛ فقالوا إن من أسباب الظلم: نزغ الشيطان، النفس الأمارة بالسوء، والهوى.

وقالوا عن بعض صور الظلم: أكل مال اليتيم، المماطلة في رد الحقوق، هضم حق المرأة والضعيف خاصةً في الميراث، عدم إعطاء الأجير حقه، الجوْر في القسمة بين الزوجات والأولاد، ظلم: الزوج زوجته، والزوجة زوجها، والأخ أخاه، والشريك شريكه، والجار جاره، والمدير في العمل مرؤوسيه، وغير ذلك.

وقالوا عن آثار الظلم ومضاره: الظلم يجلب غضب الرب سُبحانه، ويتسلط على الظالم بشتى أنواع العذاب، وهو يُخرب الديار، وبسببه تنهار الدول، والظالم يُحْرَمُ شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع أنواعها، وعدم الأخذ على يده يُفسد الأمة، والظلم دليلٌ على ظُلمة القلب وقسوته، ويؤدي إلى صَغار الظالم عند الله وذِلته، وما ضاعت نعمةٌ إلا بظلمٍ، وما دُمرت الممالك إلا بسبب الظلم، وندم الظالم وتحسره بعد فوات الأوان لا ينفع، والظلم من المعاصي التي تُعجل عقوبتها في الدنيا، فهو متعدٍ للغير، وكيف تقوم للظالم قائمةٌ إذا ارتفعت أكف الضراعة من المظلوم بالدعاء على مَن ظَلمه؟

وقالوا عن غفلة الظالم: ألم يتذكر الظالم قبل أن يظلم، وقبل أن يأخذ ما ليس له، وقبل أن يلصق تهمةً بإنسانٍ بريءٍ، وقبل أن يستغل قوته ليسحق مَن تحته، وقبل أن يستغل مكانته ليؤذي غيره، ألم يتذكر أن الله بالمرصاد، وأن (الظلم ظلمات)؟ ألم يعلم أنه ما من ذنبٍ أسرع إلى تعجيل نقمةٍ وتبديل نعمةٍ من الظلم والبغي على الناس بغير الحق؟

وقالوا إن مما يُعين على ترك الظلم: تَذَكُر أن الله عزَّ وجلَّ نزَّه نفسه عن الظلم، النظر في سوء عاقبة الظالمين، عدم اليأس من رحمة الله، الذِكر والاستغفار، وكف النفس عن الظلم، ورد الحقوق لأصحابها.

 

ولما كان (الظلم ظلمات) فإن من واجب كل مسلمٍ أن ينصر أخاه الظالم على الوجه الذي بيَّنه لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قال: [انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلُومًا]. فقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أنْصُرُهُ إذا كانَ مَظْلُومًا، أفَرَأَيْتَ إذا كانَ ظالِمًا، كيفَ أنْصُرُهُ؟ قالَ: [تَحْجُزُهُ -أوْ تَمْنَعُهُ- مِنَ الظُّلْمِ؛ فإنَّ ذلكَ نَصْرُهُ].

 

يقول الشاعر:

لا تظلمنَ إذا ما كُنتَ مُقتدراً

فالظلمُ مَرتعهُ يُفضي إلى النَدمِ

تنامُ عَينُك والمَظلومُ مُنتبهٌ

يدعو عليكَ وعينُ اللهِ لم تنمِ

ويقول آخر:

أما واللهِ إن الظلمَ لؤمٌ

ومازال المسيءُ هو الظَلومُ

إلى ديانِ يومِ الدينِ نمضي

وعندَ اللهِ تجتمعُ الخصومُ

ستعلمُ في الحسابِ إذا التقينا

غداً عند الإلهِ مَن المَلومُ

 

أحبتي.. ونحن في شهرٍ من الأشهر الحُرُم علينا أن نتدبر قوله تعالى عنها: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾، ففي الآية تأكيدٌ على أن (الظلم ظلمات)، وأن الظلم في هذه الأشهر أشد منه في غيرها. فلنتقِ الله؛ ولا نظلم غيرنا، وننتبه من غفلتنا؛ فلا نميل لظالمٍ ولا حتى بقلوبنا. وإذا كنا قد تورطنا في ظلمٍ للآخرين فلنُسارع فوراً إلى توبةٍ نصوحٍ؛ نوقف الظلم ونمتنع عنه، ونرد المظالم لأصحابها ونطلب منهم الصفح، ونعزم على عدم الوقوع في الظلم أبداً، قبل أن يأتي يومٌ لا مرد له من الله.

