الجمعة، 15 نوفمبر 2024

عند الله لا تضيع الودائع

 

خاطرة الجمعة /473

الجمعة 15 نوفمبر 2024م

(عند الله لا تضيع الودائع)

 

تقول صاحبة القصة: رأيتُ في منامي أحدَهم يُهاتفني ويقول لي: "هناك أُسرةٌ تحمل اسم....، نازحـ.ـةٌ، تُقيم في أحد الأزقة بوسط قطـ.ـاع غـ.ـزة، عددهم أقل من عشرة أشخاصٍ، اذهبي إليهم قبل أذان المغرب، وخُذي معكِ طرداً به مواد غذائية"، وخلال هذا الهاتف كنتُ أرى نفسي أمشي في أزقةٍ أعرفها في الحقيقة، وكأنني أُساق إلى هذه الأسرة بعلاماتٍ واضحةٍ بيّنةٍ، وقد وقع في نفسي اسم الزيتون. انتهى المنام.. واستيقظتُ صباحاً، وذهبتُ لذات المكان الذي رأيتُه في المنام، وسألتُ هناك عن تلك الأسرة بنفس المعلومات التي قيلت لي في الرؤية وبدون أي نُقصان؛ فدُلني أحدُهم عليها، وكانوا يسكنون في دُكانٍ صغير.. كنتُ أعلم يقيناً أن شراء مواد غذائيةٍ أمرٌ مستحيلٌ، فلا يوجد أي شيءٍ في الأسواق، لكنني قلتُ أذهب إلى السوق عسى أن أجد ما يسدّ جوع هذه الأُسرة، وما إن وصلتُ حتى رأيتُ ثلاث عرباتٍ كلٌ منها يعرض المواد الغذائية الأساسية -المقطوعة أصلاً منذ شهور- وبذهولٍ كبيرٍ، وبدون أي ترددٍ توجهتُ نحو تلك العربات، واشتريتُ كل شيءٍ، وعدتُ مسرعةً أُسابق الوقت لأصل إلى الأُسرة قبل أذان المغرب، وبالفعل وصلتُ مع أول تكبيرةٍ للأذان.. دخلتُ الدُكان الذي تُقيم به الأُسرة، رأيتُ أُمّاً مُقعدةً قد بُترت ساقاها، علمتُ فيما بعد أن البتر تم في أول الحـ.ـرب، كان حول الأُم أبناؤها، عندما سألتهم عن والدهم أجابوني أنه بقي في الشَمال وقد انقطعت أخباره عنهم.. سألتهم عمن يقوم على أمورهم، خاصةً وأنهم لا زالوا صغاراً، فأجابتني ابنتها: "والدي في آخر مكالمةٍ قال لنا تركتكم في ودائع الرحمن".. وقال لي أحد الأبناء: "في كل يومٍ يمر بائع العصير المثلج الذي يكفل أيتاماً ليسوا بأبنائه، فتدفعنا أُمي لشراء العصير منه لأجل أولئك الأيتام"!

يا الله.. تركهم أبوهم في ودائع الرحمن، فمن ذا الذي يضيع وهو في كنف الرحمن الرحيم وفي ودائعه؟ ليسوا سوى أطفالٍ وأمهم مُقعدةٌ، ويُقيمون في دُكانٍ صغيرٍ بين أزقةٍ في مدينةٍ مُدـ.ـمرة.. ساق الله لهم من يمشي في قضاء حاجتهم، وهُم الذين لم يُظهروا حاجتهم إلا لوجهه الكريم.. بل إن أُمهم كانت تقول لي: "يقيني بالله كبيرٌ أنه لن يُضيّعنا أبداً".. عندما انتهت زيارتي لهم وهَمَمْتُ بالخروج، إذ بي أسمع الأُم تقول: "يخطر على بالي الزيتون"، فتذكرتُ الرؤية، وأن الزيتون قد ذُكِر فيها، فقررتُ أن أعود للعربات الثلاث لأشتري زيتوناً للأُم.

وكانت المفاجأة عند عودتي للسوق لشراء الزيتون؛ إذ لم أجد أية عربةٍ من تلك العربات الثلاث، وكلما سألتُ أحدهم أين ذهبت تلك العربات التي كانت تبيع الأُرز والزيت والسُكر؟! تعجبوا من سؤالي وقالوا لي: "لا توجد أية عربةٍ تبيع هذه المواد هنا، بل إن الكثير من المواد الغذائية مقطوعةٌ تماماً منذ فترةٍ طويلة"! بحثتُ بالسوق حتى وجدتُ محلاً يبيع الزيتون؛ فاشتريتُ منه وعُدتُ إلى الأُم المُقعدة وأبنائها، وأنا على يقينٍ بأن هذه الأُسرة بينها وبين الله شيءٌ عظيم.

 

أحبتي في الله.. إنها عناية الله بهذه الأُسرة، لِمَ لا وقد كان أبوهم قد استودعهم الله، وتركهم في ودائع الرحمن، قبل غيابه عنهم، ومن كان وديعةً عند الله لا يضيع أبداً؛ فمن اليقين القول: (عند الله لا تضيع الودائع).

 

يُذكرني هذا بموقفٍ حكاه أحد الآباء قال فيه: قبل عدة أسابيع كنتُ خارجاً من المسجد ومعي أبنائي الصغار، فانطلق أصغر واحدٍ منهم يجري في اتجاه المنزل، وكان هناك شارعٌ يفصل بين المسجد والمنزل، وهذا الشارع تمر به السيارات؛ فخفتُ على ابني الصغير أن تصدمه سيارةٌ من السيارات المارة؛ فرفعتُ صوتي أُحذره من السيارات وأنا أقول له: "ثامر.. انتبه السيارات.. انتبه السيارات".. لكن ابني كان ينطلق بسرعةٍ، وتأكدتُ في تلك اللحظة أنه لن يتوقف عن الجري.. فوفقني الله إلى أن أقول وبصوتٍ عالٍ: "أستودعتك الله"، والله -الذي لا إله إلا هو- ما إن انتهيتُ من قول تلك الجملة إلا وسمعتُ صوت فرامل سيارةٍ، وإذا ابني يقف أمام مُقدمة السيارة ليس بينها وبين دهسه إلا شعرةٌ؛ سارعتُ إلى الإمساك به وضمه إلى صدري وتهدئة مخاوفه، ثم عندما وصلنا إلى المنزل كان أول شيءٍ فعلته هو أن سجدتُ لله سجدة شكرٍ أن حفظ ابني، وأن سددني ووفقني للنُطق بكلمات الاستوداع.

 

عن حِفظ الله يقول تعالى: ﴿فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾. وسمى الله عزّ وجلَّ نفسه بالحفيظ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾، يقول المفسرون إن الحفيظ هو الحافظ، يحفظ السموات والأرض وما فيهما، وهو الذي يحفظ عباده من المهالك ويقيهم مصارع السوء؛ كما في قوله سبحانه: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ أي: بأمره. ويحفظ أولياءه فيعصمهم ويحرسهم عن مكايدة الشيطان، ليسلموا من شره وفتنته، ويلطف بهم في الحركات والسكنات. إن الله تعالى لم يُسْتَودَعْ شيئاً قط إلا حفِظه، كما استودعتْ أُم موسى موسى، وكما استودع يعقوبُ يوسفَ، ودائع الله لا تضيع في السماوات ولا في الأرض؛ إذ أن (عند الله لا تضيع الودائع).

 

وكان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِذا أَرَادَ أَنْ يُوَدِّعَ الجَيْشَ قال: [أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكُمْ، وَأَمَانَتكُم، وَخَوَاتِيمَ أَعمَالِكُمْ]. كما كان عليه الصلاة والسلام يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ سَفَراً: [أَسْتَوْدِعُ اللَّه دِينَكَ، وَأَمانَتَكَ، وخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ]. ورد في شرح الحديث أن الاستيداع هو برجاء حُسن الخاتمة؛ لتكون العاقبة مأمونةً في الدُنيا والآخرة، وأن تكون الأعمال مختومةً بخير؛ فالأمر يشمل الدين والأمانات. وكل شيءٍ يحتاج الإنسان إلى حفظه، فإنه يسأل الله عزَّ وجلَّ ذلك، وهو في حق المُسافر أولى؛ لأن في السفر مشقةً وخوفاً، وهما سببان من أسباب إهمال بعض أمور الدين، والتقصير في بعض العبادات، والله عزَّ وجلَّ يحفظ على المؤمن دينه، ويحول بينه وبين ما يُفسده عليه.

ويوجهنا صلّى الله عليه وسلّم بقوله: [مَن أرادَ أن يسافرَ، فليقُلْ لِمَن يُخلِّفُ: أستودعكم اللَّهَ الَّذي لا تضيعُ ودائعُهُ]

أي يقول لِمَن يُخلِّفُ: أي لمن يتركهم وراءه، أستودعُكَم اللَّهَ: أي جعلتكم في حفظ الله وأمانته. وفي الحديث يحثّ صلّى الله عليه وسلّم المُسافر على الدُعاء لأهله وأحبابه عند سفره، فيجعلهم وديعةً عند الله تعالى، وهو سُبحانه خير الحافظين للودائع والأمانات. وكان عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه إذا عزموا على سفرٍ: [أستودِعُكَ اللهَ الذي لا يُضيِّعُ ودائِعَهُ]، وهذا يدل على مشروعية التوديع بهذه الألفاظ، وأن الله يحفظ ما استودعه. ويقول صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللهَ إذا استُودِعَ شيئًا حفِظَه]، وفي هذا تأكيدٌ على أن حفظ الله يشمل كل شيء؛ فإذا دعاه عبده بحفظ شيءٍ، وجعله وديعةً عنده، حفظه لصاحبه الذي استودعه عنده؛ فالله تعالى هو خير الحافظين.

 

يقول العلماء إن استيداع العبد لربه شيئاً هو دعاءٌ، والدعاء عبادةٌ لله تعالى، وهو سببٌ من أعظم أسباب حصول المطلوب، وقد يُقدِّر الله تعالى له إجابة دعائه، بحسب ما دعا، وقد لا يُقدِّر الله له إجابة تلك الدعوة بعينها؛ لكن متى أخلص العبد دعاءه لربه، فإنه يظفر من ذلك بأجر العبادة والإخلاص لله، ثم إن الله تعالى لم يضمن لعباده أن يُعجِّل لهم كل شيءٍ دعوه به، بل أمْرُ ذلك إلى الله؛ فإما أجابهم، وإما ادخر لهم من الخير ما يوافي ذلك، وإما صرف عنهم من الشر ما يكافئه؛ شريطة ألا يُعجِّل العبد على ربه، ولا يستحسر؛ قال النَّبِيَُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا]، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: [اللَّهُ أَكْثَرُ].