اللهم لا تجعلنا من الظالمين، ولا ممن يوالون الظالمين ويرضون بظلمهم. وأعنّا اللهم على تقويم أنفسنا وإصلاح أحوالنا، واجعلنا ربنا من عبادك المُصلحين.

https://bit.ly/4fL0aVY

 

الجمعة، 27 ديسمبر 2024

تحسبهم أغنياء

 

خاطرة الجمعة /479

الجمعة 27 ديسمبر 2024م

(تحسبهم أغنياء)

 

تحت عنوان "على باب الله: يدٌ تبني"، وفي جريدةٍ مصريةٍ رصينةٍ، كتب أحد الكُتّاب الرائعين عن حياة عُمّال اليومية قبل أكثر من عشر سنواتٍ؛ فقال: الملايين من المصريين ينتظرون رزقاً قد يأتي اليوم أو لا يأتي على الإطلاق، كالطيور ينطلقون في الصباح الباكر من منازلهم بحثاً عن رزقهم الذي يُخرجه الله لهم من السماوات والأرض، داعينه سُبحانه وتعالى أن يُبارك في هذا الرزق، وأن يُتم نعمته عليهم بالصحة والعافية. أبسط تلك المهن وأكثرها انتشاراً، "الفواعلي" أو عامل البناء والهدم ومن يُطلق عليهم "عُمّال التراحيل". «صالح» واحدٌ من هؤلاء العُمّال جاء إلى «القاهرة» من «سوهاج» في أواخر الثمانينات بحثاً عن الرزق، ولكن مع غلاء المعيشة، وسوء الظروف أصبح «صالح» –على حد تعبيره- من معدومي الدخل وليس من محدوديه. وعلى الرغم من تواضع منزله يحرص «صالح» على تزيينه والحفاظ على نظافته وترتيبه قدر الإمكان.

مع فجر كل يومٍ يستيقظ «صالح» على رائحة إفطارٍ من بقايا طعام الأمس تُعده له زوجته، ثم يتوجه إلى زاويةٍ بفناء البيت، يجمع أدوات العمل "مطرقةٌ، وشاكوش، وأجَنَةٌ وأزاميل"، كانت مُتناثرةً منذ الأمس، يربطهم بحزامٍ من الكاوتش، يُعلق عليه كيساً أسود بداخله ملابس العمل، ويرفعهم على كتفه ويمضي مودعاً زوجته وأطفاله الصغار. يقوم «صالح» بالمشي عدة كيلومتراتٍ يومياً لكي يصل إلى الشارع الرئيسي لمركز «أبو النُمرس» حيث يجد أقرب وسيلة مواصلات. يحسب المصاريف التي يصرفها هو وبيته بدقةٍ شديدةٍ، ويستخدم أقل المواصلات تكلفةً حتى يصل إلى مكانِ تَجَمُّعِه مع العمال الآخرين في انتظار عملٍ قد يأتي أو لا يأتي، لذا فإن أية زيادةٍ -حتى لو كانت بسيطةً- في أُجرة المواصلات قد تُخِل بشكلٍ كبيرٍ بالميزانية التي لا تتعدى جنيهاتٍ قليلة. يستقبل «صالح» وأصدقاؤه اليوم الجديد بابتسامةٍ رغم معرفتهم بلحظات الشقاء القادمة منذ بداية اليوم وحتى آخره. على أحد الأرصفة في تقاطع شارع «نصر الدين» بمنطقة «الهرم»، أحد الأماكن التي تحتوي تجمعات العُمّال منذ سنواتٍ عديدة، يقف «صالح»، وسط أصدقائه من عُمّال البناء، لا يُدرك بالتحديد متى بدأ تجمعهم في هذا المكان؛ يقول: "منذ أن جئتُ إلى «مصر» {يعني «القاهرة»} وأنا آتي كل يومٍ إلى هذا المكان، أنتظر زبوناً أذهب معه لتكسير حائطٍ أو تحميل مواد بِناء». يشرب الشاي ويبدأ في ترقب المارة يميناً ويساراً، انتظاراً لمجيء أحد الزبائن، وسط عشرات العُمّال الجالسين على الرصيف بجانبه. لا ينحصر شقاء العمل في مهنة البناء في الجهد المبذول فيها أو كم العرق والدماء التي يُقدمها العُمّال، لكن يُضاف إليها احتمالية الجلوس لأيامٍ دون عملٍ؛ يقول «صالح»: "كل شيءٍ يتوقف على السوق والرزق، أحياناً أشتغل يوماً وعشرة أيام لا أشتغل"، ويُضيف: "تتراوح اليومية بين 30 و60 جنيهاً {وقتها} حسب صاحب العمل، بالإضافة إلى أن تفضيل الزبائن والمقاولين لعامل البناء الشاب، أصبح يُمثل مشكلةً كبيرةً للعُمّال ذوي الأعمار الكبيرة الذين يصعب عليهم مواصلة عملٍ يتطلب بذل جهدٍ بدنيٍ شاق". ويقول «صالح»: "في بعض المرات نذهب إلى مكانٍ لمُعاينة العمل ثم لا يحدث اتفاقٌ؛ فما يكون من نصيبنا إلا تحمل تكاليف مواصلات العودة".

يعمل «صالح» وكُل عُمّال التراحيل في ظروفٍ صعبةٍ للغاية، وربما على ارتفاعاتٍ عاليةٍ دون وجود أدنى مُتطلبات السلامة؛ مما يُعرضهم للكثير من الحوادث التي تُعيقهم عن أداء عملهم بعد ذلك، ولا يجدون مَن يُعوضهم. أُصيب «صالح» بحادثٍ أثناء قيامه بتكسير حائطٍ من الطوب الأحمر في ڤيلا ب«التجمع الخامس» وسقط الحائط عليه، شعر «صالح» بألمٍ شديدٍ في رُكبته اليُسرى ولم يقوَ على النهوض؛ فانتظر مكانه حتى انتبه إليه صاحب الڤيلا بعد توقف صوت التكسير؛ فقام بمساعدته وذهب به إلى مُستشفى «قصر العيني» وتركه في طُرقاتها دون الانتظار حتى لمعرفة حالته! قام الطبيب المُعالج بالمُستشفى بتخييره بين إجراء عمليةٍ لتركيب شريحةٍ في رُكبته، ما يستلزم انتظاره لأسابيع قد تمتد لشهورٍ حتى يتوفر له سريرٌ في "مأوى الفقراء"، أو أن يرفض الانتظار ولا يُصبح أمامه غير إجراء العملية بمُستشفىً خاصٍ، لم يكن أمام «صالح» مِن خيارٍ إلا الانتظار، وبالفعل أجرى العملية بعد شهرٍ، ظلت رجله بعدها في الجبس شهراً آخر، ولولا مساعدة إخوته وأقاربه لكان أطفاله الثلاثة ماتوا جوعاً؛ يقول «صالح»: "كنتُ أدعو الله أن يتوفاني أهون عليّ من أن أظل في حالة العجز التي كنتُ فيها؛ فالمرض يذل الإنسان». لم يتمكن «صالح» بعدها لشهورٍ من المشي على قدمه، يقول: "كنتُ أستخدم عصاً أتكأ عليها لأن الطبيب منعني من المشي برجلي على الأرض"، تخللت فترة ركوده جلساتٌ للعلاج الطبيعي أجراها بالمجان عن طريق أحد الأطباء.

يظل حال «صالح» وآلافٌ مثله مُعلقٌ حسب التساهيل، وسط تجاهلٍ تامٍ من الدولة، رغم أنهم لا يسعون إلا إلى الرزق الحلال، ولا يملكون أية مُهنةٍ أو حرفةٍ أخرى. في نهاية اليوم يُلملم «صالح» أغراضه مرةً أخرى ويعود ببضع جنيهاتٍ قليلةٍ ليُطعم أُسرته، ولكنه يعرف جيداً أنه قريباً لن يقوى على تحمل هذا العمل الشاق، ولا يعرف تحديداً ماذا سيفعل عندما يأتي هذا اليوم. يعود «صالح» إلى منزله بعد يوم عملٍ طويلٍ وشاقٍ ليقوم بفك حبل الغسيل الملتف حول جسده طول اليوم كحزامٍ لبنطاله المهترئ الشاهد على حياته الصعبة.

 

أحبتي في الله.. كانت هذه قصةً واقعيةً تحدث كل يومٍ لعشرات أو مئات الآلاف من هؤلاء العُمّال، الذين يعيشون بيننا، يُفضلون أن يكسبوا عيشهم بالعمل الشاق على أن يستجدوا الناس ويتحولوا إلى مُتسولين، إذا شاهدتهم (تحسبهم أغنياء)؛ تصفهم الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ﴾، يقول المُفسرون إن الله سُبحانه وتعالى وصفهم بست صفاتٍ؛ أولها الفقر بقوله ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾، والثاني قوله: ﴿أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: قصروها على طاعة الله من جهادٍ وغيره، فَهُم مُستعدون لذلك محبوسون له، الثالث عجزهم عن السفر لطلب الرزق فقال: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ أي: سفراً للتكسب، الرابع قوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ وهذا بيانٌ لصدق صبرهم وحُسن تعففهم.