 

أحبتي.. (عند الله لا تضيع الودائع) عبارةٌ علَّق عليها أحد العلماء بقوله: استودعوا الله كلّ ما تُحبّون، اجعلوا كلّ ثمينٍ وغالٍ في قلوبكم في ودائع الله عزَّ وجلَّ، استودعوه عائلاتكم وأحبابكم وأحلامكم وأسراركم وأوطانكم، اسألوا الله أن يحفظها لكم دوماً، فهو خيرُ من حَفِظ، وأجلُّ من اؤتمن، وأعظم من استُجير به. استودعوا الله سلامة قلوبكم، ويقينكم وإيمانكم، ودينكم؛ فمن حَفِظَ الله تعالى له دِينه وسلامة قلبه حتى يلقاه سَلِم وأَمِن. سلّموا الله بيقينٍ كلّ ما لا تقوى أرواحكم على فراقه، صغيراً كان أم كبيراً، دعوه للخالق وأبشروا بالحفظ، اجعلوا كلّ شيءٍ تُحبونه وسكن قلبكم في ودائع الله، فودائع الله لن تضيع أبداً.

اللهم إنا نستودعك أنفسنا وأهلنا وأبناءنا وأحباءنا، ونستودعك ديننا وأماناتنا وخواتيم أعمالنا، ونستودعك اللهم دُنيانا التي فيها معاشنا. فاحفظ اللهم لنا ما استحفظناك، إنك سُبحانك ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾.

https://bit.ly/3O6qTkq

الجمعة، 8 نوفمبر 2024

سُبحانه يُدبر الأمر

 

خاطرة الجمعة /472

الجمعة 8 نوفمبر 2024م

(سُبحانه يُدبر الأمر)

 

يقول مَن رَوى القصة: كُنا في شهر رمضان المبارك، وقررنا -أنا وصديقٌ لي- أن نذهب إلى شاطئ البحر، في نُزهةٍ بعيدٍة نتناول السحور هناك، ثم نُصلي الفجر، ونبقى نُسبح حتى موعد شروق الشمس؛ فنُراقب كيف تبدأ الشمس في نشر أشعتها الذهبية على مياه البحر في صورةٍ بديعةٍ، ثم نعود من حيث أتينا. كان الطريق الموصوف لنا للوصول إلى ذلك المكان أبعد مما كُنا نظن، واستغرق وقتاً أكثر مما كًنا نعتقد؛ فأدركنا أذان الفجر في الطريق قبل وصولنا لمقصدنا، فتوقفنا وصلينا الفجر، وترددنا؛ هل نعود، أم نُكمل حتى نصل إلى وجهتنا؟ وجدنا أنفسنا نميل إلى المواصلة، وكأننا كُنا مدفوعين إلى ذلك؛ فواصلنا مسيرنا حتى بلغنا الموقع، فترجلتُ وصاحبي من سيارتنا، وتمشينا قليلاً فإذا بسيارةٍ قريبةٍ، بها عائلةٌ كاملةٌ، قد تعلقت في الرمل مُنذ مُنتصف الليل، وكأنما كانوا ينتظروننا؛ فقد جاؤوا مُسرعين يطلبون المُساعدة. لم يكن الأمر صعباً فقد تيسر لنا سحب سيارتهم في دقائق معدودةٍ، ولم نتركهم إلا وقد انطلقوا بسيارتهم. مكثنا بعد ذلك لوقتٍ قليلٍ، لم ننتظر شروق الشمس، وقررنا العودة.

في الطريق تعجبتُ مما حصل؛ فقد خرجنا في وقتٍ ليس من عادتنا الخروج فيه للنزهة، واخترنا موقعاً للنزهة لم نقصده من قبل، والغريب أننا رجعنا قبل الوقت المُحدد لرجوعنا وهو شروق الشمس! تدبرتُ ما حدث؛ فلم أجد سوى أن الله (سُبحانه يدبر الأمر) جعلنا سبباً لإنقاذ تلك الأسرة.

 

أحبتي في الله.. نعم إنه تدبير الله العزيز الحكيم، المُطلع على أحوال عباده، المجيب لدعائهم؛ فلربما كان لأحد أفراد تلك الأسرة دعوةٌ دعاها واستجاب لها الله سُبحانه وتعالى؛ فأرسلنا لهم كي نكون سبباً في إنقاذهم مما كانوا فيه.

نحن في أشد الحاجة لتعظيم اليقين في قلوبنا بأن لا شيء في هذه الحياة اسمه صدفةٌ، وإنما هو (سُبحانه يدبر الأمر).

 

تصديقاً لذلك هذا شخصٌ آخر يحكي لنا حكايته؛ فيقول: كان لديّ صديقٌ يعيش في محافظةٍ أخرى، علمتُ أنه مريضٌ، فقررتُ أن أعوده، وأنا أعلم كم لعيادة المريض من ثوابٍ عظيم. كانت تكلفة المواصلات التي سأحتاجها للعودة إلى منزلي أربعين جنيهاً، ولم يكن في محفظتي وقتها سوى خمسين جنيهاً، تكفي لركوب مواصلتين للعودة إلى المنزل. ركبتُ أول حافلةٍ، وعندما أوشكتُ على دفع الأجرة، فوجئتُ بظهور صديقٍ لي لم أره منذ خمس سنواتٍ يركب في ذات الحافلة، أصرّ على دفع الأجرة لي، عانقنا بعضنا وتبادلنا الأحاديث حول أمور الحياة حتى وصلتُ إلى محطتي التي أركب منها الحافلة الثانية، عندما هممتُ بركوب الحافلة، إذا بشخصٍ -يقف بسيارته بجوار الحافلة- يُناديني؛ نظرتُ إليه، فإذا به جاري الذي يسكن معنا في نفس المنزل، رآني فطلب مني الركوب معه؛ فهو عائدٌ إلى المنزل، ركبتُ معه، وأنا أتعجب مما حدث! أنزلني أمام المنزل ثم تركني وذهب للبحث عن مكانٍ يترك سيارته فيه. وبينما كنتُ واقفاً، تلقيتُ مكالمةً من زوجتي تُخبرني بأن دواءها قد نفد، وهي بحاجةٍ ماسةٍ له، شعرتُ بالانزعاج، ورفعتُ بصري إلى السماء، داعياً الله: "يا رب، أنت تعلم ظروفي، ليس معي الآن سوى خمسين جنيهاً". ذهبتُ إلى الصيدلية لأشتري الدواء؛ فتفاجأت بأن سعر عُلبة الدواء قد زاد وصار يبلغ 200 جنيه، ولأن العُلبة تحتوي على أربعة شرائط فقد طلبتُ من الصيدلي شريطاً واحداً، أخذتُه وكنتُ أسأل نفسي: "كيف كنتُ سأُدبِّر أمر دواء زوجتي لو أنني كنتُ قد دفعتُ ثمن المواصلات؟" لقد أيقنتُ أن الله (سُبحانه يُدبر الأمر). وعلى الرغم من سعادتي لأنني تمكنتُ من شراء الدواء لزوجتي، إلا أنني كنتُ أفكر في الطعام الذي سنأكله في اليوم التالي، حيث أنني صرفتُ كل ما معي. وبينما كنتُ عائداً إلى المنزل، رنَّ هاتفي، وإذا بأحد العملاء الذين ألغوا مشروعاً كنتُ سأقوم بتنفيذه له قبل ثلاثة أشهر، يُقرر استكمال المشروع، ويعدني بإرسال أول دفعةٍ من الحساب لي في الصباح! لم أتمالك شعوري؛ ووجدتُ نفسي أبكي من عناية الله عزَّ وجلَّ بي وكرمه معي، وتدبيره لأمري. عندما فتحت لي زوجتي باب الشقة، لاحظت أن عينيّ مغرورقتين بالدموع؛ فسألتني بدهشةٍ: "لماذا تبكي؟" لم أستطع الرد إلا بقولي: "هذا هو شريط الدواء، وغداً بإذن الله ستصلك العلبة كاملة".

 

يقول أهل العلم إن عبارة ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ تكررت في كتاب الله أربع مراتٍ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾. ويقول سُبحانه: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾. ويقول جلَّ جلاله: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾.

 

يقول المفسرون في معنى ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ إن الله (سُبحانه يُدبر الأمر) لجميع المخلوقات، في السماوات وفي الأرض، وهو يُحكم الأمر، ويوجد الأشياء على هذا النحو الحكيم الذي نُشاهده؛ فالله-تبارك وتعالى- هو الذي يُدبِّر شئون الدنيا وشئون جميع خلقه إلى أن تقوم الساعة، وهو الذي يجعلها على تلك الصورة المُحكمة والبديعة المُتقنة.

 

يقول الشاعر:

لا الأمرُ أَمْري وَلا التَّدْبيرُ تَدْبيري

وَلا الشُّؤونُ التي تَجْري بِتَقْديري

لِي خَالِقٌ رازِقٌ ما شاءَ يَفْعَلُ بي

أَحاطَ بي عِلْمُهُ مِنْ قَبْلِ تَصْويري

 

أحبتي.. أختم بعباراتٍ مُعبرةٍ لأحد العُلماء؛ كتب يقول: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ ذكِّر بها قلبك كلما خشيتَ أمراً أو اعتراك هَمٌ أو أصابك كربٌ، فإن أيقنتَ بها اطمأنت روحك، وكفى بربك هادياً ونصيراً. إن الله يعلم كل شيءٍ في صدرك، يعلم كل شيءٍ تتعثر في التعبير عنه، ﻻ تقلق، فقط قُل "يا رب" يُدبِّر أمرك ويُصلح حالك ويعتني بشؤونك، ويكشف عنك غمك، ويُسخِّر لك من تُحب، ويفتح لك أبواباً مُغلقةً، ويُعوضك ما كان فَقْدُه يُؤلم قلبك. ثِقْ بالله؛ فاﻷمر الذي يؤرقك، والشيء الذي تتوجس منه، يُدبِّره الله، كُن مطمئناً وﻻ تقلق. أتظن أن الله لا يعلم الأمنية التي تسكن زاوية قلبك؟ حاشاه!! رب العزة يعلمها، ولكن يُدبِّر لك الأمر حتى تأتيك أمنيتك في الوقت المناسب. لا تجزع إن لم يتحقق لك أمرٌ أنت راغبٌ فيه؛ مع الوقت ستُدرك أنه لم يكن خيراً لك؛ فعندما يُغلق الله من دونك باباً تطلبه فلا تحزن وﻻ تعترض؛ فلربما الخير لك في غلقه، وثِقْ أن باباً آخر سيُفتح لك يُنسيك همك الأول، وقتها ستُدرك معنى قوله تعالى ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ هذه الآية كفيلةٌ بأن تُضفي على نبضك هدوءً وخشوعاً مهما ضاقت بك الدنيا.

اللهم لا تدعنا لأنفسنا طرفة عينٍ فإنا لا نُحسن التدبير، عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. دبر اللهم لنا أمورنا كلها؛ فأنت سُبحانك على كل شيءٍ قدير.