الخامس: أنه قال: ﴿تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ﴾ أي: بالعلامة التي ذكرها الله في وصفهم، وهذا لا ينافي قوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ﴾ فإن الجاهل بحالهم ليس له فطنةٌ يتفرس بها ما هُم عليه، وأما الفَطِن المتفرس فمجرد ما يراهم يعرفهم بعلامتهم، السادس قوله: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ أي: لا يسألونهم سؤال إلحافٍ، أي: إلحاح، بل إنْ صَدَرَ منهم سؤالٌ إذا احتاجوا لذلك لم يُلِحّوا على مَن سألوا، فهؤلاء أولى الناس وأحقهم بالصدقات لما وصفهم به من جميل الصفات.

 

هذا هو حال كثيرٍ من العُمّال الذين لا يجدون أمامهم أية فرصةٍ للعمل بشرفٍ إلا أن يبيعوا جهدهم.. تراهم يُحسنون الظن بالله سُبحانه وتعالى؛ يوقنون بأنه هو الرزاق الكريم، وما عليهم سوى التوكل عليه عزَّ وجلَّ والأخذ بالأسباب، ولو كانت شاقةً وصعبةً.. قد تمر أيامٌ لا يطلبهم فيها أحدٌ للعمل، ومع ذلك فهم راضون بما قسمه الله لهم.. (تحسبهم أغنياء) من التعفف؛ لا يسألون الناس، ولا يستجدون، ورغم احتياجاهم يخرجون من بيوتهم للعمل الشاق ليعودوا إلى أُسرهم ببعض الطعام.. أما الثياب والعلاج والدواء ومصاريف دراسة الأبناء؛ فتلك وغيرها هي من الكماليات التي لا يستطيع مُعظمهم تحقيقها إلا في الأحلام!

 

أحبتي.. هؤلاء الناس من البشر هُم منا؛ إما أقارب أو جيرانٌ لنا، يسمع بعضنا عن معاناتهم، وربما عرف تفاصيل عن الصعوبات التي يُعاني منها أفراد أُسرهم، ثم يتجاهل الأمر كما لو أنه لا يخصه، بل ويُزين له الشيطان خذلانهم وعدم مُساعدتهم، ويُوسوس له أنهم غير مُحتاجين؛ فَهُم لم يطلبوا شيئاً!

هؤلاء إخوةٌ لنا، نحن مسئولون أمام الله سُبحانه وتعالى عن الاهتمام بشئونهم، ومُساعدتهم وتقديم العون لهم ولأُسرهم. فلو تدبرنا الآية الكريمة لعلمنا أن مَن يحسبهم أغنياء هو الجاهل؛ فهل نرضى لأنفسنا أن نكون من الجاهلين؟!

هؤلاء الناس الذين قال الله عنهم (تحسبهم أغنياء) هُم أمانةٌ في أعناقنا، علينا أن نتفقد أحوالهم، ونسأل عن أخبارهم، ونُبادر إلى إعانتهم ومُساعدتهم، لا ننتظر منهم السؤال؛ فَهُم أكرم من أن يسألوا، وأعزّ من أن يشكوا أو يُبدوا تبرماً وسُخطاً.

اللهم اجعلنا سبباً في سعادتهم، والتخفيف من معاناتهم، وإدخال السرور إلى نفوسهم وقلوبهم، وألهِمنا ربنا سُبل مُساعدتهم بما يحفظ لهم كرامتهم، واجعل اللهم سعينا هذا خالصاً لوجهك الكريم، وتقبله منا؛ إنك أنت سُبحانك العليم الخبير، وأنت على كل شيءٍ قدير.

https://bit.ly/3P9UOsu

الجمعة، 20 ديسمبر 2024

كرم الله

 

خاطرة الجمعة /478

الجمعة 20 ديسمبر 2024م

(كرم الله)

 

تقول امرأةٌ: تزوجتُ من أحد أقاربي، وكان جميع أفراد عائلتنا أغنياء حيث يملكون الشركات والمحلات التجارية والمنازل الفاخرة والكبيرة، أما زوجي فقد كانت أسرته فقيرةً جداً؛ لا يمتلكون شيئاً من ذلك، لكنه كان تقياً يخاف الله ويحرص على أداء الصلاة على وقتها. كان زوجي يعمل حارس أمنٍ لدى شركة أحد أقاربه، براتبٍ بسيطٍ جداً بالكاد يكفينا لمصاريف أسبوعين، والأمر المُحزن في ذلك أن هؤلاء الأقارب لا يتعاطفون مع زوجي، ولا يهتمون به، ولا يعتبرونه من العائلة؛ فكانوا يعاملونه كعامل حراسةٍ لا أقل ولا أكثر. وذات مرةٍ مرض زوجي ولم يستطع الذهاب إلى مقر عمله بالشركة، وغاب ثلاثة أيامٍ فقاموا بالخصم من راتبه، ولم يعترض أو يطلب منهم المساعدة لأنه من العائلة، بل تقبل الأمر وفوَّض أمره لله، وتابع العمل وكأن شيئاً لم يحدث. كنتُ أحزن كثيراً على ما يحدث مع زوجي من ذلٍ وسخريةٍ، وكنتُ أتمنى أن يترك العمل عندهم ويبحث عن عملٍ غيره في أي مكانٍ آخر. استمر زوجي في العمل معهم لمدة خمس سنواتٍ، منذ أن تزوجتُ به.

تقول المرأة: قبل عدة شهورٍ شعرتُ بالتعب والإرهاق واكتشفتُ أنني حاملٌ؛ فشعرتُ بالسعادة، فقد كنتُ أنتظر هذا الخبر السعيد منذ سنين طويلةٍ، أخبرتُ زوجي بأنني حاملٌ؛ فطار عقله من شدة الفرح، وفجأةً انقلبت ملامحه وأصبح عابساً، فقلتُ له: "لماذا تغيرت ملامحك يا عزيزي"، أجاب: "سيأتينا طفلٌ عن قريبٍ، وأنا لا أملك المال لشراء ما يلزمه"، فقلتُ له: "لماذا تحمل هَم طفلنا ورزقه سيأتي معه إن شاء الله؛ فمن يزرق الطير في السماء ليس عاجزاً عن أن يرزقنا في الأرض"، عادت إليه السعادة من جديدٍ، وشعر بالراحة، لقد كان المسكين يُفكر في رزق طفله قبل قدومه للحياة. وبعد شهورٍ حان موعد ولادتي وبدأتُ أتألم، وقام زوجي بإحضار مُمرضةٍ لتكون قابلةً لي في المنزل، وبعد ساعةٍ ونصف من المحاولات اتضح أن هناك مشكلةً في ولادتي، وقالت المُمرضة أنني لن ألد ولادةً طبيعيةً، وطلبت الذهاب إلى المُستشفى، شعر زوجي بالقلق؛ فلم يكن عندنا المال الكافي، ذهب يبحث عمن يُساعده ثم عاد فارغ اليدين، لم يجد أحداً لمُساعدته، فقلتُ له: "لا تُحمِّل نفسك هماً ولا تُتعب نفسك أكثر، سوف أتحمل وأدعو الله أن يُساعدني"، وكنتُ أكتم صوتي كي لا يسمع ويقلق أكثر، ولكن كان الألم شديداً؛ فلم يستطع زوجي أن يبقى ويُشاهد فخرج من المنزل يركض، وكنتُ أخشى أن يذهب إلى حيث يعمل بشركة أقاربه ويطلب منهم المساعدة، لكن هذا بالضبط ما حدث؛ ذهب يركض إليهم، وبعد قليلٍ عاد والدموع تنسكب من عينيه، فعرفتُ أنهم أغلقوا أبوابهم بوجهه ورفضوا طلبه، وحينها تمنيتُ من الله أن يقبض روحي ولا أرى دموع القهر والذُل في عيني زوجي. وما هي إلا لحظاتٌ حتى جاء الفرج، واستقرت حالتي، ووضعتُ بشكلٍ طبيعيٍ، وأنجبتُ طفلتي بسلامٍ، وكانت المُمرضة تنتظر المال فقال لها زوجي: "أُقسم بالله أن ثمن تعبك سيبقى دَيْناً في عُنقي، وسوف أُعطيك مالك فور توفره"، وافقت المُمرضة وتعاطفت معنا وغادرت. ثم طلبتُ من زوجي أن يقوم بتمزيق بعض الملابس وقمتُ بلفها حول الطفلة؛ لأننا لم نقم بشراء أي قطعة ملابسٍ، ثم نظرتُ إليه وسألته: "أين ذهبتَ في آخر مرةٍ؟ ولماذا عدتَ وعيناك مليئتان بالدموع؟"، أجاب: "لقد ذهبتُ إلى أقاربي بالشركة، وعندما وصلتُ وجدتُ أخاهم الصغير فطلبتُ منه أن يُعطيني المال كقرضٍ يخصمه من راتبي، فقال لي: "أنا لست مسؤولاً في شؤون قروض الموظفين، وليس لي علاقةٌ بالصندوق المالي؛ إذا كنتَ محتاجاً للمال اذهب إلى مدير الصندوق"، فذهبتُ إلى مدير الصندوق وطلبتُ منه أن يُعطيني المال كقرضٍ لكنه اعتذر وقال: "لا أستطيع أن أصرف لك شيئاً دون سند الموافقة من صاحب الشركة"؛ فذهبتُ أبحث عن صاحب الشركة فأخبروني أنه خرج منذ دقيقةٍ، ركضتُ إلى الخارج رأيته يقود سيارته، فناديته بأعلى صوتي "انتظر.. انتظر" لكنه لم يتوقف، عدتُ إلى الداخل، وكنتُ أتوسل إليهم لكي يُساعدوني ويُعطوني المال، لكن لا حياة لمن تُنادي، وحينها شعرتُ بالصدمة ثم حملتُ جسدي المنهك ونفسي المكسورة وعدتُ إلى المنزل برفقة دموعي"، فقلتُ له: "لا بأس يا عزيزي لقد تسهلت ولادتي والحمدالله ووضعتُ بالسلامة".