 

https://bit.ly/4hHshHC

الجمعة، 1 نوفمبر 2024

ارحموا من في الأرض

 

خاطرة الجمعة /471

الجمعة 1 نوفمبر 2024م

(ارحموا من في الأرض)

 

يقول رجلٌ فاضلٌ: رأيتُ شاباً يُصلي على يساري ونحن نُصلي صلاة العشاء بالمسجد، وعقب انتهاء الصلاة صافحني بحرارةٍ ومودةٍ، لمحتُ في عينيه طِيبةً مُختلطةً بالحُزن والأسى، أحسستُ بأن بداخله شيءٌ يُريد أن يبوح به لي، عرَّفني بنفسه دون أن يذكر اسم أبيه، برغم أنني اكتشفتُ بعد ذلك أنني أعرف أباه. كان طالباً يَدْرُس بالجامعة، تبدو عليه ملامح النبوغ والتفوق برغم إعيائه الشديد، ومن باب الأدب مع أبيه أخفى عليّ اسم أبيه حرصاً على عدم تشويه صورة أبيه عند من يعرفه. قال لي الشاب في نبرةٍ مليئةٍ بالحُزن والانكسار: "طردني والدي من البيت منذ أُسبوع!"، سألتُه: "لماذا؟"، فأجابني: "لأنه قاسٍ، عفواً يا عمي، أعلم أنه أبي، وله فضلٌ كبيرٌ عليَّ، فاعفني من ذِكر اسمه، لأنك تعرفه وهو يعرفك، ولكن مهما وصفتُ لك قسوته فلن يصل وصفي إلى الحقيقة؛ فقسوته تمتد إلى أُمي وجميع إخواني وأخواتي، ليس لديه لغةٌ سوى الشتم والسب والإهانات والضرب والطرد، وكثيراً ما يحبسنا في غُرفةٍ مُنعزلةٍ فوق سطح البيت، ويُغلق علينا بابها، وبرغم هذه القسوة -وخاصةً عندما كان يحبسنا ونحن أطفالٌ صغارٌ ولا يرحم بكاءنا البريء- فإني ووالدتي وإخوتي وأخواتي نُقدِّره ونحترمه، لكنني أشعر بأن رصيده من الحُب في قلبي يتناقص، وخاصةً عندما يُهين أُمي ويشتمها ويضربها أمامي برغم أنني كبرتُ وصرتُ أدرس بالجامعة. لقد طردني والدي، وحرمني من رُؤية والدتي وإخوتي وأخواتي، وهددهم وهددني بأنه إذا اكتشف اتصالي بهم أو رؤيتي لهم فسوف يُطلِّق والدتي، ويطرد بقية إخوتي وأخواتي! لقد طردني والدي، وحرمني من رُؤية والدتي وإخوتي وأخواتي، وهددهم وهددني بأنه إذا اكتشف اتصالي بهم أو رؤيتي لهم فسوف يُطلِّق والدتي، ويطرد بقية إخوتي وأخواتي! لقد بدأتُ أشعر بالنفور من أبي، وفي الوقت ذاته أنا حريصٌ على بِره وطاعته، إرضاءً لله وخشيةً منه، مما جعلني أعيش صراعاً نفسياً يكاد أن يُمزقني، ولا أدري ماذا أفعل؟ كيف أبر والدي وهو يحول بيني وبين رؤيته؟ وكيف تراني أُمي التي تتقطع شوقاً لرؤيتي وأنا مطرودٌ خارج البيت؟! وهي تسأل: {هل يجوز لها أن تراني دون علم أبي؟ وهل في ذلك خيانةٌ كما قال أبي؟ وكيف توفق بين طاعة زوجها والتواصل مع ابنها الذي تشتاق لرؤيته ولا تتحمل فراقه؟}".

سألتُ الشاب: "وأين تنام الآن؟ وكيف تعيش؟"، فأجابني: "أنام حيناً عند بعض أصدقائي، لكنني إن نمتُ ليلةً عند أحدهم لا أُريد أن أُثقل عليه أكثر من ليلةٍ، فأبحث عن ملاذٍ آخر، وقد بِتُ ليلتين تحت سُلّم في مدخل عمارةٍ، وكنتُ أحرص ألا يراني أحدٌ؛ كي لا يحسبني لِصّاً، كما عانيتُ في هاتين الليلتين من قسوة البرد، وفي كل ليلةٍ كنتُ أتصل بوالدي وأتوسل إليه أن يردني، وأشكو إليه شدة البرد، وأنا أرتجف ولكن قلبه لم يَرقّ لي، فكنتُ أطلب وساطة بعض مَن أتوسم أنهم يؤثرون فيه كأعمامي أو عماتي أو بعض أصدقائه، فكان يرفض وساطتهم بشدةٍ، ويُعنفني ويوبخني ويتوعدني بالعقاب؛ لأنني -على حد قوله- أُقحمهم في أمورنا الخاصة، وأكشف لهم أسرار بيتنا!"، قلتُ له: "الزم بِر والدك مهما صنع؛ وعامله بالحُسنى، عسى أن يَرقّ قلبه، وأكثِر من الدعاء له بالهداية، ولا تيأس من التودد إليه، واختر رجلاً من الحُكماء المؤثرين الذين يحفظون أسرار البيوت ويمتلكون مهارات التأثير واجعله وسيطاً بينك وبين أبيك، فربما الأعمام أو العمات لا يمتلكون هذه القُدرات حتى وإن لم يستجب والدك لهذا الوسيط، فلا تيأس، وبادِر بالرجوع إلى البيت، وتحمَّل ما تلقاه من أبيك واستعدّ لذلك بالصبر، وأظهِرْ له منك كل قولٍ حسنٍ وتعاملٍ راقٍ، واضرب على أوتار عواطفه، كأن تقول له: {أنا ابنكَ يا أبي، وليس لي في حياتي أَحبَ منكَ، لو كنتُ تدري كيف كنتُ أنام في الأيام الماضية لما تركتني خارج البيت لحظةً} وتحكي له ما عانيتَه، وعاهده على طاعته وإرضائه -طبعاً فيما لا يختلف مع شرع الله عزَّ وجلَّ- واستعن بذِكر الله تعالى والدعاء، وتذكَّر بلاء الناس عسى أن يُخفف الله عنكَ بلاءك.

أنا أُدرك يا بُني نفسية الشخصية القاسية، وأعلم أنه لا يُعير الآخرين اهتماماً، ولا يُقدِّر إنسانيتهم، ولكنك إذا ذكَّرتَ نفسكَ بأجر الصبر على والدك وبِره رغم قسوته لبادرتَ إلى ذلك ولسارعتَ، ولوجدتَ في ذلك لذةً في تلك الطاعة التي تحتسبها عند ربك، وترجو ثوابه وأجره العظيم، واعتبر ذلك بلاءً واصبر عليه".

وقلتُ له أما عن أسئلة والدتك؛ فأقول لها: "اصمدي فأنتِ على الحق، ولن يُخيِّب الله جهدكِ، ولن يُضيِّع أجر صبرك، كوني شامخةً للحفاظ على أولادكِ، ولا بأس أبداً من أن يراكِ ابنكِ المطرود من البيت، وأن تحظي برؤيته دون علم أبيه، وليس في ذلك حرجٌ شرعيٌ، ولا تُثيري هذه القضية مع زوجكِ القاسي؛ لأن ذلك سيُسبب لك مُشكلاتٍ. احرصي على ضبط المعادلة العاطفية مع أولادكِ -وخاصةً البنات- فكثيرٌ من الآباء يُخطئ عندما يقسو على أولاده وزوجته، ويستقي ذلك من ميراثه الاجتماعي الذي عاشه في أُسرته الأولى، ظناً منه أنه بهذه القسوة سيُحافظ على زوجته وأولاده من الانحراف، وهو في الوقت ذاته يملك قلباً رقيقاً حنوناً، ولكن ذلك قد يأتي بنتائج عكسيةٍ؛ فكثيرٌ من الأبناء والبنات عندما تُتاح لهم الفرصة خارج البيت للحصول على الحُب والعاطفة واللين التي افتقدوها في البيت فإنهم يقعون في المحظور، وكثيرٌ من الخيانات الزوجية، والانحرافات السلوكية للأبناء والبنات يكون سببها قسوة الزوج والأب، فاحرصي أيتها الأُم العظيمة على منح أبنائكِ وبناتكِ حُباً يُعوِّض قسوة هذا الأب المُتسلط؛ حتى تحميهم من الانحراف، واصبري ولك الأجر العظيم من رب العالمين. يُمكن أن تُوسطي مَن يؤثر فيه مِن الحكماء أو الدُعاة أو المُصلحين دون أن يُعْلِمَه بأنكِ طلبتِ وساطته؛ لأن الشخصية المتسلطة القاسية لا يهمها إلا مصلحتها الشخصية، ولا يُقدِّر الآخرين وخاصةً أفراد أسرته، وأكثِري من الدُعاء له بالهداية، فكثيرٌ من الأزواج والآباء القُساة يظنون أنهم بقسوتهم هذه سيحمون أُسرتهم، وربما يحملون -رغم قسوتهم- قلوباً رحيمةً ودودة".

 

أحبتي في الله.. يقول أهل العلم إن الرحمة في أبسط معانيها، أن تملك قلباً رقيقاً عطوفاً ودوداً مُحباً للآخرين، وما كان رسولنا العظيم لينجح في إيصال رسالته -رغم ما لاقاه من تعنتٍ وصدود- إلا لكونه يملك قلباً رحيماً؛ يقول تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾، ومن أجل الرحمة بالعالمين أرسله الله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الرَّاحِمونَ يرحمُهُمُ الرَّحْمَنُ. ارحَموا مَن في الأرضِ يَرْحَمْكُم مَن في السَّماءِ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ منَ الرَّحمنِ فمن وصلَها وَصَلَهُ اللَّهُ ومَن قَطَعَها قَطَعَهُ اللَّهُ]. يقول شُرَّاح الأحاديث: "الرَّاحِمونَ"، الذين يرحمون مَن في الأرض مِن إنسانٍ أو حيوانٍ أو طيرٍ أو غيره؛ شفقةً ورحمةً ومواساةً. "يرحمُهُمُ الرَّحْمَنُ"، برحمته التي وسعت كل شيءٍ، فيتفضل عليهم بعفوه وغُفرانه وبِره وإحسانه، فالله عزَّ وجلَّ مُتصفٌ بالرحمة، وهو سُبحانه الرحمن الرحيم، الموصل الرحمة إلى عباده. (ارحموا من في الأرض)، أي: جميع مَن في الأرض مِن أنواع الخلق. "يَرْحَمْكُم مَن في السَّماءِ"، وهو الله تعالى العلي بذاته، المُستوي على العرش فوق سماواته. "الرَّحِمُ شُجْنَةٌ"، الشجنة في الأصل: عروق الشجر المشتبكة، والمُراد بها القرابة المشتبكة كاشتباك العروق؛ فمن الرحم جاءت الرحمة. "فمن وصلها"، أي: الرحم. "وَصَلَهُ اللَّهُ"، أي: أوصل الله إليه رحمته وإحسانه وإنعامه. "ومَن قَطَعَها"، أي: الرحم، "قَطَعَهُ اللَّهُ"، أي: قطع الله عنه الرحمة والإحسان والإنعام.