في اليوم التالي صلى زوجي صلاة استخارةٍ، ثم اتخذ قراراً بعدم الذهاب إلى العمل بالشركة، وتوكل على الله وذهب يبحث عن عملٍ في الأسواق، وبعد أربع ساعاتٍ عاد وهو يحمل معه الكثير من أصناف الطعام، وأحضر الكثير من مُستلزمات طفلتنا من ملابس وجوارب وغير ذلك، وكان سعيداً جداً، وكأن دعواته في ليلة القدر قد استجاب الله لها! عندما رأيتُ السعادة تغمر وجهه بكيتُ من شدة الفرح؛ لأني لم أرَ تلك السعادة من قبل. وعندما انتهينا من تناول الطعام سألته: "كيف كان نهارك؟ هل وجدتَ عملاً؟ ومن أين لك المال لشراء هذا الطعام وهذه الملابس؟"، فقال: "سأُخبرك بكل شيءٍ من البداية؛ بحثتُ طويلاً ولم أجد أي عملٍ في أي مكانٍ، ثم توجهتُ إلى سوق الخضار وهناك وجدتُ أحد أصدقائي القُدامى يعمل في تجارة الخضار فشرحتُ له سوء ظروفي وأخبرته أنني تركتُ عملي السابق، وأخبرته أيضاً عما حدث بيني وبين أقاربي وعن رفضهم لمُساعدتي عندما كنتُ في أمَّس الحاجة للمساعدة؛ شعر بالغضب وقال لي: "يا لهم من قُساة القلوب، عديمي الرحمة، إذا كنتَ أتيتَ إليّ كنتُ فديتك بروحي وليس بالمال فحسب"، ثم ناولني قلماً ودفتراً وطلب مني أن أقوم بتسجيل الكميات التي يتم شحنها للعملاء، أُسجل اسم العميل ونوع الخضار وكميته؛ فبدأتُ في العمل فوراً، وعندما أنهيتُ العمل طلب مني أن أركب معه سيارته، ثم أخذني إلى أحد المتاجر وقام بشراء جميع الملابس والمُستلزمات اللازمة لطفلتنا، وقال لي: "هذه هديةٌ لطفلتك"، ثم قام بتوصيلي إلى المنزل ودسَّ في جيبي مبلغاً من المال، وقال لي: "أراك غداً في الصباح".