 

ويقول العلماء عن الرحمة والتراحم: أكثر ما يحتاج له الناس هذه الأيام هو التراحم فيما بينهم، فالرحمة والتراحم أجمل شيءٍ في الحياة، لو دخلت قلوبنا وأدخلناها في حياتنا وبيوتنا صلُحت أمورنا كُلُّها. والتراحم هو وصفٌ للمجتمع المسلم، وصف الله به أهل الإيمان؛ يقول تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾. كما أنها مخرجٌ مما نحن فيه من الهموم والمصائب والأزمات، وملجأٌ من الغموم والفتن والنكبات. والمُجتمع المُسلم كله يقوم على الرحمة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى]. والله عزَّ وجلَّ أرحم الراحمين؛ فهو الرحمن وهو الرحيم، لو فتح سُبحانه باب رحمته لأحدٍ مِن خَلقه، فسيجدها في كل شيءٍ، وفي كل موضعٍ، وفي كل حالٍ، وفي كل مكانٍ، وفي كل زمانٍ، فرحمته وسعت كل شيءٍ، كما أنه لا مُمسك لرحمته؛ يقول تعالى: ﴿مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍۢ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦ﴾. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة؛ فقد كان أرحم الناس؛ وهبه الله قلباً رحيماً، يرق للضعيف، ويحن على المسكين، ويعطف على الخَلق أجمعين. ومن علامات سعادة العبد أن يكون رحيم القلب؛ فالرحيم أولى الناس برحمة الله، وهو أحب الناس إلى الناس، والأقرب إلى قلوبهم، وهو الأحق بالجنة لأنها دار الرّحمة لا يدخلها إلّا الرّاحمون؛ يقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا رَحِيمٌ]. أما حين تنعدم الرحمة من القلوب فإنها تُصبح مثل الحجارة أو أشد قسوةً؛ يقول تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾. ويقول عليه الصلاة والسلام: [إن أبعدَ الناسِ من اللهِ القلبُ القاسِي]، أي: ذو القلب القاسي. ويقول صلى الله عليه وسلم: [لا تُنْزَعُ الرحمةُ إلا مِن شَقِيٍّ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [خَابَ عَبْدٌ وَخَسِرَ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ رَحْمَةً لِلْبَشَرِ]. إن هذه القسوة التي تُصيب القلوب هي في حقيقتها عقوبةٌ من الله تعالى لبعض عباده جزاء ما اقترفوه؛ قال أحد التابعين: "ما ضُرِب عبدٌ بعقوبةٍ أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله على قومٍ إلا نزع الرحمة من قلوبهم".

 

وعن معنى (ارحموا من في الأرض) قال الشاعر:

إِنْ كُنتَ لَا تَرحَمُ المِسكِينَ إِنْ عَدِمَا

وَلَا الفَقِيرَ إِذَا يَشكُو لَكَ العَدَمَا

فَكَيفَ تَرجُو مِنَ الرَّحمَنِ رَحمَتَهُ

وَإِنَّمَا يَرحَمُ الرَّحمَنُ مَنْ رَحِمَا

 

أحبتي.. لا أجد وصفاً لبيان كيف يُلزم كلٌ منا نفسه بمبدأ (ارحموا من في الأرض) أفضل مما ذكره عالمٌ فاضلٌ بقوله: كُن رحيماً مع جميع الخلق، لطيفاً مع كل عباد الله، وإن لم تستطع نفع إنسانٍ فلا تضره، وإن لم تُفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه، وإن لم تقف معه فلا تُعِن عليه، وإن لم تفرح بنعمته فلا تحسده، وإن لم تمنحه الأمل فلا تُحبطه. لا تكن جاف المشاعر، قاسي القلب، ولكن كُن رحيماً فالراحمون يرحمهم الرحمن، وبقدر الرحمة التي تُعطيها لمخلوقات الله من بشرٍ وحيوانٍ وطائرٍ ونباتٍ وجمادٍ يرحمك ربُ الأرض والسموات، في الدنيا والآخرة.

اللهم يا مقلب القلوب، ثبِّت قلوبنا على دينك؛ فكما يقول الحبيب المُصطفى عليه الصلاة والسلام: [ليس آدَميٌّ إلَّا وقَلبُه بين أُصبَعَينِ مِن أصابعِ اللهِ]؛ فليكن دعاؤنا: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾، وأنعِم علينا بصفتيّ: الرحمة واللين، وانزع من قلوبنا الفظاظة والغلظة والقسوة؛ إنك على كل شيءٍ قدير.

 

https://bit.ly/3NQhU6C

الجمعة، 25 أكتوبر 2024

العزم والتوكل على الله

 

خاطرة الجمعة /470

الجمعة 25 أكتوبر 2024م

(العزم والتوكل على الله)

 

وُلِد ب«المملكة العربية السعودية»، في قريةٍ صغيرةٍ ب«المنطقة الشرقية» يتردد عليها البدو الرُحَّل طلباً للماء تُسمى «الراكة». في تلك البيئة عاش الطفل الصغير البدوي مع أُسرته التي كانت تبحث بشرفٍ عن قوت يومها، وارتحل خلال سنواته الأولى في البادية، وانتقل إلى «الصمّان» شمال شرق «الرياض»، واُضطر لإعالة أسرته بعد وفاة أخيه ومرض أبيه الذي أقعده عن العمل؛ فرعى الغنم وهو ابن أربع سنين، ولم يلبس نِعالاً إلا في سن التاسعة. تلقى تعليمه الأساسي في مدرسة «الجبل» التابعة لشركة «أرامكو» وكان شغوفاً بالدراسة، إلا أنه كان مُضطراً للعمل وهو في سن الثانية عشرة؛ فعمل في شركة «أرامكو» مقابل تسعين ريالاً، إلا أنه طُرد بعد تسعة أشهرٍ، نتيجة صدور القوانين التي تحظر العمل على مَن هُم دون الثامنة عشرة؛ فاتجه للعمل في ثلاثة أعمالٍ أخرى في «الظهران»، قبل أن يعود إلى شركة «أرامكو» بوظيفة كاتبٍ مُبتدئ. بدأت قصة نجاحه بموقفٍ غريبٍ دفعه للتحدي والعزم على تغيير مسار حياته؛ فقد شعر بالعطش في يومٍ شديد الحر؛ فذهب إلى غُرفة الإدارة ليشرب رشفة مياهٍ باردةٍ تروي عطشه، فما كان من المهندس الأمريكي إلا أن نهره بشدةٍ لشُربه من المياه المخصصة للمهندسين فقط دون سائر العاملين. أثار هذا الموقف في نفسه حالةً من الغضب جعلته يعزم على مواصلة دراسته للحصول على شهادةٍ جامعية. توكل على الله وضاعف من جهده في العمل، وأبدى استعداداً خاصاً للتعلم فانتظم في دراسةٍ ليليةٍ، ثم اُختير للالتحاق بعدة دوراتٍ دراسيةٍ في الخارج، بدأت في «بيروت» حيث درس في الكلية العالمية «إنترناشونال كوليدج»، ثم في «الجامعة الأمريكية»، وتابع تحصيله بعد ذلك في «جامعة ليهاي» في «بنسلفانيا» حيث نال درجة البكالوريوس في الجيولوجيا، ثم حصل على درجة الماجستير في الجيولوجيا من «جامعة ستانفورد». عاد بعدها مهندساً، عمل بإدارة التنقيب، وأظهر قدراتٍ متميزةٍ، وحين سأله المدير العام للشركة: "لماذا اخترتَ مجال الجيولوجيا؟"، بادره بالرد: "لأني أُريد أن أُصبح رئيساً للشركة"، ما أثار إعجاب المدير، الذي قال: "يا بُنيّ، هذا أفضل جوابٍ سمعته في حياتي".

تزوج خلال فترة دراسته، ثم عاد هو وأُسرته إلى «الظهران»، وعُين جيولوجياً في قسم التنقيب والإنتاج. كان راغباً في العمل والتعلم، ولذلك اكتسب سريعاً المهارات التي تجعله ينطلق في مسيرةٍ عمليةٍ ناجحةٍ ومُتميزة؛ فعقب عودته من «الولايات المتحدة الأمريكية» كان من أكثر المرشحين السعوديين لمستوى مدير عام، وكان في الأربعين من العمر حين رُقيَّ إلى منصب مدير الإنتاج في «المنطقة الشمالية»، مسؤولاً عن 11 حقلاً من بين 15 حقلاً في «أرامكو». كما اُختير نائباً للرئيس لشؤون الإنتاج وحقن المياه. وتنقل بين مهام ومسؤولياتٍ مُختلفةٍ، وأخذ يترقّى إلى أن تولّى وظيفة النائب الأعلى للرئيس لشؤون الزيت، وكانت هذه أعلى مرتبةٍ يبلغها سعوديٌ في الشركة. انتُخب عضواً في مجلس إدارة «أرامكو»، ثم اختاره المجلس ليكون أول رئيسٍ سعوديٍ للشركة؛ فحقق بذلك حُلمه!

عاد المهندس الأمريكي، الذي سبق ونهره لشربه من المياه الباردة الخاصة بالمهندسين، عاد لمقابلته، ولكن هذه المرة كان يعمل تحت إدارته، طلب منه الحصول على إجازةٍ، ورجاه أن ينسى ما حدث بينهما قديماً، فرد عليه بأخلاق النبلاء وبتواضعٍ رائعٍ قائلاً: “في البداية أحب أن أُقدم لك الشكر من كل قلبي على منعي في ذلك اليوم من شُرب الماء البارد، صحيحٌ أنني حزنتُ وقتها كثيراً، ولكن كنتَ أنت أيها المهندس السبب -بعد الله عزَّ وجلَّ- في أن أُصبح على ما أنا عليه الآن، رئيساً للشركة"!

ثم أراد أن يتقاعد عند بلوغه الستين إلا أنه تم تعيينه وزيراً للبترول والثروة المعدنية، وتم التجديد له أكثر من مرة. وفي عهده شهدت «منظمة أوبك» تطوراً في أدائها، وأصبحت منظمةً اقتصاديةً دوليةً مُؤثرة. كان مُلخص قصته مع شركة «أرامكو» مُثيراً: "طُرد منها، ثم عاد إليها وترأسها"!

بجانب ذلك تم تكليفه بالإشراف على تأسيس «جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية»، ثم أصبح رئيساً لمجلس أُمنائها، ومُنح «وشاح الملك عبد العزيز من الدرجة الثانية» بمناسبة افتتاحها.

خلال مسيرته حصد الكثير من الجوائز وشهادات التكريم الوطنية والدولية؛ كما حصل على عددٍ من شهادات الدكتوراه الفخرية: من «جامعة هاريوت وات» في «إدنبره»، و«جامعة سول الوطنية» في «كوريا»، و«جامعة بكين» في «جمهورية الصين الشعبية»، و«جامعة العلوم والتقنية AGH» في مدينة «كراكوف البولندية»، و«جامعة ليهاي» في ولاية «بنسلفانيا» الأمريكية.

وتوثيقاً لمسيرته في الحياة والعمل، أصدر كتاب السيرة الذاتية «من البادية إلى عالم النفط» بنسختيه الإنجليزية والعربية، وعرض فيه نموذجه في تطوير الذات، وقصة ارتقائه من صبيٍ بدويٍ يرعى الغنم إلى رئيس شركة «أرامكو» وكبير إدارييها التنفيذيين، إلى أن أصبح وزيراً للبترول والثروة المعدنية بعد ذلك لمدةٍ تزيد عن عشرين عاماً. قال في مجلس شباب الأعمال إن السر وراء نجاحه يرجع أولاً إلى توفيق الله، ثم إلى (العزم والتوكل على الله) والتفاني في العمل. إنه: علي بن إبراهيم النعيمي.

 

أحبتي في الله.. يُقال إن للنجاح طُرقاً مُختلفةً، ربما أطولها وأكثرها مشقةً أن يكون المرء عصامياً، يبني نفسه بنفسه، ويصنع مستقبله ب(العزم والتوكل على الله).

 

يمدح الله سُبحانه وتعالى صفتي العزم والتوكل عليه؛ فوصف بعض رُسله بأنهم ﴿أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، ويقول تعالى بعد وصف فضائل الأعمال: ﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾، ثم بعد العزم يكون التوكل على الله؛ يقول سُبحانه: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾، وخاطب رسوله نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾، وعن التوكل عليه سُبحانه يقول تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾.

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [واسْتَعِنْ بِاللَّهِ، ولَا تَعْجَزْ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [لو أنَّكُم تتوَكَّلونَ على اللَّهِ حقَّ توَكُّلِه لرزقَكم كما يرزقُ الطَّيرَ تغدو خِماصًا وتروحُ بطانًا]. وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ].

 

ويقول العلماء إن (العزم والتوكل على الله) لهما فوائد منها: أنهما من وسائل تهذيب النفس، وتحصيل الأخلاق الفاضلة، وهما من صفات المؤمن القوي، تُعيناه على تحقيق التقوى؛ وذلك بحمل النفس على فعل المأمورات وترك المنهيات، كما أنهما من وسائل التخلص من التردد.

ومن موانع اكتساب صفتي (العزم والتوكل على الله): العجز والكسل؛ فهُما العائقان اللذان أكثر الرسول صلى الله عليه وسلم من التعوذ بالله منهما. ومن الموانع أيضاً التسويف والتمني وترك الأخذ بالأسباب، والفتور والغفلة، وتضييع الوقت وعدم الإفادة منه، وشغله بما لا يعود بالنفع، وتقديم غير المُهم على المُهم، والتهرب من كل عملٍ جديٍ، وتبرير العجز والكسل، واختلاق المعاذير، واصطناع الأسباب؛ للتخلص من أي التزامٍ، والانشغال بجزئياتٍ وتفاصيل لا قيمة لها، وترك كل عملٍ مفيدٍ ومُخططٍ له.

أما الوسائل المُعينة على تقوية (العزم والتوكل على الله) فأهمها: حُسن الظن بالله سُبحانه وتعالى في الوصول للهدف، وكثرة الدعاء، والاقتداء بأصحاب العزائم من أهل الصلاح والدِين، ومصاحبة أهل العزائم القوية والهمم العالية، والمُسارعة في العمل وعدم التردد بعد عقد العزم على الأداء، ففي ذلك يكون الخير؛ يقول تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾.

 

يقول الشاعر:

عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ

وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ

ويقول آخر:

إذا غامرتَ في شَرفٍ مَرومْ

فلا تقنعْ بما دونَ النجومْ

ويقول ثالثٌ:

وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَالِ

يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَر

ويقول رابع:

ومَن تكنِ العلياءُ هِمَّةَ نفْسِه

فكلُّ الَّذي يلقاهُ فيها مُحَبَّبُ

 

أحبتي.. لنستلهم العِبَر من قصص الناجحين، ونتعلم منهم كيف واجهوا الحياة، بإيمانٍ بالله سُبحانه وتعالى، وحُسنِ ظنٍ به، ثم بإصرارٍ لا يلين، وعزيمةٍ لا تفتر، وتوكلٍ على الله، وتفانٍ في العمل، وأخذٍ بالأسباب. ونتعلم منهم أهمية الصبر والكفاح، والتغلب على الصعاب وعدم الاستسلام لها، وتحويل المواقف المُحبطة إلى مُحركاتٍ للهمة، شاحذاتٍ للإرادة والنيةٍ، شاحناتٍ لثقتنا في أنفسنا وقدراتنا، دافعاتٍ لنا للتفوق والنجاح والإنجاز. وليعلم كلٌ منا أن الاهتمام بأعمال الدنيا -فيما هو مشروعٌ- أمرٌ نحن مطالبون به؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إنْ قامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةٌ فإنِ استَطاعَ أن لا تَقومَ حتَّى يغرِسَها فلْيغرِسْها]، فلنغرس فسائلنا ونتعهدها حتى تُثمر؛ لنكون من الفائزين بإذن الله في الدنيا والآخرة.

اللهم إنا نعوذ بك من الهَم والحَزَن، ومن العجز والكسل. ونسألك ربنا أن تُنعم علينا بقوة الإرادة وصدق العزيمة. وتُعيننا على التوكل عليك والإخلاص لك.

 

https://bit.ly/3YBun4g

الجمعة، 18 أكتوبر 2024

فرَج الله

 

خاطرة الجمعة /469

الجمعة 18 أكتوبر 2024م

 (فرَج الله)

قصةٌ واقعيةٌ وحقيقيةٌ؛ تقول امرأةٌ: توفيت أُمي عندما كنتُ في سن الرابعة؛ فتزوج والدي من امرأةٍ أُخرى، بعد وفاة أُمي بعامٍ تقريباً. وكنتُ أنا الوحيدة التي أنجبتها أُمي رحمة الله عليها.. وكان لدى المرأة التي تزوجها والدي ثلاثة أولادٍ ذُكور، سمح لهم والدي بأن يعيشوا معنا في المنزل، وتكفل برعايتهم معي، وكان يُعاملهم كما لو كانوا أبناءه، ولم أرهُ يوماً يُميِّز أحدنا عن الآخر؛ فرغم أني ابنته الوحيدة، ومن لحمه ودمه، فإن والدي لم يكن يُفرق بيني وبينهم أبداً.

تُوفي والدي بعد خمس سنواتٍ، وكشف رحيله الأقنعة التي كان يرتديها الجميع؛ حيث تغيرت مُعاملتهم لي، وأصبحتُ أتعرض للسب والضرب بكل قسوة.. لقد كانت زوجة أبي قاسية القلب، حتى أنها منعتني من التعليم، وجعلتني خادمةً لها، ولم تكن تسمح لي بالخروج واللعب مع صديقاتي، وإذا رفضتُ لها طلباً تجعلني أنام دون طعامٍ ليومين متتالين!

‏عندما أصبحتُ في عُمر الخامسة عشرة، قامت زوجة والدي بتزويجي من شابٍ فقيرٍ جداً، دون أن تسأل عن أوضاعه أو ماذا يعمل، أو إن كان شخصاً يتحمل المسؤولية، ولم تسأل عن أخلاقه ونسبه وأصله، لقد كان كل همها هو إبعادي عن المنزل؛ حتى تستولي عليه بأكمله وعلى وِرثي عن والدي. حينها لم أُعارض؛ خوفاً من أن تؤذيني، ففوضتُ أمري إلى الله وتوكلتُ عليه ودعوته أن يجعل هذا الشاب تقياً رحيماً وحنوناً وودوداً بي؛ فأنا ضعيفةٌ ووحيدةٌ في هذه الدنيا. تزوجتُ، ولم تُقِم لي زوجة والدي مراسم زفافٍ مثل غيري من الفتيات! عوضني ربي عن ذلك كله بزوجٍ مؤمنٍ ملتزمٍ يتقي الله، انتقلتُ معه إلى منزله، وكان المنزل جميلاً جداً وكبيراً ومُرتباً؛ فاستغربتُ وتساءلتُ في نفسي: "كيف يملك كل هذا وهو فقيرٌ؟"، وبعد مرور عامٍ واحدٍ تفاجأتُ به يُخبرني أننا سننتقل إلى منزلٍ آخر، فسألته: "وماذا عن هذا المنزل؟ أليس هو مِلكك؟"، أجاب: "إنه ليس مِلكي، وإنما مِلك صديقٍ لي يعيش في الخارج، وسيعود الآن هو وأُسرته للعيش في منزله!"، فقلتُ: "لا مشكلة". في اليوم التالي انتقلنا إلى المنزل الحقيقي، لكني صُدمتُ حين رأيتُ المنزل؛ حيث كان عبارةً عن خرابةٍ ومنزلٍ حيطانه من القُماش والكراتين! نظرتُ إلى زوجي فوجدته يبكي، فسألته: "لماذا تبكي يا عزيزي؟"، فقال: "لأنني لم أُخبرك بالحقيقة منذ البداية أن ذلك المنزل ليس منزلي. كنتُ أُريد إخبارك بالحقيقة، لكني خِفتُ أن تتركيني وتعودين إلى منزلك"، فقلتُ له: "لا مشكلة لديّ أن نعيش في خرابةٍ، ما دُمنا سعيدين معاً". مرت الأيام، وبدأتُ أتأقلم على العيش في ذلك المنزل، وصبرتُ على هذا الوضع، وأدعو الله في كل صلاةٍ أن يُفرِّج عنا ما نحن فيه. مرَّت عدة سنواتٍ عشنا فيها بهذا المنزل المُتهدم غير الصالح للعيش، أنجبتُ خلالها أربع فتياتٍ، وكانت أوضاعنا تزداد سُوءاً يوماً بعد يومٍ؛ فقد أصبح زوجي لا يعمل، ويعود أغلب الأيام من الخارج فارغ اليدين، ومع ذلك كُنا صابرين، ندعو الله أن يفك كربنا، ويُفرِّج همنا. وفي ليلةٍ لا أنساها، كُنا نائمين بأمانٍ، فإذا بعاصفةٍ شديدةٍ، وبرقٍ ورعدٍ يخلع القلوب، وأمطارٍ تهطل بغزارةٍ مصحوبةً بريحٍ قويةٍ جداً، لم يتحملها منزلنا الضعيف فانهار وسقط فوق رؤوسنا، لكن -والحمد لله- لم نتعرض لأية إصابةٍ، لكننا صِرنا بلا مأوى وأصبحنا في العراء.. انتظرنا حتى توقف سقوط الأمطار وهدأت الريح وصفت السماء وأشرقت الشمس، وقُمنا بمحاولة إعادة المنزل إلى الحالة التي كان عليها قبل العاصفة، لكنه صار أسوأ كثيراً من حالته السابقة، صَبَرنا ولم نيأس من (فرَج الله) الذي يعد به عباده الصابرين. ليلةٌ أخرى لا تُغادر ذاكرتي أبداً؛ عندما عاد زوجي من الخارج حزيناً، ففهمتُ من تعابير وجهه أنه لا يمتلك المال لشراء الطعام، فقلتُ له: "لا تحزن يا عزيزي؛ يوجد لدينا بقية طعامٍ من وجبة الغداء"، ولأنه كان ينقصنا الخبز؛ لبستُ نقابي وذهبتُ أبحث عند الجيران عمن يُعطينا بعض كِسراتٍ من الخبز أو يُقرضنا المال لنشتري الخبز، فطرقتُ جميع أبواب الجيران، ولكن لا فائدة؛ فالكل كان يعتذر. شعرتُ وقتها أن قلبي يتمزق قهراً على أطفالي؛ خاصةً أن إحدى بناتي مريضةٌ؛ فجلستُ أمام المنزل من الخارج، وانفجرتُ بالبكاء، بكيتُ حتى جفت دموعي ثم دخلتُ، وعندما رأيتُ أطفالي ينظرون إليّ على أمل أن أكون قد عدتُ إليهم بالخبز؛ لم أستطع أن أحبس دموعي، فبكيتُ وقلتُ لهم: "سامحوني يا بناتي؛ لم أستطع توفير الخبز لكم، إنني أعتذر؛ سوف تنامون الليلة دون عَشاء". لم أكد أُنهي حديثي وإذا بشخصٍ يطرق الباب، فخرج زوجي وتحدث معه، وبعد ثوانٍ عاد زوجي وقال لي: "هيا بنا سوف نذهب"، فسألته: "إلى أين؟ ما المشكلة؟"، فقال: "زوجة أبيك تُوفيت منذ ثلاثة أيامٍ، وأراد أولادها الثلاثة بيع المنزل، وبما أنهم لا يملكون وصيةً من أبيكِ أو أوراقاً قانونيةً تُثبت أنهم مالكو المنزل الذي يُحاولون بيعه؛ فقد تم القبض عليهم وإيداعهم بالسجن، وهذا جارٌ لكم يُريد منكِ أن تذهبي لاسترداد المنزل الذي هو حقك ووِرْثك من أبيك"، بكيتُ فرحاً، وذهبنا وتسلمتُ الوِرْث، وانتقلنا للمعيشة في المنزل الذي عِشتُ فيه طفولتي. وكان لدى والدي أرضٌ بجانب المنزل؛ فقمتُ ببيعها، وعملتُ مشروعاً صغيراً لزوجي، وأدخلتُ بناتي إلى المدرسة، وقمتُ بمعالجة ابنتي المريضة، وتحسنت حالتنا خلال أيامٍ قليلة، والحمد لله رب العالمين.