لقد كانت بدايةً سعيدةً ومُبشرةً بالخير، وفي اليوم التالي ذهب زوجي إلى العمل باكراً وعاد بالخيرات معه، ثم تناولنا طعام الغداء وأخرج مبلغاً وقال لي: "هذا سنُعطيه للمُمرضة"، وكان المبلغ أكثر مما تأخذه في العادة، أخذتُ المال وذهبتُ إلى منزلها، ناولتها المال، لكنها فاجأتني عندما أقسمت أنها لن تأخذ المال، فقلتُ لها إن هذا المال من حقها؛ فهو ثمن تعبها، قالت وهي تبكي: "والله، أنني عندما خرجتُ من منزلكم في تلك الليلة قلتُ يا رب لقد تركتُ ثمن شقائي وتعبي لوجهك الكريم، لقد كنتُ أُخفي دموعي عندما رأيتُ حالكم وسوء ظروفكم، ومن أجل ذلك قررتُ أن أترك ما أستحقه من مالٍ لوجه الله، وعندما عدتُ إلى منزلي إذا بهاتفي يرن، وكان رقم المتصل غريباً، أجبتُ -وكانت المفاجأة- لقد كان المُتصل من مكتب أكبر المُستشفيات في المدينة، كنتُ قبل أربع سنواتٍ قدمتُ طلباً للعمل لديهم فطلبوا مني وقتها أن أترك لهم بياناتي ومعلوماتي الشخصية ورقم هاتفي وقالوا لي: سنتصل بكِ، انتظرتُ طويلاً دون جدوى فلم يأتني أي اتصالٍ منهم حتى فقدتُ الأمل، وحينها قررتُ أن أعمل مُمرضةً في عيادةٍ صغيرةٍ حتى فاجأوني بالاتصال الهاتفي وردهم بالموافقة على طلبي، وأصبحتُ الآن مسئولة ولادةٍ في المُستشفى". تقول المرأة: "لقد اندهشتُ من كرم الله وعطائه؛ لقد تركت المُمرضة ثمن عملها لوجه الله فأكرمها الله بتحقيق ما كانت تتمناه منذ سنواتٍ، كم أنتَ كريمٌ يا الله". تقول المرأة: "عدتُ إلى المنزل وأخبرتُ زوجي بما حدث، ولكن تفاجأت بزوجي يطلب مني أن أقوم بتجهيز أغراضنا لأننا سوف ننتقل للعيش في المدينة! فسألته: "لماذا؟ ما السبب؟"، أجاب قائلاً: "لقد طلب مني صديقي أن أنتقل إلى المدينة مع عائلتي وهناك سيقوم بإرسال الخضروات، ومن ثمَّ أقوم أنا بتوزيعها على العملاء"، فقمتُ بالتجهيزات اللازمة، وفي اليوم التالي انتقلنا إلى المدينة واستأجرنا شقةً كبيرةً، ومن هنا بدأت الحياة تبتسم لنا، وأصبحت أوضاعنا تزدهر كل يومٍ شيئاً فشيئاً، وبعد مُرور ثلاثة أعوامٍ أصبح زوجي رجلاً غنياً ويملك تجارةً خاصةً به وتغيرت حالنا بفضل الله سُبحانه وتعالى وبكرمه، ثم بفضل صبرنا على أوضاعنا في الماضي، وتوكلنا على الله وحُسن ظننا به.

 

أحبتي في الله.. ما أرحم الله سُبحانه وتعالى وما أكرمه، وما أعظم تدبيره؛ اطلع على أحوال هذه المرأة الصالحة الصابرة فعوَّض صبرها خيراً؛ فولدت ولادةً طبيعيةً وأنجبت طفلةً جميلةً، إنه (كرم الله) ولطفه بعباده الصالحين. وعَلِم ما زوجها عليه من إيمانٍ وتقوى فرزقه من حيث لا يحتسب وظيفةً مناسبةً ودخلاً متزايداً؛ وهذا من (كرم الله) وفضله. وقدَّر الله لصاحب زوجها خيراً؛ فرَزقه بشخصٍ أمينٍ يعمل لديه، شخصٍ يثق فيه وفي أمانته، أليس هذا (كرم الله) يُصيب به من يشاء من عباده؟ وهذه المُمرضة التي تنازلت عن أتعابها لوجه الله عزَّ وجلَّ لما رأت ظروف تلك المرأة وزوجها، فأبدلها ربها بدلاً من عملها المتواضع عملاً أفضل منه كانت تسعى إليه، إنه (كرم الله) الذي لا يضيع عنده العمل الصالح.

 

في أحد مواقع التواصل الاجتماعي طلب أحدهم من متابعيه أن يُحدِّثوه عن (كرم الله) معهم؛ ورداً على ذلك كتبت إحداهن: "أكرمني الله بأن جعلني مسلمةً؛ فالحمد لله، وأكرمني أن رزقني الصحة، والعلم، وحفظ كتاب الله، ورضا والدايّ عليّ، وأكرمني بصحبةٍ صالحةٍ. والحمد لله؛ نِعم الله عليّ كثيرةٌ لا تُعد ولا تُحصى".