أحبتي في الله.. إنه (فرَج الله).. يأتي بعد الصبر والشكر والقناعة والرضا بالقليل، ويأتي بالإخلاص في الدعاء وحُسن الظن بالله، واليقين التام بتحقق وعده لعباده الأتقياء. وكم من آيةٍ في كتاب الله تُبشر بالأمل؛ يقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾. ويقول تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾. ويقول سُبحانه: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾. ويقول أيضاً: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ﴾. كما يقول: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾. ويقول كذلك: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، وعن هذه الآية تحديداً يقول المفسرون إنها بشارةٌ عظيمةٌ؛ فكُلما وُجد عُسرٌ فإن اليُسر يُقارنه ويُصاحبه، حتى لو دخل العُسر جُحر ضَبٍ لدخل عليه اليُسر فأخرجه، وتعريف "العُسر" يدل على أنه واحدٌ، وتنكير "اليُسر" يدل على تكراره، فلن يغلب عُسرٌ يُسرين.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [تعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يعرِفْك في الشِّدَّةِ، واعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ على ما تكرهُ خيرًا كثيرًا، واعلَمْ أنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ، وأنَّ الفرَجَ مع الكرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [يقولُ اللَّهُ تَعالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي]. وورد في الأثر "انتظارُ الفرجَِ من اللهِ عبادةٌ".

 

إنه الفرَج بعد الشدة؛ الذي يصفه أحد العلماء بقوله: بعد الجوع شبعٌ، وبعد الظمأ ريٌّ، وبعد السهر نومٌ، وبعد المرض عافيةٌ. سوف يصل الغائب، ويهتدي الضالّ، ويُفَكّ العاني، وينقشع الظلام. بشِّر الليل بصبحٍ صادقٍ سوف يُطارده على رؤوس الجبال ومسارب الأودية، بشِّر المهموم بفرجٍَ مُفاجئٍ يصل في سرعة الضوء ولمح البصر، بشِّر المنكوب بلطفٍ خفيٍّ وكَفٍّ حانيةٍ وادعة. إذا رأيتَ الصحراء تمتد وتمتد، فاعلم أن وراءها رياضاً خضراء وارفة الظلال. إذا رأيتَ الحبل يشتد ويشتد، فاعلم أنه سوف ينقطع. مع الدمعة بسمةٌ، ومع الخوف أمنٌ، ومع الفزع سكينةٌ. فلا تُضق ذَرعاً، فمن المُحال دوام الحال، والأيام دُوَلٌ، والدهر يتقلّب، والليالي حُبلى، والغيب مستورٌ، والعُسر قادمٌ بعد كل عُسر.

 

وقال الشاعر:

وَلَرُبَّ نازِلَةٍ يَضيقُ لَها الفَتى

ذَرعاً وَعِندَ اللَهِ مِنها المَخرَجُ

ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها

فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ

وقال آخر:

لطائفُ اللهِ وإن طالَ المدى

كلمحةِ الطَّرفِ إذا الطَّرفُ سجى

كم فَرَجٍ بَعْدَ إياسٍ قد أتى

وكمْ سرورٍ قد أتى بَعْد الأسى

وقال ثالث:

عَسى فرَجٌ يكونُ عَسى

نُعللُ النَفْسَ بِعَسى

فلا تَجْزَع إنْ حُمِّلتَ

هَمّاً يَقطعُ النَفَسا

فأقربُ ما يكونُ المَرءُ

مِن فرَجٍ إذا يئِسا

 

أحبتي.. أختم بهذا الاقتباس: "إن الشدائد –مهما تعاظمت وامتدت- لا تدوم على أصحابها، ولا تخلد على مُصابها، بل إنها عندما تكون أقوى ما تكون اشتداداً وامتداداً واسوداداً، تكون في الواقع أقرب ما تكون انقشاعاً وانفراجاً وانبلاجاً، عن يُسرٍ، وفرَجٍ وهناءةٍ، وحياةٍ رخيَّةٍ مُشرقةٍ وضّاءة، فيأتي العون من الله والإحسان عند ذُروة الشدة والابتلاء والامتحان، وهكذا فإن نهاية كل ليلٍ غاسقٍ هي البداية لفجرٍ صادق".

صدق من قال: "ما بينِ غمضةِ عَيْنٍ وانتباهتها، يُغيّرُ اللهُ من حالٍ إلى حالِ".

اللهم يا مُغيِّر الأحوال غيِّر أحوالنا إلى أحسن حالٍ، واكتب لنا حُسن المآل. اللهم اجعلنا من المُتقين الصابرين عند ابتلائك، الشاكرين عند نِعَمَك وآلائك، الذين يُحسنون الظن بك، ويُوقنون بصدق وعدك، ورحمتك ولُطفك بعبادك المُحسنين، وفرَجك لهم.

 

https://bit.ly/3Y9PoBK

الجمعة، 11 أكتوبر 2024

إنها الأُم

 

خاطرة الجمعة /468

الجمعة 11 أكتوبر 2024م

(إنها الأُم)

 

يقول صاحب القصة: عن أُمي أتحدث، أبي لم يكن يُحبُها، ليست هذه هي المشكلة، المشكلة تكمن في أنه كان حريصاً على نقل ذلك الشعور لها! أتَذَّكّر في طفولتي أنه كان يُقارن بينها وبين نجمات الإعلانات ويسخر منها، كانت أُمي تبكي لكنها ما أبكتني أبداً، بل كلما كان أبي يُحزنها كانت تضمّني إلى صدرها. طالما حكت لي أن أُمها ماتت وهي صغيرةٌ، وأنها رُبيت مع زوجة أبيها. وكانت تحكي لي القصص، وكنتُ أستمتع كثيراً بحكاياتها. أما أبي فقد كان عصبياً للغاية، وكان يُعاير أُمي دوماً بأن ليس لها مكانٌ تلجأ إليه؛ لأن أباها وزوجته لن يفتحا بابهما لها، فكانت تبكي ولا ترد. كان أبي مُدخناً شرهاً، وأُمي أخبرتني أن السجائر مُضّرةٌ، بل وحرامٌ؛ فالمدخن يدفع نقوداً ليؤذي نفسه ويُضيّع صحته، وأن عليَّ أن أدعو لأبي أن يتوقف عنها. لم يكن أبي يُصلي، بينما كانت أُمي تُصّلي، وتقول لي: "أُدعُ لأبيك". وأخبرتني أُمي أن الله غفورٌ رحيمٌ، ويُسامح المخطئ؛ فأحببتُ الله.

كانت أُمي تقول لي دوماً إننّي كاتم أسرارها. سألتها يوماً: "لماذا لا تضربيني؟"، اغرورقت عيناها بالدمع وقالت لي: "أضربك؟! أضرب الإنسان الوحيد الذي لو دعا لي بعد أن أموت يرفع ربنا درجاتي؟!"، لم أفهم يومها ما تعنيه، لكني فرحتُ، شَعَرتُ أن العلاقة بيني وبين أُمي قويةٌ؛ كانت تُربيني للآخرة؛ طالما حدثتني عنها.. كنتُ أقول لها: "لكن صاحبي فلان لا يُصّلي وناجحٌ في حياته!"، فكانت تقول: "الدنيا للكل، لكن الآخرة هي فقط لمن يتقي الله؛ يقول سُبحانه وتعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾". كانت تُذَكّرني يوم الجُمعة بقراءة سورة الكهف، وبالإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم.. وكانت تنتظرني عند باب المسجد منذ كان عمري سبع أعوامٍ، وتقول لي ونحن عائدان من صلاة الجمعة: "لا تنساني عندما أموت، وأنتَ راجعٌ من الصلاة تدعي لي حتى تُخبرني الملائكة بذلك"... كان إيمانها بالله عظيماً.

‏سمعتُ أبي يوماً يصيح: "سأتزوج"، ردت أُمي في أسىً: "اِفعل ما يُريحك"، وفعلاً تزوج أبي إنسانةً عجيبةً! وأصبحنا لا نراه ولا يُنفق علينا؛ فبدأت أُمي تصنع التورتات وتقوم ببيعها للمعارف... بكيتُ وقلتُ لها: "لا تفعلي ذلك"، قالت في إصرار: "الحلال ليس عيباً". لم تقل يوماً: "أنا أتعب من أجلك". بدأ مشروعها يزدهر، وكنتُ أُساعدها أحياناً، لم تمن عليَّ يوماً بتعبها بل كانت دائماً مبتسمةً راضيةً! طَلَّق أبي زوجته، وعاد ليفضحنا ويتشاجر مع الزبائن؛ فكانت أُمي تبكي وتعتذر لهم.. مكث أبي معنا شهراً ثم تزوج بأخرى! طلبتُ من أُمي وأنا في الإعدادية أن تُفارق أبي، طبطبت عليّ قائلةً: "آسفةٌ أني وضعتك في هذا الموقف؛ كنتُ أتمنى لك أن تنشأ بين أبوين مُستقرّين"، قلتُ بحرارةٍ: "هذا ليس ذنبك، أنا أعرف ذلك"، قالت لي: "نصبر سنةً أخرى، عسى الله يهديه".