وكتب أحدهم: "أما أنا فقد أكرمني الله بقلبٍ حنونٍ عطوفٍ، بابٍ من أبواب الجنة؛ إنها أُمي تدعو لي في كل وقتٍ وحينٍ، أنا مطيعٌ لها، تجدني دائماً على ما تحب وتفتقدني فيما لا تحب، سني جاوز الأربعين عاماً قضيتُ مُعظمها في رعاية أُمي؛ كيف لا وهي بنك الحسنات، وأفضل القربات، والسبيل الموصل لرضى رب البريات".

وكتب آخر: "كنّتُ لا أملك من حطام الدنيا شيئاً واليوم يعمل لدي عشرون شخصاً. كنتُ فرداً وأكرمني الله بالزوجة والأولاد".

أما أبلغ الردود فكان الرد التالي: "تُذنب، ثم يضيق صدرك، ثم تندم، ثم يُلهمك الاستغفار، ثم تتوب، ثم يُحوِّل سيئاتك حسناتٍ. هل هناك أعظم من هذا الكرم؟".

 

يقول أهل العلم إن الله عزَّ وجلَّ عرَّف نفسه لعباده باسمه الكريم، فجعل الكرم صفةً من صفاته، فهو من انفرد بالمُلك والغِنى، واختصّ نفسه بالسلطان والعظمة والجاه، وهو الذي يغفر لمن يعصيه، ويستر عباده الذين يطَّلع على أفعالهم، بل ويُمهلهم حتى يتوبوا عنها، وهو أيضاً مَن إذا وعد وعداً أوفى بوعده، ثمّ إنّ مَن لجأ إليه لا يضيع أبداً، ومن توكّل عليه لن يندم، وهو الذي يبسط يديه بالخيرات لعباده، وهو مالك خزائن السماوات والأرض؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾. والله سبحانه دائم التفضّل، والكرم، والإحسان، وخيره متّصلٌ في الدنيا والآخرة، وكلّ ما سواه منقطعٌ، كما أنّه يُسهِّل خيره للناس، ويُقرِّب تناوله إليهم، فلم يجعل بينه وبين عباده حجاباً، بل أخبر بقُربه واستجابته لمن يدعوه منهم؛ فقال عزّ وجلّ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾. كما أنّ الله تبارك وتعالى بصفته الكريم هو المُكرِم لعباده، فمن أكرمه الله كان مُكرَماً، ومن أهانه كان مُهاناً بلا شكّ، وهو سبحانه من كرمه لا يُبالي بمن يُعطي، لذلك يُعطي الكافرين والمتقين، وربما يزيد في عطاء الكافرين في الدنيا ليجعل الآخرة للمتقين، كما أنّه يزيد في العطاء للإنسان فوق ما يتمنّى، وقد ثبت ذلك في عطائه للمؤمنين في الجنة، فهو يُعطيهم ما يتمنّون، ويزيدهم أموراً لا يعلمونها حتى، ثمّ إنّه لشدّة كرمه يستحيي أن يردّ عبده خائباً إذا سأله، ومن مظاهر كرمه غفرانه لذنوب عباده، وتبديلها حسناتٍ، وكتابته للحسنات قبل بلوغ العبد لها، وقد جعل الله السيئة حسنةً للإنسان إذا لم يقم بها، فإذا قام بها كانت سيئةً واحدةً، أمّا الحسنات؛ فإنّها تُكتب مضاعفةٌ إذا عملها.

 

أحبتي.. يقول تعالى: ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾، ومن (كرم الله) سُبحانه أن أنعم علينا نِعماً لا تُعد ولا تُحصى؛ خلقنا وأحسن خلقنا، وجعلنا مُسلمين، ورزقنا وأطعمنا من غير حولٍ منا ولا قوة، أذنبنا ذنوباً كثيرةً وسترنا، هو الهادي الكريم، الرحمن الرحيم، كلما ضاقت علينا الدينا لجأنا إلى بابه فقبلنا ولم يطردنا، هو الرؤوف الودود الذي أسبغ علينا نعمه رغم تقصيرنا.

فليُحاسب كلٌ منا نفسه؛ هل هو من الشاكرين؟ أم من المقصرين في شكر المُنعم ذي الفضل العظيم؟ إنا جميعاً غارقون في (كرم الله) ونعمه، فلنتعاهد على إدامة شكرنا لله؛ فبالشكر تدوم النعم، يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾.

اللهم أدِم علينا نعمك ظاهرةً وباطنةً، وزدنا منها، واجعلنا ربنا من الشاكرين.

https://bit.ly/40522UE