كنتُ مُجتهداً وأُصّلي، وأُمي تدعو لي، لم أترك الصلاة يوماً؛ لأنها قالت لي: "إنها روح المؤمن"... وفي الوقت الذي كانت أمي تُحَسِّن فيه مِن دَخْلها، كان أبي -سامحه الله- يتهجم عليها ويطلب نقوداً، ورغم ذلك، أذكر أنها كانت تقول لي: "لا تقاطع أباك... الأب أبٌ، أُدعُ له. ولو كثرت همومك عليك بالصلاة؛ إنها الحبل بينك وبين ربك". لا أنسى أبداً كلماتها. كانت تُضاعف مجهودها من أجل تدبير مصاريف دراستي، ولم أخذلها؛ حصلتُ على مجموع 97٪؜ في الثانوية العامة، رأيتُ يومها الفرحة تقفز في ملامحها، ورأيتها تسجد لله شاكرةً... وتصدَّقَت بهذه المناسبة. التحقتُ بكلية طب الأسنان، اصطحبتني أول يومٍ وتركتني عند باب الكلية... لم تُلاحظ أنني تأملتها عبر السور... كانت مبتسمةً فرحةً وقد تعلق بصرها على لوحة الكلية "كلية طب الفم والأسنان". أقسمتُ ألا أخذلها أبداً، عدتُ من الكلية لأجد أُمي ليست بالمنزل، شعرتُ بالقلق، ثم عادت مُرهقةً بعد قليلٍ، علمتُ أنها تقيأت دماً وذهبت للكشف عند الطبيب. ثم جرت الأحداث بسرعةٍ؛ تدهور حال الكبد، احتضنتني كما عودتني وقالت: "لا تنسَ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال إن المبطون شهيدٌ، وأرجو أن أكون كذلك"، حضنتُها وحضنتني وقالت: "الموت علينا حقٌ، والرسول صلى الله عليه وسلم مات، هذا مصير كل بَني آدم"، انفجرتُ باكياً قائلاً: "ليس لي غيرك"، قالت: "لك الله، إياك أن تخسر إيمانك".

قَلّ عملها بسبب مرضها ونفقاته، ورغم حزني فقد كنتُ أُساعدها؛ حيث بدأتُ أُطبّق ما تعلمته منها، وأصنع التورتات، وهي تدعو لي، وتُحذرني من إهمال الدراسة... لكنّ الله وفقني؛ فجمعتُ بين عملي ودراستي وأكملت. لم أُحرج وأنا بكليتي من العمل؛ فقد كنتُ أتذكر كلماتها عن العمل الحلال، وكنتُ أدعو لها ألا تموت... وكنتُ أجلس لآكل معها من طعامها الخالي من الملح والدسم؛ فتُرَبتُ على كتفي بحنان. في عامي الثاني بالكلية، وفي ليلةٍ من ليالي رمضان ماتت أُمي، دخلتُ لأوقظها ساعة المغرب فوجدتها قد ماتت... احتضنتها وسالت دموعي، ماذا أفعل وليس لي أحدٌ، وعمري 19 عاماً؟ تذكرتُ الله وتمتمتُ: "انجدني يا رب، أعلم أنك معي دائماً ولن تتركني وحدي". أتت جارتنا وزوجها وأبناؤها،

ساعدني الجميع، وصلّى على أُمي كثيرون في المسجد الذي كانت تُرافقني فيه لصلاة الجمعة وأنا طفل. لم يتركني جيراني؛ فرغم أننا لم نكن على علاقةٍ قويةٍ معهم- كانوا يومياً يطرقون بابي، ويرسلون لي الإفطار. مكثتُ شهراً لا أهنأ بنومٍ، ثم تذكرتُ كلماتها لي: "أنتَ عملي الممتد" فأقسمتُ بالله أن أَصْدُق ظن أُمي فيّ ولا أخذلها. ما عاد أحدٌ يحتضنني، لكني سأحتضن الأيتام والمساكين والمحتاجين. استمررتُ في صناعة التورتات، ونجحتُ دراسياً... وأصبح لي مشروعٌ، ومشروعي يزدهر، وسميته باسم أُمي.

أكتب الآن، بعد مرور عدة سنواتٍ، وتخرجي من كلية طب الأسنان، وفتح عيادتي الخاصة، وزواجي بزوجةٍ طيبةٍ مُتدينة. تحسّنَت أحوالي وأصبح لديّ -إلى جانب العيادة- مشروع الحلويات الذي تُشرف عليه الآن زوجتي وعددٌ من صديقاتها. أتصدّق عن أُمي وأدعو لها دائماً، خاصةً بعد كل صلاةٍ، وأقول: "اللهم اغفر لها، واجعل مثواها الجنة، اللهم أنر قبرها واجزها بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً". أتصدق على المحتاجين، وأتذكر لجيراني وقفتهم إلى جواري. رزقني الله بزوجةٍ طيبةٍ مُتدينةٍ.. ثم رزقني منها بولدٍ صالحٍ بإذن الله؛ «حمزة»، الذي أول ما أجاد الكلام علمتُه الدعاء لي ولأُمه وأُمي.. أحرص على أن أصطحبه للصلاة معي في المسجد، وأحكي له عن انتظار أُمي لي على باب المسجد. أزور أبي على فتراتٍ، طاعةً لربي، وبِراً واحتراماً لذكرى أُمي ووفاءً لطلبها مني. أحُب زوجتي، أُقدّرها وأحترمها وأُحسن معاملتها، كما كنتُ أتمنى أن يُقدِّر أبي أُمي. أعامل «حمزة» كما عاملتني أُمي بحبٍ واحترامٍ، وأقول له إنه عملي الممتد. الحمد لله أديتُ فريضة الحج عن نفسي ثم عن أُمي... حلمتُ بها فَرِحَةً مُتهللةً تقول لي: "ألم أُخبرك يا ولدي أنك عملي الممتد؟!".

 

أحبتي في الله.. (إنها الأُم).. المؤمنة التقية الصابرة المكافحة.. أحسنت تربية ابنها؛ فصار وفياً لها، يدعو لها باستمرار ويتصدق ويحج عنها، ويحرص على معاملة زوجته بالحُسنى، وتربية ابنه تربيةً صالحة.

لا يخفى على أحدٍ مكانة الأُم في الإسلام، فهي من الوالدين الذين قال عنهما سُبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾، وهي -أي الأُم- التي خصها سُبحانه بقوله: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾، وقال أيضاً: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.

(إنها الأُم) التي عندما جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: [أُمُّكَ]، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: [ثُمَّ أبُوكَ]. وعندما جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردتُ أن أغزو، وقد جئتُ أستشيرك، فقال: [هَلْ لَكَ مِن أُمٍّ؟] قال: نعم، قال: [فالزَمْها فإنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْها]. وفي روايةٍ: قال: [وَيْحَكَ أَحَيَّةٌ أمُّكَ؟] قلتُ: نعم يا رسول الله، قال: [وَيْحَكَ الزَمْ رِجْلَها فَثَمَّ الجَنَّةُ].

 

ومن جميل ما قرأتُ ما قاله أحد العلماء، كتب يقول: (إنها الأُم)، وصى ببرها الرحمن، وتحت أقدامها الجنان، البِر بها مفخرة الرجال، وأفضل الخصال، كم حَزَنْت؛ لتفرح، وجاعت؛ لتشبع، وبكت؛ لتضحك، وسَهِرَت؛ لتنام. (إنها الأُم) المخلوق الضعيف الذي يُعطي ولا يطلب أجراً، ويبذل ولا يأمل شكراً. حَمَلَتْك في بطنها وهناً على وهن. صُورَتُك أبهى عندها من البدر، وصوتك أعذب عندها من تغريد البلابل وغناء الأطيار، وريحك أطيب عندها من أجود الأطياب. صاحبة القلب الرحيم، واللسان الرقيق، واليد الحانية، العيش في كنفها حياة، والبُعد عنها أسىً وحرمان. طوبى لمن خفض لها الجناح، وحرص على خدمتها كلما غدا أو راح، وقابلها ببشاشةٍ كل مساءٍ وصباح. من أراد عظيم الأجر والثواب، فليعلم أن الأُم بابٌ من أبواب الجنة عريض، لا يُفرِّط فيه إلا من حَرَم نفسه، وبخس من الخير حظه. (إنها الأُم) رمز التضحية والفداء، والطُهر والنقاء. ويتأكد البِر بالأُم إذا ذهب شبابها، وعلا مشيبها، ورقّ عظمها، واحدودب ظهرها، وارتعشت أطرافها، وزارتها أسقامها، في هذه الحال من العُمر، لا تنتظر صاحبة المعروف والجميل من ولدها إلا قلباً رحيماً، ولساناً رقيقاً، ويداً حانيةً، فطوبى لمن أحسن إلى أُمه في كبرها! طوبى لمن شمَّر عن ساعد الجد في رضاها، يا أيها البار بأُمه تمثل قول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾، تَخَلَّق بالذُل بين يديها بقولك وفعلك، لا تنادِها باسمها؛ بل نادِها بلفظ الأُم؛ فهو أحب إلى قلبها، لا تجلس قَبْلها، ولا تمشِ أمامها، قابلها بوجهٍ طَلقٍْ، وابتسامةٍ وبشاشةٍ، تشرَّف بخدمتها، وتحسس حاجاتها، إن طَلَبَت فبادر إلى تنفيذ طلبها، وإن سقمت فقُم عند رأسها، أَبْهِج خاطرها بكثرة الدعاء لها، لا تفتأ أن تُدخل السرور على قلبها، قدِّم لها الهدية، وزف إليها البشائر، وإن كنتَ بعيداً عنها فأكثِر من الاتصال بها وأبلغها بشوقك إلى لُقياها، ولا ترفع صوتك عليها وأنت تخاطبها، واعلم أنه تجب عليك صِلتها وبِرها وحُسن صحبتها ولو كانت كافرةً، مع عدم طاعتها في المعصية؛ يقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾.

 

أحبتي.. مهما كتبنا عن الأُم فنحن مُقصرون، ومهما تصورنا أننا وصفنا حنانها وطيبة قلبها وتضحياتها من أجلنا فنحن واهمون، ومهما فعلنا لنرد جميلها فلن نجزيها جزاءً يُقابل تفضلها وإحسانها؛ فهي التي قاست أشهر الحمل، وعانت آلام الولادة، وسهرت، وأرضعت، وربَّت، وتحملت الكثير والكثير من أجلنا، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

فلنتواصى أحبتي بالمُسارعة إلى بِرّ أُمنا إن كانت حيةً، والإحسان إليها، وطاعتها في غير معصيةٍ.

أما إن كُنا حُرمنا وجودها معنا فلنُلزم أنفسنا بدوام الدعاء لها، والتصدق عنها؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا مات الإنسانُ انقطَعَ عنه عَمَلُه إلَّا مِن ثلاثةٍ: إلَّا مِن صَدَقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتَفَعُ به، أو ولَدٍ صالحٍ يدعو له]. وكذلك مِن بِرِّ الولد بوالديه بعد وفاتهما صِلةُ أقربائهما وأصدقائهما.

وأما إن كان مِنا مَن هو عاقٌ لأُمه، فليعلم أنه في مُصيبةٍ كبيرةٍ، وعلى خطرٍ عظيمٍ، وعليه أن يتدارك أمره الآن الآن وليس غداً؛ فيصل ﴿مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾، ويطلب صفح أُمه ومسامحتها ورضاها، ويُعوضها ما قد فاتها من بِره وإحسانه.

اللهم أعنّا على البِر بوالدينا وخاصةً الأُم، ويسِّر لنا سُبل إرضائها وإسعادها، والإحسان إليها، ومصاحبتها بالمعروف.

https://bit.ly/3Yhrcia

الجمعة، 4 أكتوبر 2024

الرفق جوهرة

 

خاطرة الجمعة /467

الجمعة 4 أكتوبر 2024م

(الرفق جوهرة)

 

كتب أحدهم يقول: كنتُ طفلاً في السابعة من العُمر عندما سمعتُ عن طلاق عمتي، ومجيئها للإقامة في بيتنا.. توقعتُ أن أرى إنسانةً حزينةً من ردود أفعال أمي، لكن المفاجأة أن عمتي كانت مبتسمةً. عندما كبرتُ عرفتُ أن زوجها طلَّقها لعدم إنجابها، أما هي فلم تكن ناقمةً حتى عليه؛ كانت تقول في ثقةٍ: "الحق معه.. هو محتاجٌ للخِلفة"!

أُمي كانت تُصاب بارتفاع ضغط الدم لأن عمتي ليست ناقمةً على زوجها الذي طلَّقها.. لكن عمتي كانت تقول جملةً غريبةً (الرفق جوهرة).. لم أكن أفهمها لكني مع الوقت فهمتُ.

عمتي إنسانةٌ رقيقةٌ رفيقةٌ تربت على التماس الأعذار، وأن الرفق بالآخرين هو أهم شيءٍ. كانت تعاون أُمي في تربيتنا؛ تحكي القصص، وتُساعد في الرعاية بلا أية عصبيةٍ.. وعندما كانت أُمي تجري ورائي لتضربني كانت عمتي تقول لها: "هذا سندك، حد يضرب سنده؟"؛ فتتراجع أمي..

طالما أحببتُ عمتي رغم أنها من ناحية الشكل ليست بالجميلة.. والمدهش أن زوجها بقي يتواصل، ويُريد إعادتها إلى عصمته، وكان قد أنجب من زوجةٍ أخرى، لكن عمتي اعتذرت. سمعتُه يقول لها: "أُريدك أن تُربي أبنائي"، لكنها ردت عليه: "الله يوفقك".

أُمي الغالية كانت عصبيةً، وعمتي كانت هادئةً.. أصاب أُمي مرضٌ احتاجت معه إلى ملازمة المُستشفى، وعمتي قامت برعايتنا أثناء غيابها، وكانت تقول دائماً هذه العبارة (الرفق جوهرة)! وفهمتُ أنها تعني الهدوء.. لا تضرب ولا تنفعل ولا تُعادي. كانت تقول: "إن الإنسان أحوج مخلوقٍ إلى الرفق".

ولا أنسى عندما كادت إحدى أشجار حديقتنا أن تموت فعطفت عمتي عليها واهتمت بها؛ حتى عادت إلى النمو.

عمتي هي التي علمتني الصلاة؛ سألتها يوماً: "أليس ربنا عظيم؛ طيب لماذا يحتاج منا الصلاة؟ بماذا ستنفعه؟"، ردت بهدوء: "الذي يتصل بمَلِك المُلوك هو الذي يستفيد وليس المَلِك، يا صغيري نحن نصلي من أجل أنفسنا.. نحن الذين نحتاج إلى الصلاة".

كان أخي يتحدث دائماً بصوتٍ عالٍ، وكانت تقول له: "أحب صوتك الرائع المنخفض"، وكان يندهش، ثم فجأةً بدأ يخفض صوته.

عادت أُمي من المُستشفى لتجدني أُصلي، ووجدت أخي قد كفَّ عن ارتفاع الصوت.

رأيتُ مرةً عمتي تتأمل صورة زفافها.. سألتها: "إنتِ زعلانة لإنك لم تنجبي؟"، قالت: "هي الخِلفة بيد مَن؟"، قلت: "بيد الله"، قالت في يقين: "الله لا يريد بي إلا خيراً؛ أنا لستُ منزعجةً".

بصراحةٍ كنتُ أشعر في بعض الأحيان إنها مفتقدةٌ لزوجها، لكنها ليست راضيةً بالرجوع إليه، رغم إلحاحه عليها بالعودة إليه.. لا أنسى يوم أن عاد إلى بيتنا، وجلس معها ومع أبي وأعمامي لإقناعها بالعودة إليه.. كان نادماً على الطلاق، قلتُ لها: "ارجعي له".. كانت تبكي في حُجرتها، طبطبتُ عليها.. قالت لي: "زوجته الجديدة رافضةٌ رجوعنا؛ لا أُريد أن أُضيّعه هو وأطفاله"، لكن زوجها كان مُصراً على إعادتها؛ سألته: "لماذا؟"، قال لي: "لا يوجد مثلها؛ كانت أهم من كل شيءٍ، لكن أنا كنتُ غبياً عندما طلَّقتها". أصرّت على عدم العودة. وكنتُ بجوارها عندما تلقت اتصالاً من زوجته الثانية صارخةً مُتوعدةً: "ابعدي عنه"، وردت عمتي برفق: "حاضر" وأغلقت الخط! قلتُ مُنفجراً: "لماذا لم تصرخي؟"، قالت بالدموع: "اعذرها؛ زوجةٌ خائفةٌ على زوجها". تدهورت الحالة النفسية لزوج عمتي حتى اُضطرت زوجته إلى الاتصال بعمتي ترجوها العودة إليه، واندهشتُ حين وافقت عمتي وعادت إليه، أعلم أنه يُحبها وأنها تُحبه؛ وعندما عادت إليه رُدت الحياةُ إلى نفسه، لكن المدهش هو أن كراهية زوجته لعمتي بدأت في الازدياد، مع تحريض أولادها ضد عمتي،

لكن عمتي كانت تصبر وتحتضنهم؛ فتعلقوا بها أكثر من أُمهم، ثم -وبعد فترةٍ- تعلقت بها زوجة زوجها!

كانت عمتي توصيه خيراً بها، وكانت تقول لها: "أنتِ الودود الولود، وأنا عاقر".

عمتي قصةٌ من الصبر والإنسانية المكتملة.. اليوم بعد أن توفاها الله فجأةً أقف على قبرها، وإلى جواري: زوجها الباكي وزوجته وأبناؤه الثلاثة، وأبي وأُمي وأخي، وأتذكر كلماتها.. (الرفق جوهرة).

 

أحبتي في الله.. ما ألطف الرفق؛ فهو من الرحمة، ومن العفو عن الناس، ومن خفض الجناح لهم، وهو نقيض الفظاظة وغِلظة القلب؛ يقول الله سبحانه وتعالى مُخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

 

وعن الرفق قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي علَى الرِّفْقِ ما لا يُعْطِي علَى العُنْفِ، وما لا يُعْطِي علَى ما سِواهُ]. وقال أيضاً: [إنَّهُ مَن أُعْطيَ حظَّهُ مِنَ الرِّفقِ، فقَدْ أُعْطيَ حظَّهُ من خيرِ الدُّنيا والآخِرةِ]. وقال كذلك: [مَن يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الخَيْر]. كما قال: [إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كلِّه]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ما أُعْطِيَ أهلُ بَيتِ الرِّفْقَ إلَّا نَفَعَهُمْ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللهَ إذا أرادَ بأهلِ بَيتٍ خَيرًا، أدخَلَ عليهم الرِّفْقَ].

 

يقول العلماء في معنى (الرفق جوهرة) إن الرفق ضد العُنف، وهو لين الجانب واللطف في أخذ الأمر بأحسن الوجوه وأيسرها، إنه تحكُّمٌ في هوى النفس ورغباتها، وحَملٌ لها على الصبرِ والتحمُّل والتجمُّل، وكفٌّ لها عن العُنف والتعجُّل، وكظمٌ عظيمٌ لما قد يلقَاه مِن تطاوُلٍ في قولٍ أو فعلٍ أو تعامل. إنه رأسُ الحكمة، ودليلُ كمالِ العقل، وقوّةُ الشخصية، والقدرةُ القادرة على ضبطِ التصرّفات والإرادات، واعتدالُ النظر، ومظهرٌ عجيبٌ من مظاهر الرُشد، وهو ثمرةٌ كُبرى من ثمار التديُّن الصحيح، فيه سلامةُ العِرض، وصفاءُ الصدر، وراحةُ البدن، واستجلابُ الفوائِد وجميلِ العوائد، ووسيلةُ التواصل والتوادّ وبلوغِ المراد.

ولا يكون (الرفق جوهرة) مع الإنسان فقط، بل إن شرعنا الحنيف يحثنا على الرفق بالحيوان بإطعامه وإرواء ظَمَئه، وعند ذبحه أيضاً، وعُدَّ ذلك من مظاهر الإحسان. بل ويمتد رفق الإنسان إلى الطيور والنباتات والجماد.

 

يقول الشاعر عن الرفق:

وزِنِ الكلامَ إذا نطقتَ

فإنَّما يُبدي العقولَ أو العيوبَ المَنطقُ

لا أُلفينَّك ثاويًا في غُربةٍ

إنَّ الغَريبَ بكلِّ سَهمٍ يُرشَقُ

لو سار ألفُ مُدجَّجٍ في حاجةٍ

لم يقضِها إلا الذي يترفَّقُ

وقال آخر:

تَرَفَّقْ فَإِنَّ الرِّفْقَ زَيْنٌ وَقَلَّمَا

يَنالُ الْفَتَى بِالْعُنْفِ ما كانَ طالِبَا

إِذَا لم يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَقْلٌ يَرُدُّهُ

إِلَى الْحِلْمِ لَم يَبْرَحْ مَدَى الدَّهْرِ عاتِبَا

وَإِنْ هُوَ لَمْ يَصْفَحْ عَنِ الْخِلِّ إِنْ هَفَا

أَقَامَ وَحِيداً أَوْ قَضَى الْعُمْرَ غَاضِبَا

 

أحبتي.. صدقت عمة راوي القصة -رحمها الله- عندما قالت: (الرفق جوهرة)، والجميل أنها أتبعت قولها بالعمل، وهذا درسٌ لنا جميعاً؛ فالأقوال سهلةٌ، إنما تكمن الصعوبة في أن نعمل بما نقول؛ فهذا أمرٌ يحتاج إلى درجةٍ عاليةٍ من الحلم وضبط النفس، ومع ذلك فهو ليس مُستحيلاً، مطلوبٌ فقط أن نُخلص نياتنا، ونأخذ بالأسباب؛ فنُلزم أنفسنا بالترفق دائماً، مُقتدين بهَدي رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم؛ فالرفق بالترفق، كما قال: [إِنَّما العلمُ بِالتَّعَلُّمِ، وإِنَّما الحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، ومَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ، ومَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ].

اللهم اجعلنا من عبادك المُترفقين، وأعنّا على ذلك، إنك على كل شيءٍ قدير.

https://bit.ly/3YbiaDp